قضايا
رائد جبار كاظم: الفلسفة من الشارع الى المدرسة.. دعوة لإيواء الفلسفة الشريدة
كانت اللحظة التي أسس فيها افلاطون (الأكاديمية)، أهم لحظة تاريخية، ليس في تاريخ اليونان فحسب بل وفي تاريخ البشرية عموماً، فهي لحظة بداية التفكير الفلسفي المدرسي، المؤسس على نهج علمي وتربوي سليم ومنظم، وهي اللحظة الأولى التي آوى فيها أفلاطون الفلسفة في مدرسة، في حدود معرفية وزمانية ومكانية تشكل لحظة تأسيسية مهمة للفكر البشري، بعد أن كانت الفلسفة شريدة وهائمة سائرة ودائرة على الشفاه وفي الصدور مع سقراط وتلامذته وفلاسفة آخرين، حين يتجلون في شوارع أثينا وطرقها، معتمدين الحوار والنقاش الشفاهي لمعالجة قضايا الواقع المعاش لأثينا وأسبارطة ومن حولها، سياسياً وأجتماعياً وفكرياً ودينياً، وبقي سقراط دائراً في فلسفته (جوال) من مكان الى آخر، ينشر فلسفته والفلسفة بين الناس بطريقة (فلسفة الشارع)، وهي تحاكي الواقع وتهتم به وبالحدث الذي كان دائراً في الشارع اليوناني آنذاك. ولكن أفلاطون سعى الى أن تكون للفلسفة كينونتها المعرفية وهويتها الفكرية التي تميزها عن غيرها من أنماط التفكير البشري، ولا يكون ذلك إلا بوجود الفلسفة في مدرسة أو جامعة أو مكان ينُشر من خلاله الفكر الفلسفي ويدرّس وفق منهج تربوي وعلمي أكاديمي، وعندها كانت الفلسفة، لحظة تكوينية لكينونة أرقى ما في العقل الانساني ألا وهو ولادة التفكير الفلسفي، هذا النمط الفكري الذي يجسد لحظة التحول الكبير في طريقة التفكير، من المثلوجيا الى الفلسفة، لحظة ارجاع المادة الى أصلها، ومعرفة العلل الأولى للاشياء، مادية كانت أو روحية، وتخليص الفكر من الأفكار الميثولوجية التي لا تناسب اللحظة الجديدة للوقع الفكري الجديد، فكانت ثورة الفلسفة اليونانية ثورة على العصر السابق، وكانت بحق تمثل عصراً للنهضة في حينها تجسد ولادة العقل الاستدلالي، ولادة البحث عن الحقيقة ومعرفتها، من خلال الحكمة ومحبتها، وكان ذلك يونانياً ثم أخذت تنتشر نحو العالم، نحو الشعوب والأمم محققة ولادات حضارية وثقافية وفكرية رائدة من خلال الحوار والتثاقف والتعارف المشترك بين الفلسفات والثقافات والحضارات، وما كان ذلك ليكون لولا وجود الدولة التي ترعى تلك الحريات والمؤسسات الداعمة لبناء الانسان والمجتمع، ففي ظل الدولة تنمو وتتطور أو تتخلف وتتقهر كل الانشطة الفكرية والعلمية والحياتية، وفقاً لسياسة الدولة ومنظومتها الفكرية، وهذا ما جعل أثينا، يونانياً، تختلف عن أسبارطة، في نظامها الفكري والسياسي، حيث جسدت أثينا النمط المدني الديمقراطي، بينما جسدت اسبارطة النمط العسكري الدكتاتوري، وهو ما أنعكس بالتالي على طبيعة المجتمعين وتحديد نمط الشخصية والسلوك والتربية بين المدينتين المتصارعتين.
وقد كانت اللحظة التاريخية الأهم في تاريخ الاكاديمية العراقية هي لحظة تأسيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد عام 1949م، تلك اللحظة التأسيسية الأساسية التي شكلت الولادة الجنينية والبذرة التكوينية لنشأة الفلسفة في العراق، بصورة أكاديمية، وهذا لا يعني عدم وجود فلسفة أو أهتمام بها في العراق قبل ذلك التاريخ، ولكن الاهتمامات التي سبقت ذلك كانت فردية وشخصية وذات صبغة دينية، لا ترقى إلى مرحلة النشأة التي أنجبت أجيالاً من طلبة الفلسفة وأساتذتها سواء في العراق أو الوطن العربي، وقد ساهمت لحظة التأسيس مساهمة مبكرة في تدشين الفكر الفلسفي عراقياً وعربياً، ولكن للأسف لم تلحق ولادات جديدة لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية إلا بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على القسم الأم، حيث تأسست أقسام الفلسفة في جامعة الكوفة عام 1990، وفي الجامعة المستنصرية عام 1993، وفي جامعة الموصل عام 1994، وفي جامعة البصرة عام 1995، وفي جامعة واسط عام 2003، وفي جامعات أقليم كردستان هناك أقسام الفلسفة في جامعة رابرين في رانية السليمانية عام 2010، وفي جامعة صلاح الدين وفي جامعة السليمانية، وآخر الولادات كان قسم الفلسفة الاسلامية في كلية العلوم الاسلامية في جامعة بغداد عام 2012م. وقد كان لهذه الاقسام الدور الكبير في تحقيق وعي أكاديمي معرفي ومجتمعي بأهمية الفلسفة في حياة الانسان والمجتمع، وسعيها الحثيث نحو مناقشة ومعالجة مشكلات الحياة المعاصرة.
وما كان لاقسام الفلسفة في العراق أن تتأسس لولا الجهود الكبيرة التي بذلت من قبل المهتمين وأصحاب الشأن الفكري والفلسفي من أساتذة الفلسفة والنخب الثقافية والعلمية، الذين سعوا الى نشر الفلسفة من خلال قنوات تواصلهم مع الجهات المسؤولة وأصحاب القرار، وقد كان لذلك التأسيس دوره الفاعل في نهضة العراق الفكرية والثقافية وترسيخ وعي فلسفي لدى مجموعة من الطلبة والمختصين وأهل العلم والمعرفة، ومن خلال حصولهم أيضاً على الشهادات العليا في الاختصاص، ورفد الجامعات العراقية والعربية بكوادر من اساتذة الفلسفة الأكفاء في تخصصات مختلفة، وهذا بدوره ما رفع من وتيرة الوعي الفلسفي وزيادة الاهتمام بالفلسفة والفكر النقدي الحر في الثقافة العراقية، وما كان ذلك ليكون لولا تأسيس أقسام الفلسفة، ونشر الفلسفة بصورة مدرسية وفق المنهج الاكاديمي المنظم والمحترف، الذي بدوره يختلف عن التفلسف غير المحترف، فلسفة الهواة وليس فلسفة المحترفين.
والذي نود الاشارة اليه في هذا المقام هو رغم زيادة اقسام الفلسفة في العراق التي وصلت الى العشرة اقسام في عموم الجامعات العراقية، إلا أن عدد الطلبة المتقدمين للدراسة في الفلسفة بدأ يتناقص في السنوات الاخيرة، وتلك الحكاية أو الحدث الابرز الذي لا بد من مناقشته ووضع الحلول له ومعالجته، فمستقبل الدراسات الفلسفية والعلوم الانسانية في الجامعات العراقية في خطر ينبغي الأنتباه له وتفاديه، وتحول وجهة الخريجين نحو اقسام الدراسات العلمية والتطبيقية وصرف النظر عن الدراسات الفكرية والانسانية، وهذا بحد ذاته يعرض مستقبل التربية والتعليم والثقافة والفكر لخطر محدق وهو غياب الدراسات والتخصصات الانسانية والاجتماعية التي لها الدور الكبير في عملية البناء التربوي والثقافي والفكري والاجتماعي والمعرفي والتحول نحو العلوم الرياضية والطبية والهندسية والتقنية التي أصبحت السوق الرائجة للخريجين والدارسين، متناسين دور العلوم الانسانية وما تشكله من أهمية كبيرة في خدمة المجتمع تضاهي دور العلوم التطبيقية أو تتقدم عليها.
والسبب الرئيس لتحول الخريجين اليوم للعلوم التطبيقية هو توجههم نحو سوق العمل والبحث عن الوظيفة، وللأسف فأن تراجع كليات الآداب وبعض الكليات الاخرى والتخصصات الانسانية ينذر بجفاف فكري وانحسار ثقافي كبير يهدد المجتمع، فلو تسآلنا من هو المفكر الذي ينظّر ويفكر ويخطط ويشرّع ويدرس مشكلات الانسان والمجتمع والتاريخ والدولة هل هو الطبيب والمهندس والرياضي والفلكي أم هو الفيلسوف والناقد والمصلح والمثقف؟ بالتأكيد نحن لا نقلل من قيمة العلوم التطبيقية ولها مجالها الخاص بها، ولكن تراجع العلوم الانسانية وغيابها يهدد بسقوط المجتمع ومؤسساته وتناسي همومه وأهمية بحث مشكلاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحياتية، والذي نلاحظه من خلال تاريخ الفكر البشري أن العلماء لهم مجالهم الفيزيقي الخاص بهم، أما الميتافيزيقا والفكر والتربية والتعليم فلها مجالها ومنهجها الخاص بها أيضاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ التداخل الكبير بين الفلسفة والعلوم الاخرى، حتى العلوم التطبيقية الصرفة منها، وهذا ما نلاحظه من تاريخ الفلسفة عبر عصورها المختلفة، فالفلسفة تبحث قضايا مهمة في مجال فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وفلسفة الاخلاق وفلسفة الجمال وفلسفة اللغة وفلسفة القانون وفلسفة العلم وفلسفة الفن وفلسفة الادارة وفلسفة السياسة وغيرها من المجالات الفكرية المتنوعة، فضلاً عن قضايا المنطق والمعرفة الاخرى. وقد أطلق المفكر التونسي فتحي التريكي مفهوم (الفلسفة الشريدة)، وهي تلك الفلسفة المنفتحة اليوم على كافة مجالات الحياة والتي تتفاعل مع قضايا الانسان والمجتمع المعاصر وهمومه اليومية، والتي كان لتشردها الدائم محاولات للتقرب من الناس وقضايا الحياة اليومية، وما نخشاه اليوم على الفلسفة هو عدم إيواها من تشردها الدائم، في هذا العالم المجنون في التقنية والغارق في الرأسمالية المقيتة حد التخمة. فهل تلقى تلك الدعوة آذان صاغية من قبل المسؤولين لتلبية النداء ووضع حلاً عاجلاً لها، كي لا يصاب رحم الفلسفة بالعقم من الولادة والابناء، وتبقى الفلسفة محروسة في المدرسة تنتج افكارها بأنتظام بعيداً عن التشرد والمضايقات التي تلاحقها طوال التاريخ من قبل السلطات المعادية لها.
***
أ.د. رائد جبار كاظم






