قضايا

حاتم حميد محسن: الشيخوخة والتقاعد كحالة من الاغتراب الوجودي

ماذا ينتظرنا في نهاية حياتنا العملية؟ الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار(1908-1986) ترى ان التقاعد أقل من مكافأة وأكثر من تمزق وجودي. هذا الحدث يجعل العالم ينظر الينا بشكل مختلف، وهو حدث له القدرة على عزلنا عن أنفسنا. "هناك فقط حل واحد هو ان لا تكون الشيخوخة محاكاة ساخرة وسخيفة لحياتنا السابقة، والاستمرار في السعي نحو غايات تعطي لوجودنا معنى". المجتمعات الرأسمالية الغربية تميل لإعطاء قيمة لإنتاجية الفرد، وتشجيع العمل الرخيص والنزعة التكنلوجية للشباب المواطنين. عندما لم يعد شخص ما مناسبا او انه يختار الخروج من الماكنة الاقتصادية المعاصرة، فهو يكون أقل ربحية ومن ثم أقل فائدة وبالتالي أقل ملائمة. ادفع بهم الى الهامش، مساهماتهم للعالم قد انتهت.

ان الأزمة التي يعيشها بعض الناس عند التقاعد هي جزء من تهميش شامل يفرضه المجتمع على كبار السن حسبما ترى سيمون بوفوار. لا أحد يريد ان يوصف كـ "عجوز"، هي تكتب: "المجتمع ينظر الى كبار السن كنوع من سر مخجل لا يليق ذكره. خلافا للموت الذي يمكن ان يأتي في أية لحظة، ترى بوفوار ان "العمر ازيل عنا بمدى زمني كبير جدا لدرجة انه يتحد مع الأبدية، هذا المستقبل البعيد يبدو غير واقعي".

في الحقيقة، الموت هو مرادف للعدمية، انه يشكل القليل من التهديد لهويتنا قياسا بما يفعل التقدم في السن. هذه العدمية يمكن ان تؤدي الى دوار ميتافيزيقي، لكن بطريقة مريحة -انها لا تثير مشاكل. "انا لم اعد موجودا". في اختفاء من هذا النوع انا احتفظ بهويتي. عندما افكر في نفسي كشخص طاعن في السن وانا في عمر 20 او 40 سنة سأرى نفسي كشخص آخر، غير ذاتي.

وبهذا، "تبدو الشيخوخة كأنها كارثة": انها عمر يتناقض مع الحياة، وليس الموت، عمر يتم التعامل معه كمحاكاة ساخرة للحياة. ومن منظور المجتمع، ينال الكبير في السن هدوء الحكماء ذوي الوجوه المجعدة، يتم تبجيله كروح متعالية بين الحياة والموت، او كما في الحالات الأكثر شيوعا، يُحال الى منزلة المسنين الحمقى. ومهما كانت الطريقة، هو يقف بعيدا عن الإنسانية، جرى تصنيفه كنوع آخر. تقدم بوفوار هذا التحليل في عملها عام 1970 (التحول من الطفولة الى مرحلة البلوغ) The coming of age. هي تدرس اضطهاد كبار السن بنفس الطريقة الصارمة التي تقيّم بها موقف المرأة في كتابها الشهير (الجنس الثاني،1949) The second sex.

الشيء الغريب حول موقف المجتمع من كبار السن هو التضحية بالرغبات لأجل هدف اكبر. "مت مبكرا او تقدّم في السن، لا خيار آخر". لكن هذا هو حال إقصائنا لكبار السن. نحن نتبنّى هذا الإقصاء حتى نصل الى النقطة التي يتم تحويله ضد أنفسنا: لأننا في عمر الشيخوخة الذي يجب ان نعيشه، نرفض الاعتراف بأنفسنا. رفْضنا المخيف للشيخوخة هو تعبير عما تسمّيه بوفوار وغيرها من الوجوديين بـ "خداع الذات" bad faith او رفض مواجهة الحقائق. خداع الذات بالضرورة يعني خداع أنفسنا حول حياتنا الخاصة، وهناك طريقتين رئيسيتين للقيام بهذا.

أولا، نحن ننكر حقيقة حياتنا المسلّم بها سلفا: منْ نحن، من أين جئنا، ما هو الواقعي بالنسبة لنا، وهكذا.

ثانيا، نحن ننكر "حرية" حياتنا: ما هو الشيء الذي نحن قادرين على عمله، وما الهوية التي نقبل ان نكون فيها، والإمكانات التي يمكننا بلوغها. نحن نعيش توتر بين واقع مفروض لا يمكن تغييره facticity والحرية، ولكي نحل هذا التوتر نحن في الغالب ننكر أحد الجانبين: ننكر منْ نحن (واقع مفروض)، او ننكر ما يمكننا ان نكون عليه (حرية).

ان إنكار بداية الشيخوخة هو إنكار واقع مفروض او شكل من خداع الذات. عندما يتم التعامل مع كبار السن كأنواع غرباء، من خلال فصل "كبار السن" كشيء لا يحدث الاّ للآخرين، فان الذين لم يبلغوا السن القانونية ينزلقون نحو نوع سخيف من الخداع واللاأصالة نحو حياتهم الخاصة. هذا النوع من خداع الذات يمكن ان يستمر لعقود حتى يأتي اليوم الذي يجبرنا فيه العالم لمواجهته. ربما سقوط، مرض، او ببساطة قد يتم استقبالك في المرآة بوجه متجعد.

بوفوار تتذكر صدمتها عندما اكتسحها مرور الزمن بشكل غير متوقع: انا أتذكر ذهولي عندما كنت مريضة جدا لأول مرة في حياتي وقلت لنفسي "هذه المرأة التي يحملونها على ثقالة هي انا". لكنها ليست فقط صدمة جسدية، المواجهة الأكثر شراسة مع الشيخوخة تأتي عند التقاعد. التقاعد ينقل الشخص المنتج الى متقاعد بين يوم وليلة. شكرا لخدماتك، يقول الاقتصاد، الان افتح الطريق للناس الجدد. رجاءً تذكّر انك الان شخص كبير السن، لقد بلغت مرحلة عالية من النمو الفردي. ربما انت تتجه الان نحو البستنة.. المتقاعدون في الرأسمالية يجب ان يكافحوا ضد أسئلة يمكن ان تقود الى ازمة ثقة. اذا كنت عامل ولم تعد تعمل، اذن ما القيمة، ما الهدف الذي تمتلكه حياتك الان؟ الماضي هو جامد والمستقبل يبدو محدودا، ماذا بعد الانحدار الآن؟ هل اتجه نحو كومة من السكراب؟ هل "الشخص المسن" هو كل ما استطيع ان أكون عليه الان؟. بعد مرحلة من خداع الذات في انكار الواقع المفروض وإبعاد واقع الشيخوخة، يواجه المتقاعد الان التمييز على أساس السن الذي ينتجه خداع الذات.

اذا نُظر الى "المسن" كمرادف لنوع من التدهور والانحدار، عندئذ فان الظروف ناضجة لكبار السن للنظر الى انفسهم بهذه الطريقة أيضا. هم ينزلقون الى شكل من خداع الذات وانكار الحرية، واضعين حدودا على ما سيكونون عليه من هوية وماذا سيكونون. "انا" كبير جدا لكي ارتدي هذا، لكي اسافر الى هناك، او أحاول ذلك". وكما تكتب بوفوار:

اذا كان كبار السن يبيّنون نفس الرغبات، نفس المشاعر ونفس المتطلبات كالشباب، فان العالم ينظر اليهم باشمئزاز: الحب والغيرة يبدوان مقززين او سخيفين، الجنس بغيضا والعنف مثيرا للضحك.

لهذا فان إنكار الواقع المفروض لمنْ هم ليسوا كبارا في السن الان (في متوسط العمر) يقود الى خداع الذات وانكار الحرية لمن هم كبار سلفا. وبما انهم غرباء بواسطة المجتمع، سيصبح كبار السن في خطر ان يكونوا غرباء عن أنفسهم. اذن ما هو الحل؟ كيف يمكننا تحرير انفسنا من خداع الذات بشأن العمل والتقاعد والشيخوخة؟

تعلن بوفوار عندما ترتبط قيمتنا للكائن البشري بإحكام مع مكانتنا كعمال، لا غرابة ان يواجه كبار السن غير العاملين العزلة والوحدة والشك الذاتي.

حياتنا العملية تقدم الوهم باننا الى الابد نعمل نحو شيء ما: هناك وجهة مجيدة تنتظرنا. معالم تقليدية مثل الزواج، القرض السكني، تربية أطفال، تعزز هذا المنحنى من السرد الكبير. لكن فيما بعد يأتي التقاعد بتلميح وقح وهو ان كل هذا بلا فائدة. الماكنة تستمر في الدوران، تتخلص من الأجزاء القديمة وتلقي بها على جانب الطريق. وكما تذكر بوفوار:

في كل مرة يكتشف انسان انه لم يعد يذهب الى أي مكان، ان مساره يقوده فقط الى القبر. هو تسلّق الى القمة، ومن القمة سيكون هناك سقوط. يقول الشاعر الايرلندي Yeats" ان الحياة استعداد طويل لشيء لم يحدث ابدا". ستأتي لحظة عندما يعرف المرء انه لم يعد مستعدا لأي شيء ويدرك ان فكرة التقدم نحو هدف ما كانت وهماً. تاريخنا الشخصي افترض انه امتلك هدفا، والان يجد وبلا ادنى شك، ان هذا الهدف اُخذ منه. وبينما يكون هذا الادراك عادة مقلق ومدمر، تؤمن بافوار انه في الظروف الصحيحة يمكن ان يكون محفزا للمرح والأصالة على المدى الطويل. كبير السن يمتلك عدد من الإيجابيات المجهولة دائما. في الحقيقة، حتى مع خلفية التمييز على أساس السن، مع ذلك، يعيش البعض مرحلة التقاعد كتحرر كبير. لم يعد يتوجب على كبار السن التصرف بطرق لأجل تسلق السلم المهني، وتحسين سمعتهم مع جماعة معينة او إضافة المزيد من النقود لصندوقهم التقاعدي.

هذه الإزالة للأصنام والاوهام هي الأكثر صدقا وقيمة من كل المساهمات التي جلبها العمر. احدى الطرق لمقاومة خداع الذات حول الشيخوخة هي إعادة فحص ما يفتح الطريق لها. نعم، العمل انتهى، لكن العمل ليس الشيء الوحيد الذي نقدمه. الفيلسوف اليوناني ارسطو جادل بان التسلية وليس العمل هو ما نجد فيه أحسن تعبير عن تميّزنا الإنساني.

بدلا من أزمة الهوية، يمكن النظر الى التقاعد كشكل من اشكال التخرج الى طريقة للحياة والى أصالة للحياة. الناس يمكنهم التركيز على الأنشطة التي يجدونها مثيرة ومحفزة حقا: حياة العائلة والجد، بناء جماعات، تطوير مهارات جديدة، تعلّم أشياء لم يكن لدينا ابدا وقت لتعلّمها..

بكلمة أخرى: تنمية الصفات التي تجعلنا أناسا. "هناك فقط حل واحد للشيخوخة هو ان لا تكون محاكاة ساخرة و سخيفة للحياة السابقة"، والاستمرار في متابعة الأهداف التي تعطي معنى لوجودنا والتفاني للأفراد والجماعات وخلق عمل فكري او اجتماعي او سياسي خلاّق.

لهذا، الاستعداد للتقاعد ليس فقط حالة من تأمين اننا نمتلك نقودا كافية، او مكان للعيش وبعض الهوايات للتسلية. نحن أيضا نمتلك معنى الالتزام والسعي والخطط التي تستمر معنا الى نهاية حياتنا. نحن يجب ان نسأل انفسنا باستمرار ماذا نريد من الحياة، ليس فقط في نهاية عملنا المهني ، ونكافح لبناء حياتنا حول ذلك السؤال قبل وقت طويل من توقفنا عن العمل لأجل النقود.

بالنسبة للعديد من الناس، هذا ربما غير واقعي. في ثقافة تعرّف مواطنيها من خلال العمل، ربما من المستحيل تجسيد او استطلاع أي شيء آخر. ليس كل شخص لديه الرغبة في اكتشاف وتطوير شغفه. ربما يريد احد فقط إبقاء رأسه فوق الماء من راتب الى راتب، او يكون جزءا من صناعة تثبيط الحماس لمتابعة أي شيء عدى الوظيفة، او امتلاك عائلة يهتم بها. عند التقاعد كل ما يرونه حولهم هو أراضي قاحلة.

طبقا لبوفوار كل ما في المجتمع من فشل يصب في الوحدة والنفي لهؤلاء الناس. كتابها (التحول من الطفولة الى البلوغ) صيحة انذار لتحوّل المجتمع بطريقة لا يتم التخلص فيها من كبار السن او عزلهم بواسطة الماكنة الاقتصادية، وانما امتلاك مكان ذي قيمة في الحياة اليومية، طريقة للتعبير عن مشاعرهم الداخلية، وسائل للمشاركة في عمق ولون تجربتهم المعاشة، والاحتفال بإنسانيتهم التامة والمستمرة.

الناس الشباب يجب ان يعترفوا ان الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع الكبار ستكون هي ما يعاملهم به العالم أيضا. لا يمكننا نزع الإنسانية عن الأشخاص الذين من المقدر لنا ان نصبح كما هم: نحن يجب ان نتوقف عن الخداع: المعنى الكامل لحياتنا هو موضع تساؤل في المستقبل الذي ينتظرنا. اذا كنا لا نعرف ماذا سنكون عليه، لا نستطيع ان نعرف ماذا نحن: دعونا نميز انفسنا في هذا الرجل المسن او في تلك المرأة المسنة.. تجسيد سنوات الحكمة والنضج هو اسهل في القول من الفعل في مجتمع منغمس بقيمة الشباب، لكنه شكل حيوي للمقاومة ضد ثقافة خداع الذات حول العمل والتقاعد والشيخوخة.

التغيرات المادية والتحديات ستأتي مع العمر لكنها لا تحتاج لتترافق مع غربة وجودية واجتماعية. فقط لأن حياتنا ليس لها وجهة جيدة في نهاية المطاف لا يعني انها لا تستطيع ان تُملأ بمختلف المشاريع التي تضيف قيمة للعالم، حسب بوفوار:

أعظم ثروة جيدة، وحتى أعظم من الصحة، بالنسبة لكبار السن هو ان يمتلكوا عالمهم الذي لايزال مسكونا بالمشاريع: مشغول ومفيد، هم يهربون من الضجر والتآكل. الوقت الذي يعيشون فيه يبقى ملكهم وهم مجبرون بتبنّي أشكال دفاعية من السلوك الذي غالبا ما يكون من سمات السنوات الأخيرة. شيخوختهم تمر كما كانت دون ان تُلاحظ... في الحقيقة، بالنظر للظروف الصحيحة والحياة المملوءة بالسعي الهادف والعلاقات، يستطيع كبار السن ان يكونوا أسعد واكثر أصالة. لكن بوفوار تعترف، اذا كانت تجربة المرء لا تتماشى جيدا مع هذا، فهي أبعد من الفشل الشخصي. هناك فرصة ضئيلة للاحترام والتقدير في سن الشيخوخة اذا لم يكن هناك احترام في العمل الذي يجب ان يقوم به الناس للوصول الى هناك: لكي يتم ذلك يجب ان يلتزم كبير السن في أواسط عمره بمباشرة تعهدات تضع وقته امام التحدي: في مجتمع الاستغلال هذا تُرفض هذه الامكانية من جانب الأغلبية الكبرى في المجتمع.

تحرير أنفسنا بالكامل من خداع الذات حول الشيخوخة سوف يتطلب ثورة كبيرة في نظامنا الاقتصادي الحالي. ثقافات أخرى طوال التاريخ مجّدت واحترمت تجربة الحياة وحكمة كبار السن، منحتهم أماكن ذات قيمة وادوارا في المجتمع. في المجتمع الغربي المعاصر، طالما نحن نحكم على قيمة الفرد طبقا لانتاجيته وربحيته، طالما نحن نعامل الناس كوحدات اقتصادية يتم عصرها والتخلص منها، ستستمر الشيخوخة تثير الخوف والاحتقار، والذين يعيشونها سيواجهون تحديات أبعد من التدهور الجسدي. 

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم