قضايا

هاني جرجس عيّاد: من النظرية إلى الممارسة

دور المعلّم في تحقيق التعليم الشامل داخل الصفوف الدامجة

يشكّل التعليم الشامل أحد أبرز التحوّلات التربوية في العقود الأخيرة، إذ لم يعد التعليم مجرّد عملية نقل للمعرفة، بل أصبح التزامًا أخلاقيًا واجتماعيًا يهدف إلى ضمان فرص التعلّم لجميع الأطفال دون استثناء، مهما اختلفت قدراتهم أو خلفياتهم أو ظروفهم. فالمدرسة الدامجة لم تعد مكانًا لتلقي الدروس فحسب، بل فضاءً يحتضن التنوع، ويحتفي بالاختلاف بوصفه مصدرًا للثراء الإنساني والتربوي.

غير أن نجاح هذا التحوّل لا يتحقق عبر السياسات والخطط وحدها، بل يتوقف على العامل البشري الأكثر تأثيرًا في الميدان: المعلّم. فهو الذي يترجم مبادئ الدمج إلى ممارسات واقعية داخل الصف، وهو الذي يخلق البيئة الصفية القادرة على احتضان جميع المتعلمين. ومن هنا تبرز أهمية التساؤل: كيف جعل المعلّم الدمج التربوي حقيقة ملموسة داخل الصفوف؟ وما المصادر التي تعينه على أداء هذا الدور الحيوي؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقود إلى بحثٍ أعمق في طبيعة الدور التربوي للمعلّم داخل الصفوف الدامجة، وفي سبل دعمه من قبل المدرسة والمشرفين التربويين، بما يضمن أن يتحول الدمج من شعارٍ إلى ممارسةٍ فعليّة تعكس جوهر التعليم الشامل القائم على الإنصاف والمشاركة.

التعليم الشامل بين المفهوم والتطبيق

يُعدّ التعليم الشامل رؤية تربوية تسعى إلى إتاحة فرص التعلّم لجميع الأطفال في بيئة واحدة، بحيث تُزال الحواجز التي تحول دون مشاركتهم الكاملة في الحياة المدرسية. فهو لا يقتصر على دمج الطلبة ذوي الإعاقة في المدارس العادية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تنظيم النظام التعليمي بحيث يستجيب لتنوّع المتعلمين واحتياجاتهم المختلفة.

في هذا الإطار، يُنظر إلى الصف الدامج باعتباره بيئة تعليمية يتفاعل فيها جميع المتعلمين بصورة متكافئة، حيث تتنوّع طرق التدريس ووسائل التقويم بما يضمن مشاركة فاعلة لكل طالب. ومع ذلك، فإن الفرق بين الدمج الشكلي والدمج الحقيقي ما يزال يمثل تحديًا جوهريًا؛ فالأول يقتصر على وجود التلاميذ المختلفين في المكان ذاته دون تفاعل حقيقي أو تكييف للمناهج، أما الثاني فيقوم على إعادة تصميم العملية التعليمية لتستجيب بمرونة لحاجات كل متعلم.

ويلعب اتجاه المعلّم نحو الدمج دورًا حاسمًا في هذه المعادلة، إذ لا يمكن تحقيق تعليم شامل من دون قناعة راسخة لدى المعلّم بأن كل طفل قادر على التعلّم إذا أُتيحت له الوسائل المناسبة. فالمعلّم المؤمن بقيمة التنوع يدرك أن الاختلاف ليس عبئًا، بل فرصة لبناء خبرات تعلم غنية ومتبادلة داخل الصف. وهنا تبدأ الممارسة الفعلية للتعليم الشامل، عندما يتحوّل المعلّم من ناقل للمعرفة إلى ميسّر للتعلّم، ومن مراقب للانضباط إلى قائد لبيئة تشاركية تحترم الاختلاف وتستثمره.

المعلّم صانع الدمج الحقيقي

يُعتبر المعلّم المحرك الرئيس لنجاح الصفوف الدامجة، فهو الذي يترجم سياسات التعليم الشامل إلى أفعال يومية داخل الصف. يكمن التحدي الأكبر في كيفية التعامل مع تنوع القدرات والاحتياجات الفردية للمتعلمين، وتكييف أساليب التعليم والتقييم بحيث يشعر كل طالب بالمشاركة والاعتراف بقدراته. هنا يظهر دور المعلّم ليس فقط كمرشد علمي، بل كمنظّم بيئة تعليمية داعمة وموجّه يسهّل التفاعل بين جميع المتعلمين ويحوّل الصف إلى فضاء يتكامل فيه التنوع مع التعلم الفعّال.

لكي يحقق المعلّم الدمج الحقيقي، يعتمد على مجموعة من الأساليب التعليمية التي تتيح لجميع المتعلمين فرصة المشاركة الفاعلة، مثل تنويع طرق الشرح والأنشطة التعليمية لتناسب مستويات وقدرات مختلفة، وتشجيع التعلم التعاوني حيث يعمل الطلاب معًا لتحقيق أهداف مشتركة، بالإضافة إلى إدراج أنشطة تفاعلية ووسائط تعليمية رقمية تتيح لكل طالب التعلم بطريقته الخاصة.

لا يقتصر نجاح هذه الاستراتيجيات على التخطيط وحده، بل يحتاج أيضًا إلى إدارة صفية مرنة، حيث يقوم المعلّم بموازنة الانضباط والتحفيز، مع تكييف التعليم وفق احتياجات كل طالب، واعتماد أساليب تقويم متعددة تعكس التقدم الفردي بدلاً من معيار موحد لكل المتعلمين. كما يسعى المعلّم إلى بناء مناخ صفّي داعم يشجع على احترام الاختلافات، وتقدير مهارات كل طالب، وتعزيز الثقة بالنفس، وتهيئة بيئة تشجع المشاركة والانخراط في التعلم الجماعي.

بهذه الطريقة يصبح المعلّم صانع الدمج الحقيقي، إذ يتحول الصف الدامج إلى مجتمع مصغر يعكس قيم التعليم الشامل ويحقق مبدأ الإنصاف والمساواة بين جميع المتعلمين، مما يجعل الدمج أكثر من مجرد سياسة تعليمية، بل ممارسة يومية حقيقية يمكن ملاحظتها وتقييم أثرها في نمو وتقدم كل طالب.

مصادر الدعم التي يستعين بها المعلّم

لا يتحقق الدمج الحقيقي داخل الصفوف الدامجة بمجرد وعي المعلّم أو مهارته الشخصية فقط، بل يحتاج أيضًا إلى مصادر دعم متعددة تساعده على مواجهة تحديات التنوع داخل الصف. من أهم هذه المصادر يأتي التدريب والتأهيل المستمر للمعلّمين، سواء من خلال الدورات المتخصصة في التربية الخاصة أو ورش العمل حول استراتيجيات التعليم الشامل وأساليب التدريس المتمايز. هذا التدريب لا يزود المعلّم بالمعرفة فحسب، بل يمنحه الثقة والقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة والمتنوعة في الصف.

إلى جانب التدريب، يلجأ المعلّم إلى التعاون مع فريق الدعم المدرسي الذي قد يشمل أخصائيي التربية الخاصة، والمستشارين النفسيين، ومرشدي الصف، وحتى أولياء الأمور. يوفر هذا التعاون رؤية شاملة لكل متعلم، ويساعد على تصميم أنشطة تعليمية مناسبة، وحل المشكلات الصفية بشكل جماعي، كما يسهّل رصد تقدم الطلاب وتعديل الخطط التعليمية بما يلبي احتياجاتهم الفردية.

أصبح الاعتماد على التقنيات التعليمية والوسائل المساعدة جزءًا لا يتجزأ من دعم المعلّم، سواء تمثّل ذلك في أدوات تكنولوجية لتسهيل التعلم، أو تطبيقات رقمية تتيح للطلاب التفاعل مع المحتوى بطرق متنوعة، أو موارد تعليمية مرئية وصوتية تُسهم في تبسيط المعلومات وتقديمها بأسلوب جذّاب وفعّال. إنّ توظيف هذه الوسائل يجعل المعلّم أكثر قدرة على تحويل الصف الدامج إلى بيئة تعليمية فعّالة تستجيب لتنوّع الطلاب وتعزّز مشاركتهم ونجاحهم.

دور المدرسة والمشرفين التربويين في دعم الدمج

لا يقتصر نجاح التعليم الشامل على جهود المعلّم وحده، بل يعتمد بشكل كبير على البيئة المدرسية والإشراف التربوي الذي يحيط به. فالمدرسة تمثل الإطار المؤسسي الذي يوفّر الموارد، ويهيّئ المناخ المناسب لتحقيق الدمج، من خلال دعم القيادات المدرسية للتعلّم التعاوني بين المعلّمين، وتوفير الأدوات والوسائل التعليمية اللازمة، وتنظيم برامج وأنشطة تشجع على المشاركة لجميع الطلاب دون استثناء. وجود ثقافة مدرسية تشجع على التعاون والاحترام المتبادل بين أعضاء الفريق التعليمي يعزز من قدرة المعلّم على تطبيق ممارسات إدماجية فعّالة.

كما يلعب المشرف التربوي دورًا محوريًا في تمكين المعلّم من أداء مهمته على أفضل نحو، من خلال المتابعة الميدانية، وتقديم التوجيهات المهنية، ومساعدة المعلّم على تطوير استراتيجيات التدريس والتقويم، بما يتوافق مع مبادئ التعليم الشامل. إضافة إلى ذلك، يوفّر المشرف الدعم المعنوي، ويشجع على تبادل الخبرات بين المعلّمين، ويعمل على رصد النجاحات والتحديات داخل الصفوف الدامجة، مما يخلق شبكة دعم متكاملة تعزز من فرص نجاح كل متعلم.

بهذا التعاون بين المعلّم، والمدرسة، والمشرفين التربويين، يتحوّل الدمج من مجرد مفهوم نظري إلى ممارسة حقيقية يمكن ملاحظتها داخل الصف، بحيث تصبح كل خطوة تعليمية مدروسة ومصممة لتعظيم استفادة جميع الطلاب، وتحقيق المساواة التعليمية والإنصاف التربوي.

***

المعلّم هو قلب العملية التعليمية داخل الصفوف الدامجة، ونجاح الدمج يعتمد على قدرته على تحويل التنوّع إلى فرصة للتعلّم المشترك، وليس فقط على تطبيق استراتيجيات محددة. المدرسة والمشرفون التربويون يوفّرون البيئة والدعم، لكن الدمج الحقيقي يبدأ عندما يصبح المعلّم قائدًا للتجربة الصفية، يبني مناخًا يقدّر الاختلاف ويعزز مشاركة الجميع، ويحوّل كل درس إلى فرصة لتطوير مهارات الطلاب وتحقيق شعورهم بالانتماء والإنجاز. هذه البيئة التفاعلية والدامجة لا تعكس فقط نجاحًا أكاديميًا، بل تعكس فهمًا حقيقيًا لقيمة كل طالب، وتجعل من التعليم الشامل ممارسة ملموسة تنبض بالحياة داخل الصفوف، وتؤكد أن الدمج ليس مجرد فكرة نظرية، بل تجربة يومية ملموسة يحققها المعلّم بتفاعله ووعيه وإبداعه.

لكي يصبح الدمج حقيقة يومية، يحتاج المعلّم إلى فهم طبيعة اختلاف الطلاب وتنوّع احتياجاتهم داخل الصف. فهناك من الطلاب يختلف في قدراته الأكاديمية ومستوى فهمه ومعالجة المعلومات، ويحتاج هؤلاء إلى تكييف أساليب التدريس واستخدام التعليم المتمايز. وهناك طلاب يعانون من احتياجات خاصة مثل صعوبات التعلم أو إعاقات جسدية أو حسية، فيتعين على المعلّم توفير وسائل مساعدة، وتعديل الأنشطة، وتقديم دعم فردي لهم. كما يختلف الطلاب في خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، من لغات وعادات وتقاليد، ويتطلب الأمر من المعلّم تعزيز الانتماء واحترام التنوع ودمج الثقافات داخل الصف. أما الفروق النفسية والعاطفية، مثل الشخصيات المختلفة ومستوى الثقة بالنفس والدوافع، فتستدعي من المعلّم بناء مناخ داعم، وتشجيع المشاركة، وتحفيز الطلاب بطرق متنوعة. وأخيرًا، تختلف اهتمامات وميول الطلاب، ما يحتم على المعلّم تنويع الأنشطة لتلبية هذه الاهتمامات وجعل التعلم أكثر جذبًا وفاعلية لكل طالب.

***

الأستاذ الدكتور هاني جرجس عيّاد

 أستاذ علم الاجتماع - كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – الجامعة الإسلاميّة في منيسوتا- الولايات المتحدة الأمريكيّة

في المثقف اليوم