أقلام فكرية
علي عمرون: جدلية الوعي واللاشعور في تشكيل إدراك الذات والعالم الخارجي
طرح المشكلة: تشكل مسألة الإدراك وعلاقته بالوعي واللاشعور، إشكالية فلسفية ونفسية مركزية، تعود إلى الجذور الأولى للتفكير الفلسفي وتمتد الى عصرنا هذا. فمنذ الفلسفة القديمة، اعتُبر الوعي أساس كل العمليات الفكرية والمحدد لمدركاتنا في العالم الخارجي ولأنفسنا. لكن في المقابل، تلف الغموض بعض سلوكاتنا وتصرفاتنا أثناء حالات الخوف والانفعال والقلق، وفي بعض المواقف لا يمكن تفسير الاحكام والأفعال الصادرة عنا، كما في حالات اليقظة ولحظات الأحلام المرتبطة بالنوم. هذه المفارقة تثير جدلاً بين الموقف الكلاسيكي الذي يؤكد مركزية الوعي في عملية الإدراك، والموقف التحليلي النفسي الذي يكشف عن الدور الحاسم للاشعور. هذا التناقض يثير ولا شك تساؤلاً جوهرياً:
هل حقاً يمكن رد مدركاتنا الى فاعلية الشعور فحسب، أم أنه لا يمكن فهم العملية الادراكية إلا بردها إلى اللاشعور؟
وهل إدراكنا للعالم الخارجي وأنفسنا انعكاس للوعي، أم هو بناء نفسي تخترقه عوامل لا واعية؟
الأطروحة الأولى: الوعي كمصدر أساسي للإدراك (المذهب الظاهراتي والاتجاه الكلاسيكي)
يؤكد أنصار هذه الأطروحة، وهم أصحاب التفسير الكلاسيكي للحياة النفسية وكذا المذهب الظواهري، أن الحياة النفسية قائمة على فاعلية الوعي الذي يحدد ادراكنا لأنفسنا وللعالم الخارجي، وينطلق هذا الموقف من عدة مبادئ: ففي التقليد الفلسفي الكلاسيكي، عند ديكارت، إدراك العالم الخارجي يمر عبر الشك المنهجي واليقين العقلي. فالحكم على الأشياء في العالم الخارجي قد يكون خداعاً، لكن عملية التفكير في هذا الاحتمال هي وعي يقيني. ذلك ان الإدراك الحسي يحتاج إلى تأكيد عقلي: "أنا أرى الشمع، لكن ما يدركه عقلي من طبيعة الشمع أهم مما تدركه حواسي". ويؤكد ديكارت - مؤسس العقلانية - مركزية الوعي الذي تتجلى قيمته في سيادة الذات المفكرة بما تمتلكه من حرية اختيار وانفراد بالمسؤولية قائلا: "تستطيع الروح تأمل أفكارها كلما أرادت ومن ثمة الشعور بكل واحدة منها". وهذا ما توضحه قاعدة "أنا أفكر إذن أنا موجود" حيث يتم اثبات الوجود عبر الشعور بالتفكير الذي لا ينقطع إلا بانقطاع الوجود.
ويتطور هذا الموقف مع كانط الذي في فلسفته أكد ان إدراك العالم الخارجي ينظمه وعي قبلي عبر مقولات الزمان والمكان والسببية. هذه المقولات ليست لا شعورية، بل هي شروط إمكانية كل تجربة واعية. العالم كما ندركه هو بناء واعي ينظم الظواهر الحسية.
ويرى هوسرل أنه لفهم جوهر الإدراك، يجب تعليق الأحكام المسبقة والافتراضات الطبيعية عن العالم، والرجوع إلى "الأشياء ذاتها" كما تظهر للوعي الخالص. قائلا:" الوعي دائمًا وعي بشيء" فهو موجه نحو الموضوعات الخارجية. مما يعني أن العلاقة بين الذات والعالم علاقة واعية وقصدية. وعند ميرلوبونتي، إدراك العالم يتم عبر "الجسد الحي" الذي هو وعي مجسد. الجسد ليس موضوعاً بين المواضيع، بل هو وسيط واعي لإدراك العالم. "الجسد هو نقطة الارتكاز التي منها أستطيع إدراك العالم". وعند سارتر، الذي أسس تحليله الوجودي على فكرة الوعي، فإن "السلوك يجري دائما في مجرى الشعور". ذلك ان ميزة الإنسان هي الوعي وهو ضروري لممارسة الحرية وتحمل المسؤولية في بناء المشروع المستقبلي.
كما يمكن العودة أيضا في هذا الموقف الى مالبرانش الذي كتب: "الشعور يكسب صاحبه فضلية النظام ويبلغ به مقام الاكتمال". ويؤكد مين دوبيران أنه يستحيل أن يكون للإنسان وجود بدون الشعور. حتى في فلسفة ابن سينا، الإنسان قد يتجرد من جسده كما في الأحلام، ولكن محال أن يتجرد من شعوره.
الأطروحة الثانية: اللاشعور كمحرك خفي للإدراك (التحليل النفسي)
تقف هذه الأطروحة على النقيض من السابقة، مؤكدة أن إدراكنا محكوم بعوامل لا شعورية، وأن التفسير الكلاسيكي للحياة النفسية القائم على الشعور فقط غير مقبول يمكن الارتكاز هنا على:
1. ثورة التحليل النفسي والبراهين التجريبية: عند فرويد، نُسقط على العالم الخارجي رغباتنا المكبوتة. ما نراه في الآخرين قد يكون انعكاساً لرغباتنا اللاشعورية. فالواقع كما ندركه هو "واقع نفسي" مشكل بالرغبات المكبوتة. مثالا: من يكبت عدوانيته قد يرى العالم مكاناً عدائياً بشكل مبالغ في، ومع فرويد، تم قلب الصورة التقليدية عن الوعي، حيث أصبح اللاشعور هو الأساس الحقيقي للحياة النفسية. استند فرويد في تبرير أطروحته إلى حجج متعددة منها: الأفكار التي لا نعرف مصدرها كالحب والكره من أول نظرة، زلات القلم وفلتات اللسان، إضاعة الأشياء، النسيان المؤقت، والأحلام. يقول فرويد: "فرضية اللاشعور لازمة ومشروعة".
2. التشويه المرضي وآليات الدفاع: كشفت تجارب التنويم المغناطيسي للطبيب شاركو (الذي التقى به فرويد سنة 1885) عن جانب خفي لا شعوري يؤثر في أفعال الإنسان، خاصة في السلوكيات المرضية كالهستيريا. عند علاج المريضة آنا أو (بيرثا بابنهايم) التي كانت تعاني من أعراض عصابية، لاحظ بروير أن "كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض العصابية وجب علينا أن نستنتج لدى المريض بعض النشاطات اللاشعورية".
3. البنية النفسية والطاقة الغريزية: قسم فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاثة أقسام (الأنا، الهو، الأنا الأعلى) وقال: "يستمد الأنا طاقته من الهو، وقيوده من الأنا الأعلى وعقباته من العالم الخارجي". أكد دور الليبيدو المحوري في الحياة النفسية وتشكيل ادراكنا للعالم الخارجي.
4. المعالجة المسبقة اللاواعية للمعلومات الحسية: تظهر دراسات علم الأعصاب أن 90% من المعالجة البصرية تتم قبل أن تصل إلى الوعي. العين تستقبل 10 ملايين بت في الثانية، لكن الوعي يستقبل فقط 40-50 بت. الباقي يُعالج لا شعورياً.
5. التأثير اللاشعوري للإشارات الخفية: دراسات بارغ تظهر أن إشارات خفية (سابقة إدراكية) تغير إدراكنا وسلوكنا دون وعي. مثال: عرض صور مرتبطة بالشيخوخة يجعل الناس يمشون ببطء أكبر دون أن يدركوا السبب.
6. الذاكرة وإعادة بناء الأحداث: إدراكنا للحوادث الماضية ليس تسجيلاً أميناً، بل إعادة بناء تحت تأثير الحالة النفسية الحالية والتوقعات الاجتماعية. دراسة لوفتس تظهر كيف يمكن زراعة ذكريات كاذبة عبر إيحاءات لا شعورية.
التوليف: تجاوز الثنائية والتكامل البنيوي
يقدم بياجي حلاً توفيقياً: "ليست الحوادث النفسية شعورية فحسب بل الحياة النفسية تكامل بين الشعور واللاشعور". فالحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ما هو شعوري بما هو لاشعوري. الوعي يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها.
وذلك من خلال تأثير ارادتنا الواعية و البعد الاجتماعي والثقافي حيث يؤكد علم النفس الاجتماعي أن اللاوعي ليس فردياً فقط، بل هو جماعي أيضاً. فالأيديولوجيا والثقافة تشكلان إدراكنا دون أن نكون واعين بذلك. كما يظهر الوعي في علم النفس الجشطالتي، حيث تعمل قوانين التنظيم الإدراكي (التشابه، القرب، الاستمرارية) على مستوى واعي يمكن ملاحظته وتحليله ويؤكد أنطونيو داماسيو أن المشاعر اللاواعية توجه انتباهنا الواعي وتؤثر في قراراتنا الإدراكية.
حل المشكلة
كتخريج عام يمكن القول أن العالم كما ندركه هو "عالم مشترك البناء" بين الوعي واللاشعور. الوعي يمنحنا الإحساس بالاتصال المباشر مع الواقع والقدرة على التفكير النقدي في إدراكنا، بينما اللاشعور يوفر السرعة والكفاءة في المعالجة الأولى ويكشف عن تأثيرات تاريخنا النفسي والثقافي.
إن إدراكنا للعالم ولأنفسنا هو نتاج معقد لتفاعل ديناميكي بين الوعي واللاوعي. فإذا كان الوعي يمنحنا الإمكانية للقصدية والتفكير التأملي والحرية المسؤولة، فإن اللاشعور يظل يشكل الخلفية الخفية لهذا الوعي وحدوده. من خلال هذا التحليل الجدلي، نصل إلى حل المشكلة المطروحة: الإدراك الإنساني هو عملية مركبة حيث يتجادل ما نعرفه عن أنفسنا مع ما نجهله فيها، وما نراه في العالم مع ما نتحاشى رؤيته. الحكمة تكمن في الاعتراف بأننا ندرك العالم ليس فقط عبر ما نعيه، ولكن أيضاً عبر ما نخفيه عن أنفسنا، وأن المعرفة الحقة تتطلب جهداً مستمراً لكشف هذه الطبقات المتداخلة من الشعور واللاشعور.
***
عمرون علي - أستاذ مادة الفلسفة






