شهادات ومذكرات

علي حسين: أسامة منزلجي.. الكتب ملاذنا في الحياة

في معرض القاهرة للكتاب توقفت عند جناح دار ممدوح عدوان، اسأل مدير الجناح الذي استقبلني بترحاب عن الجديد، وقبل ان تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثا، لمحت كتاب " العودة الى متوشالح " مسرحية برنادشو الشهيرة التي يناقش فيها نظرية التطور ومفهومه للدين، كنت قد قرأت المسرحية قبل ما يقارب الاربعين عاما بترجمة العراقي انيس زكي حسن، وقد ارفقها بالمقدمة الطويلة التي كتبها برنادشو وخصصت لها فصلا في كتابي " غوايات القراءة "، امتدت يدي للكتاب، قرات على غلاف " العودة الى متوشالح " اسم المترجم السوري اسامة منزلجي، مع اضافة عبارة تقول " معالجة مستقبلية لأسفار موس الخمسة " .اقتنيت الكتاب اكراما لاسم أسامة منزلجي. في الفندق وجدت نفسي مندمجاً مع مقدمة برنادشو المذهلة وترجمة منزلجي الرائعة، وتذكرت ان هذا المترجم البارع اغنى المكتبة العربية بعشرات الترجمات المتميزة، وكان له الفضل بتقديم اعمال هنري ميللر كاملة للقارئ العربي –صدرت عن دار المدى -، اضافة الى اعمال عبقري الرواية الامريكية فيليب روث، واضف لها روايات هرمان هسه وثلاثية إيريكا يونغ واعمال سالنجر، ومذكرات تنيسي ويليامز، وكتب ليف أولمان وغاتسبي العظيم، اكثر من مئة كتاب كانت حصة دار المدى فيها تجاوزت الستين كتابا، وقد اخبرني مسؤول النشر في المدى وهو يسمع بخبر وفاة اسامة منزلجي، ان الراحل ارسل قبل ايام كتاب مترجم، مما يدل على ان الراحل حتى اللحظة الاخيرة من حياته كان يترجم ويختار كتب جديدة ليقدمها للقارئ، ألم يقل يوما انه " يترجم في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل شهر وعلى مدار العام " .

شاء اسامة منزلجي أن يكتب سيرة حياته من خلال الكتب التي ترجمها الى العربية فهو يؤمن ان " ما من كتاب لا يترجم "، فالترجمة في نظره لا تقل اهمية عن التاليف فهي "عملٌ وتكريس وتفانٍ "، وإن على المترجم لكي يتقن عمله ان يحب ما يترجمه، فالكتب هي رسالة وهدف حضاري لتنوير الانسان 

المترجم المولود في مدينة اللاذقية السورية عام 1948، قضى معظم حياته يعيش في شقة مليئة باكداس من الكتب، وحيطان تزينت بصور لفرجينيا وولف واديث بياف وهنري ميللر وارسون ويلز، ويتوسطهم فيلسوف تدهور الحضارة الغربية أوزوالد شبينغلر، نادرا ما كان يترك منزله، قال في حوار نشرته صحيفة القدس العربي:" عندما يتصادف أن أخرج، فان مشواري لن يستغرق أكثر من بضع دقائق. لكنني هكذا كنتُ دائماً؛ أنا شخص غير اجتماعي، ولا أفهم ولا أرغب في اتباع الرسميات في العلاقات الاجتماعية. وأنا لستُ متحدثاً جيداً.، لذلك عندما يتصادف أنْ أكون في جلسة ما، أكون مُصغياً أكثر مني متكلّماً. كثرة الكلام ضجيج مزعج "، ويقول لزياد عبد الله :" أذكر أنّني كنتُ في صِغري منطوياً انطواءً أرى الآن بوضوح أنّه كان مَرَضياً، أساسه الخوف من الآخرين، لأنَّ الشرّ موجود (هناك). وكانت مجرد فكرة الخروج من المنزل ترعبني، وكان كابوساً حقيقياً صنعه أبواي" – جريدة الاخبار 2008 - .

ربما لم تكن مصادفة ان تكون آخر ترجماته التي صدرت عن المدى، كتاب النجمة النرويجية ليف اولمان " خيارات "، فقد كانت الخيارات جزء من حياة اسامة منزلجي، الطفل الذي عشق الانكليزية من خلال تقليب كتب اشقاءه الاكبر منه، سحرته اشكال الحروف الانكليزية : " كان فضولي يقتلني لفك رموز هذه الأحرف التي كانت تبدو كألغاز" . ما ان ينهي الدراسة الاعدادية حتى يقرر دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، خلافا لرغبة الاهل الذين كانوا يطمحون ان يختار كلية تؤهله لوظيفة تساعد العائلة، إلا ان الشاب الذي وقع في سحر هنري ميللر وجد في الترجمة حياته، وقرر ان يكرس لها سنين عمره، وعندما يسأله المقربين منه : لماذا لايؤلف كتابا ؟، يبتسم وهو يقول ان ما يقرأه من روايات وكتب ادبيه يجعله يقتنع بأنه :" لن يؤلف حرفاً ما دام هناك كتّاب على هذا القدر من الجنون والإبداع" وظل يرى ان هنري ميللر وهرمان هسه وفوكنر : " يقولون ما أريد قوله أفضل مما سأفعل" .

تبدأ رحلة الترجمة مع قصة قصيرة لفرجينيا وولف، ولم يكن يدري آنذاك ان ما فعله هو ترجمة. لذلك، لم ينشر القصّة القصيرة " بقيَت في درجي إلى أنْ اهترأَت!". بدايته الحقيقية كانت مع رواية هنري ميللر " ربيع اسود "، قال ان اختياره لهذا الكاتب كان اختيارا معقولا، فهنري ميللر كان بالنسبة له هو " المتمرد الصعلوك الذي أراد أنْ يُعيد تعريف كل شيء حسب ملاحظاته وتجربته في الحياة، أراد أنْ يُنهي الجملة التقليدية للتعبير عما يريد، والمفهوم التقليدي للعيب، أراد أنْ يستمد تجربته من التماس المباشر بالحياة وبالإنسان " .

يعتقد منزلجي ان مهمة المترجم أن يقدم كتب مختلفة في أسلوبها وأفكاره وطريقة عرضها، فمثل هذه الترجمات هي التي :" تجعل الناس ينتبهون ويلتفتون ويُبدون اهتماماً"

فالترجمة في عُرف اسامة منزلجي وسيلة للتعلم والتحضّر والتثقيف :" لا شيء يجعلك إنساناً سامياً أكثر من قراءة كتاب حسن التأليف والصياغة، واضح المعالم والمعاني، يجذب الاهتمام وتستمد منه أسرار الأعماق الإنسانية " . يقول انه عندما يضع اسمه على كتاب مترجم فانه لا يريد أن يقترن اسمه بكتاب غير جيد، فمسؤولية المترجم جذب اهتمام وانتباه القارئ، لكتب تهتم بالانسان وتبقى في الذاكرة، فما يهمه كمترجم هو ان يقدم للقارئ العربي الكتاب المهتمين بمصير الإنسان :" الكتّاب الذين يذهبون إلى الأسئلة الكبرى مباشرة، الذين لا يعترفون بالحواجز والموانع، الذين يسعون إلى الحرية الداخلية قبل الخارجية " .

يرحل اسامة منزلجي عن عمر 77 عاما وكانت امنيته :" أنْ تصبح الكتب تحت أنف كلّ عربي لينهمك بالقراءة، وأن تزال الحدود والحواجز الفكرية والأخلاقيّة التي تمنع تحقيق هذا الحلم". عاشق القراءة الذي مات في سريره تحيط به اكداس الكتب، كان قد أدرك منذ الصغر ان الكتب هي ملاذه في الحياة .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في المثقف اليوم