شهادات ومذكرات
مؤيد عبد الستار: قرأت لك.. سرقة صندوق اليعقوبي

السرقات في مجتمعنا لم تكن مقصورة على الاموال كما يحدث الان لاموال الدولة التي يغرف منها من هب ودب ليصبح بين ليلة وضحاها غنيا يملك ثروة طائلة فيتحول من مفلس نكرة الى صاحب عمارة وتجارة يعرفه القاصي والداني .
هناك سرقات من نوع آخر، سرقات أدبية فيما مضى من عصور ومازالت مستمرة حتى اليوم في غياب قوانين تحمي الحقوق الفكرية وحقوق النشر للفنانين والادباء والشعراء ممن لايستطيعون كسب لقمة الخبز من نتاجهم الفكري وابداعهم لان المشرع القانوني في ديارنا لا يستطيع رؤية ما في الفكر من جوهر مادي، وبسبب جهله لا يفقه في الخيال والافكار وانما يفقه في الشعير والخيار، فيحكم على من يخالف او من يسرق ما تطاله يده، ويجيز قطع يد السارق، او صلم أذن من يتجاوز على لصوص البلاد من قطط سمان وكلاب، ويترك عقاب من يسرق الافكار والابداع .
من بين السرقات الادبية الشهيرة سرقة صندوق الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي صاحب كتاب البابليات*.
نشرالاديب توفيق الفكيكي مقالا في جريدة الهاتف / النجف عدد 139 سنة 1357هجرية بعنوان صندوق اليعقوبي، ذكر فيه ان الصندوق يحوي مجموعة من المخطوطات النفيسة والدواوين الشعرية الرائعة غير المطبوعة. وشبه هذا الصندوق بالمقبرة لتلك الطائفة من رجال الادب الذين منع اليعقوبي تراجمهم وآثارهم من أن تـتـنشق الهواء النقي وتنعم بالحرية .(1)
ثم نشر مقالا ثانيا حول الموضوع واحتكم الى الاديب الشيخ جعفر النقدي ليحكم على اليعقوبي حكما ادبيا جزاء حجزه لهؤلاء الاعلام والتعتيم على ابداعهم.
كما نشر في جريدة الهاتف مقالا ثالثا تحدث فيه عن الصندوق والكنوز الشعرية التي تعود لما يقرب من مائة شاعر من بينهم صفي الدين الحلي وشعراء آل القزويني وابن بطريق وابن جيا وعدد كبير من فحول الشعراء .
دخل على الموضوع جعفر الخليلي - صاحب جريدة الهاتف - فنشر مقالا افتتاحيا علق فيه على مقال الفكيكي وطالب اليعقوبي ان يُخرج كنوزه من الصندوق، وأن لم يتمكن من نشره في كتاب فلينشرها على حلقات في الجرائد.
ونشر الاستاذ محمد الخليل مقالا في جريدة الهاتف أيضا حول صندوق اليعقوبي وعلل عدم نشر اليعقوبي لمحتويات صندوقه لكساد سوق الادب وعدم دعم الموسرين للمشاريع الادبية.
اليعقوبي
ولد في النجف الاشرف في منتصف شهر رمضان عام 1313 هـ وبسبب انتقال اسرته الى الحلة الفيحاء نشأ محمد علي في مدينة الحلة وتعلم في الكتاب قراءة القرآن الكريم كما تعلم الكتابة ونسخ الخط و درس النحو والصرف والمعاني والبديع ...على يد والده وزاد اهتمامه بالادب فأخذ يختلف الى محافل العلماء واندية الادباء ورعاه السيد محمد القزويني وغمره بعطفه بعد أن رحل والده الى الدنيا الآخرة سنة 1329 هـ .
كتب عنه العلامة نور الدين شرف الدين في مجلة العرفان التي تصدر في صيدا لبنان، في العدد السابع / حزيران 1951 : "الشيخ محمد علي اليعقوبي عميد الرابطة الادبية في النجف الاشرف، أديب لامع، وخطيب من خطباء المنبر الحسيني المبرزين يحتل مكانة سامية عند الخاصة والعامة."
البابليات
البابليات كتاب يؤرخ لشعراء الحلة، جاء في مقدمته للكتاب " رتبنا الكتاب على حسب القرون . فابتدأنا بذكر شعراء الحلة الفيحاء في اوائل القرن السادس - مبدأ تأسيسها- وماشينا القرون التي تليه بالتسلسل، وهو يقع في ثلاثة اجزاء يضم في اولها ترجمة ستين شاعرا الى نهاية القرن الثاني عشر، والجزآن الاخران يحتويان على تراجم القرنين الثالث عشر والرابع عشر و أفردنا لكل منهما جزءا يضم الادباء الذين نبغوا فيه، وجل القسم الثالث ممن ادركنا عصرهم، وأخذنا تاريخ حياتهم منهم."
صندوق اليعقوبي شعرا
نظم الشيخ محمد حسن حيدر قصيدة رائعة حول الصندوق نشرها في جريدة الهاتف. ونشر الشيخ النقدي مقالا مسهبا في جريدة الهاتف تعرض فيه الى قضية صندوق اليعقوبي والاحتكام اليه بامر الصندوق الذي اخفاه اليعقوبي، وبين الشيخ النقدي وجوب احضار اليعقوبي ومثوله امامه لسماع دفاعه قبل الحكم عليه، فاجتمع به وتعهد اليعقوبي بنشر ما في الصندوق على صفحات الصحف، وارتجل اليعقوبي شعرا :
قالوا أذاع الذي ما زلت تخبؤه // " توفيق" قلت لهم من حسن توفيقي
قد جاء يبحث عن "صندوق" مكتبتي // وإن في الصدر عندي ألف " صندوق"
فازاح اليعقوبي الستار عن صندوقه وبدأ بنشر ما يحويه من فرائد .
وكان الفكيكي قد نسخ بعض المواد من صندوق اليعقوبي باجازة منه، وأخذ من البابليات ما أراد، ويقول زارني الاديب على الخاقاني (علي الشرقي) وطلب أن يستعير ما لدي من البابليات ليلة واحدة، ورغم اني اخذت عليه المواثيق أن لا ينسخها الا انه نكث العهد ونشر ترجمة ابن عوض في مجلته "البيان " فوجدته مطابقا لما عندي من الذي نسخته من صندوق اليعقوبي .
واستغرب الاستاذ دعبل صاحب جريدة النبأ هذه السرقة فنشر مقالا في العدد الصادر في 8 /1/ 1951يستنكر فيه انتحال الخاقاني هذا، ثم يعجب من كون القوانين لاتضع عقابا لهذه الجرائم التي لا تقل عن جريمة سراق المال " سراق الدمى والحلل.
نموذج من البابليات
من قصيدة للاديب السيد جعفر كمال الدين الحلي النجفي
أدر المدامة وابتدي برفاقي // بوركت يا ساقي الطلا من ساقي
فاشرب وعانقني عناق مودة // لاخير في شرب بغير عناق
لله مجلسـنا ونـحـن بـلـذة // في خير ندمان وخير رفاق
اخوان صدق للمنادمة التقوا // لاشـيـب ذياك اللـقا بفراق
والورد عبق نشره فحسبته // أنفاس (هاد) طيب الاخلاق (2)
***
د. مؤيد عبد الستار
..................
* اليعقوبي، محمد علي، البابليات، المجلد الثاني، دار البيان، 1373 هـ
1- البابليات ص 234
2-البابليات ص 19