قضايا

حاتم حميد محسن: ألسدير ماكنتاير يترجل تاركاً خلفه ضجيج العالم

في عام 1981 قام الفيلسوف الاسكتلندي الامريكي ألسدير ماكنتاير بتمزيق العمل الذي كتبه آنذاك حول الاخلاق، وأنتج بدلا عنه ما اصبح يُعرف بكتاب (بعد الفضيلة). في هذا الكتاب، هو في الحقيقة جرّد الفلسفة الاخلاقية الحالية، والاخلاق الحالية ذاتها، معبّرا عن امتعاضه بان الاخلاق قُطعت من جذورها التقليدية، ولم تعد متماسكة"بفضل مشروع التنوير".

الاخلاق لم تعد مرتكزة على الفكرة الأرسطية بان للانسان هدف ووظيفة، ولم تقدم تفسيرا لكيفية تحقيق هذا، انها فصلت القيم عن الحقائق. يقول ماكنتاير رغم ان تسمية الفرد الذي يمارس الفعل بـ "الجيد" او "السيء" تلجأ لـ "للمعيار الموضوعي وغير الشخصي"، لكن لا شيء منه متوفر هناك . كما انه وبخ سابقا في كتابه (ضد صور العصر الذاتية، 1971)، المسيحية، الماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت في توفير ايديولوجية أخلاقية كافية.

واصفا نفسه كـ "أرسطي ثوري"، هو كان ايضا متحمسا لأخلاق توما الاكويني المناصر لأرسطو. (باتجاه القرن الثالث عشر) كان الشعار المنسوب له بشيء من السخرية . لكن عبر إحياء نوع من الاخلاق التي تعرّف "الخير" بازدهار الانسان، سعى ماكنتاير ليقودنا خارج "العصور المظلمة الجديدة"، نحو مستقبل أفضل. هو أثّر في صعود الاخلاق الفاضلة والطائفية (أنكر مساندة اي منهما) وعدم الثقة المألوفة حاليا في الليبرالية والفردية والتنوير.

تجدر ملاحظة عدد العقائد المتنافسة التي استطاع اعتناقها في وقت واحد، هو كان بروتستانتيا وماركسيا في آن واحد في الستينات، ثم رفض لاحقا كلا العقيدتين، وفي الثمانينات، اصبح كاثوليكيا، لكنه دائما احتفظ باحتقاره الماركسي للرأسمالية واغتراب الحداثة.

بعد ان نُشر كتابه (بعد الفضيلة) اول مرة عام 1981. اطلق برنارد ويليم على الكتاب اسم "خيال حنين رائع". كان ماكنتاير بعمر 52 عاما عندما كتب بعد الفضيلة. في (تاريخ موجز للاخلاق، 1966) هو انتقد الفلسفة التحليلية المعاصرة في فحصها وتفسيرها للمفاهيم الأخلاقية "بعيدا عن تاريخها"، ووصف الكيفية التي "تتغير بها المفاهيم الاخلاقية عندما تتغير الحياة الاجتماعية" – بدءاً من عصر هوميروس حيث مُثل(اغاثوس) للذكر ذو الولادة الجيدة وصفات الملك والشجاعة والذكاء، مرورا بالفضائل الارسطية والمسيحية التي ايضا كانت متناغمة مع فكرة الطبيعة الأساسية للانسان (وان كانت مختلفة) وحتى اقتلاع التنوير للإصرار على العقل المستقل، وصولا الى انفعالية القرن العشرين التي جعلت الاخلاق مجرد تعبير عن الافضليات الشخصية.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، قرأ ماكنتاير كتب الفيزيائي توماس كن الذي اعتبر التغيرات العلمية كسلسلة من "تحولات نموذجية" بدلا من خط مستقيم من التقدم، وهذا اعطاه ان لم يكن تحولا معتما، تأكيدأً يقينيا بشأن ما كان غريبا جدا حول اخلاق القرن العشرين: بدلا من ان نستقر في بارادايم(نموذج) أخلاقي معين، نحن نعمل في وقت واحد او بالتناوب في عدة تقاليد أخلاقية غير قابلة للقياس. طبقا لماكنتاير، اخلاق ارسطو في القرن الرابع قبل الميلاد افترضت ان الانسان لديه تيلوس (وظيفة) كحيوان عاقل. العقائد الدينية – اليهودية والمسيحية والاسلام عقّدت دون ان تغير اساسا مشروع الأخلاق الثلاثي: مصمم لينقلنا من "الطبيعة البشرية في أفضل ما يمكن اذا ادركت غايتها". فلاسفة التنوير للقرن الثامن عشر، في سعيهم لتحريرنا من الخرافات والسلطة، وايجاد اساس عقلاني خالص للاخلاق جردوا الذات من هويتها الاجتماعية وقيمها من أي ادّعاء بالوضع الفعلي. وهكذا اصبحت الاخلاق مجموعة من اوامر متطرفة وبالنهاية، مجرد "تعسف خاص". الذات غير المُتضمنة – بالضرورة هي "لاشيء" – هي الآن ملزمة لاختيار قيمتها الخاصة بها.

باعتراف الجميع، سعى جيرمي بنثام في نفعيته الى تأسيس الاخلاق على الرغبة "الطبيعية" لتجنب المعاناة ومضاعفة المتعة. لكن "السعادة الانسانية ليست مفهوما بسيطا موحدا" حسب ماكنتاير، وان تمييز جون ستيوارت مل بين المتع العالية والدنيا فقط يسلط الضوء على فشل النفعية في "تزويدنا بمعيار لعمل خياراتنا الاساسية".

كان ماكنتاير يدعو لمراجعة ارسطية تكون فيها الاخلاق، مرة اخرى، ليست مجموعة من مبادئ مجردة ومستقلة مختارة وانما قصة اجتماعية تنسجم معها قصتنا الشخصية. جادل برنارد وليم ان الذات الاخلاقية المتميزة اجتماعيا بدلا من ان تكون نتاج للتنوير، كانت حاضرة سلفا لدى افلاطون والمسيحية.

مؤلفات ماكنتاير اللاحقة شكّلت كما قيل تاريخا طويلا من الاخلاق لانهاية له . لمنْ العدالة؟ أي عقلانية، 1988 وثلاث صيغ متضادة للتحقيق الاخلاقي، 1990 كررت بان الفلاسفة التحليليين يزعمون تجسيد "الشكل اللازمني للتفكير العملي،، بينما هم في الحقيقة فقط "يمثلون شكل العقل التطبيقي الخاص بثقافتهم الليبرالية الفردية".

يرى ماكنتاير من المستحيل تبنّي موقفا اخلاقيا الاّ ضمن تقليد معين. طالما هو لايقدم طريقة للتحكيم بينها، هذا يبدو اجبرهُ للقول ان أي تقليد سيكون جيدا بنفس مقدار جودة التقاليد الاخرى وهو لهذا اُتُّهم بالاخلاقية النسبية.

مع ذلك، هو قال ان التقاليد المتنافسة تشترك ببعض المعايير، لذلك فان أي شخص يستطيع فهم المشاكل في تقاليده الخاصة ويتبنّى عقلانيا حلولا أرقى من الاخرى، كما فعل الاكويني عندما مزج الارسطية في ثيولوجيا اوغسطين، وبالنهاية اصبح ارسطيا افضل من ارسطو ذاته. ماكنتاير تحوّل الى الثومسية والكاثوليكية، مشاركا بحضور القداس كل يوم لكنه امتنع عن المشاركة في القربان المقدس بسبب ما حصل له من طلاق عائلي.

كونه رفض قبول مفهوم طبيعة انسانية مستقلة عن التاريخ وممارسات معينة وتقاليد، ماكنتاير بالنهاية وسّع قاعدته الميتافيزيقية لتتضمن (الحيوانات العقلانية التابعة، 1999) الكتاب البايولوجي. هو اشار الى الكيفية التي فشلت بها اخلاق ارسطو ولاحقا آدم سمث وديفد هيوم وفلاسفة التنوير الآخرين في الاعتراف بحتمية المعاناة والتبعية في حياة الانسان. في كتاب (ضد صور العصر الذاتية، 1971) هو انتقد المسيحية والماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت بتوفير ايديولوجية أخلاقية كافية. افكارهم عن الانسان كانت، على الاقل ضمناً، رجل جيد صحيا، هم تجاهلوا المرأة والناس المستعبدين والقرويين وغير الاوربيين. دعا ماكنتاير الى فكرة أكثر شمولية لما نعنيه بالانسان.

هو جادل بانه، لا الدولة القومية الحديثة ولا العائلة الحديثة يمكنها تقديم النوع الصحيح للانتماء السياسي والاجتماعي. احيانا اشار الى الاهداف المتماسكة لجماعات الصيد الصغيرة والى رغبات العديد من الطوباويات الصغيرة. هو باشر مشروع بحث لثلاث سنوات في جامعة لندن حول ما اذا كان وبأي الطرق "يجد التصوّر الأكويني حول الصالح العام للمجتمعات السياسية تطبيقا له في المجتمعات السياسية الحديثة"- نتيجة البحث كانت صدور كتابه الأخير (الاخلاق في صراعات الحداثة، 2006).

وحينما كان يدرس الكلاسيكيات في كلية كوين ماري بجامعة لندن (1945-1949)، قاده الفقر المدقع في منطقة شرق لندن – ليصبح ماركسيا متحمسا. كتابه الاول (الماركسية: تفسير، 1953) طالب بتجديد ماركسي للمسيحية.

 وُلد ماكنتاير في كلاسكو باسكتلندا عام 1929 وتوفي الاسبوع الماضي 21 مايو 2025 حيث أُبلغ عن وفاته الى صحيفة نيويورك تايمز من خلال جامعة نوتردام التي يعمل بها .

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم