شهادات ومذكرات
قاسم حسين صالحك الضدان النقيضان.. الرصافي والزهاوي وما بينهما!

يعدّ جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي.. اشهر شاعرين على المستوى العراقي والعربي في زمانهما.. النصف الأول من القرن العشرين. والجميل انهما ولدا وتوفيا في زمنين متقاربين، فالزهاوي ولد وتوفى في (1863-1936) والرصافي ولد وتوفى في (1875- 1945). وعاشا عمرين متقاربين ايضا، الزهاوي (73) سنة، والرصافي (70) سنة!.. وكلاهما من اصول كردية. والاغرب ان الزهاوي لم يلد والرصافي لم يخلف ايضا!.
والرصافي والزهاوي.. فيلسوفان ايضا، وكلاهما شغل مسؤوليات سياسية وثقافية وصحفية وتربوية، وكلاهما يعدّان شاعران متمردان على المفاهيم العقائدية والفهم الخاطيء للدين في قضايا اجتماعية مثل تحرير المرأة.. فضلا عن تمردهما على الاحتلالين التركي والانجليزي.
ويمتاز الزهاوي بأنه كان له اكثر من مجلس يحفل بأهل العلم والأدب، أحدها في مقهى الشط، وآخر يقيمه عصر كل يوم في قهوة رشيد حميد في الباب الشرقي من بغداد، وثالث اتخذه بآخر أيامه في مقهى أمين بشارع الرشيد وعرفت هذه القهوة فيما بعد بمقهى الزهاوي.. يلتقي فيه كبار الشعراء والأدباء، كانت مجالسه لا تخلو من أدب ومساجلة ونكات ومداعبات شعرية.. ويذكر معاصروه بأن للزهاوي كانت كلمة الفصل عند كل مناقشة ومناظرة. وفيه والرصافي قال عنهما الشيخ إبراهيم أفندي الراوي:
(مقال صحيح إن في الشعر حكمة وما كل شعر في الحقيقة محكم
وأشعر أهل الأرض عندي بلا مرا جميل الزهاوي والرصافي المقدم)
والتساؤل:
ما دام كلاهما بهذه المواصفات الراقية.. فلماذا هما ضدان نقيضان؟!
الجواب.. سيكولوجي خالص!.. نحدده بثلاثة،
الأول: حسد.. وظيفي. فالرصافي يحسد الزهاوي لأنه اختير نائبا في مجلس المبعوثان العثماني، ونائبا في مجلس النواب ثم عين في مجلس الأعيان.
والثاني: التنافس الشعري. تتحكم بالشعراء الكبار سيكولوجيا الصراع في التنافس على القمّة في الموهبة الشعرية. فالزهاوي وجد في الرصافي منافسا يمتلك موهبة في الشعر يراها أبلغ من موهبته. دليل ذلك أن رفائيل بطي يذكر في كتابه (ذاكره عراقية) موقفا طريفا (مضحكا) ان الزهاوي اشترط لتنظيم قصيدة يتلوها في حفلة التكريم لعبد العزيز الثعالبي ان لا ينشد الرصافي شيئا في الحفلة.
والثالث: تضاد في تركيبة الشخصية.. فالرصافي يوصف بانه شجاع في معارضته للسلطة وأنه كريم، فيما يوصف الزهاوي بانه جبان في موقفه من الحكومة.ومع ذلك، فانه كان وطنيا، فحين قامت السلطة بالقاء الأحرار في السجون ومن ثم تنفيذ أحكام الإعدام بهم.. نظم قصيدة في تحيّة الشهداء مطلعها:
(على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل).
الغيرة عند الشعراء.. غلاّبه!
مع ان الغيرة تحمل مشاعر الكراهية الناجمة عن حسد شخص آخر ينافسه في مال، مركز وظيفي، موهبة.. فان شاعرنا الزهاوي انشد في الحفل الكبير للترحيب بالرصافي لمناسبة عودته الى بغداد بعد نفيه بسبب هجومه على النجليز والحكومة في قصيدة طويلة قال فيها:
لقد عاد معروف أخي بعد غيبة
فأهلاً برب الفضل والأدب الوفر
كلانا يريد الحق فيما يقوله
وإني وإياه إلى غاية نجري
فخذ بيدي اللهمّ في كل دعوة
وهذا أخي معروف اشدد به أزري.
فهو بدأها بأن وصف معروف بـ(اخي).. وساوى بينه ومعروف بأن كليهما يجريان لغاية واحدة، الا انه جعل من نفسه هو (القائد) لتحقيق تلك الغاية ومعروف سنده!، ما يعني ان الغيرة غلاّبه عند الشعراء مهما كانوا عظماء. ورغم ان بيته الأخير أثار اعصاب المحتفى، لكن الرصافي صبر وأظهر حلمه.
تضّخم الأنا مقابل حب الأنا
لدينا مصطلحان سيكولوجيا يخصان (أنا) الشخص هما تضخم الأنا و حب الأنا نوجز صفاتهما بالاتي:
يعني " تضخّم الأنا " حالة عصابية " مرضيه " تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية. فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب، ز ان يكون المميز الأبرز بعيون جماعته، والتظاهر بامتلاكه قدرات فريدة لا يمتلكها منافسوه.
ويأخذ من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء، وتصرفها بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة. وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم.
ولقد تبين ان معظم هذه الصفات تنطبق على شخصية الشاعر الزهاوي، فهو باعتراف من عاصروه (يعتبر نفسه ملكا يجلس على عرش الشعر والثقافة). وعنه يقول الدكتور ناصر الحاني " ان الزهاوي كان واسع الخيال وشديد الحساسية كما كان شديد الاعتداد بنفسه وكثير الاعجاب بشعره ولذلك كان ينفعل من الانتقاد ويعتبره بمثابة الاضطهاد وكان يعتقد انه ضائع ومضطهد في بلاده حتى انه كان يتوهم احيانا ان حياته معرضة للخطر."
اما الرصافي فهو يمتاز بـ(حب الأنا).. ويعني سيكولوجيا ذلك الذي يعتز بقدراته ومواهبه ويعمل على تطويرها وتنميتها دون التعالي على الآخرين او التقليل من قيمهم الأعتبارية ، وهذا ما اتصف به الرصافي.
الطيبة.. غلاّبة!
تقدم لنا حكاية اشهر شاعرين نقيضين ضدين ان طيبة القلوب تهزم الحسد والتنافس. فحين توفي الزهاوي (23 شباط 1936) كان الرصافي في طليعة المشيعين وبكى بشدة، وارتجل قائلا:
أيها الفيلسوف قد عشت مضنى
مثل ميت وصرت بالموت حيا
فيما كانت نهاية حياة الرصافي في حال آخر، اذ يذكر الدكتور يوسف عز الدين "ان الرصافي لم ينل ما كان يطمح اليه في وظيفة تعادل مكانته الادبية الكبيرة واحس بالظلم الكبير في الحياة والعمل والاهمال في المكانة الاجتماعية فاضطربت حياته واهتزت اماله وقاسى نفسيا واضطرب روحيا".والمؤسف ان نهاية حياته كانت مؤلمة جدا، فقد مات فقيرا معدما، فبرغم انه كان عضوا في البرلمان العراقي فانه عمل في نهاية حياته في محل لبيع التبغ في بغداد وتوفىَ بدارهِ في محلة السفينة في الأعظمية في (16 آذار 1945) وشيع بموكب مهيب سار فيهِ الأدباء والأعيان ورجال الصحافة ودفن في مقبرة الخيزران.. يذكرنا بما قاله الزهاوي:
(انهم لا يرون من قومهم برّا ولا تقديرا وهم احياء
واذا ما لقوا الردى فعليهم يكثر الحزن والبكاء
تلك اخلاقهم وقد ورثتها سننا من ابائنا الابناء)
وهذا ما هو حاصل الآن.. ليس فقط لكبار الأدباء والشعراء، بل ولكبار المفكرين والعلماء ايضا!.
***
أ. د. قاسم حسين صالح