شهادات ومذكرات
عدنان الظاهر: مع البروفسور الدكتور غازي موسى الخطيب

أخيراً حققتُ واحدة من أُمنيات العمر في أنْ أزور مدينة السماوة وأرى بعض أهلي فيها ثم لألتقي صديقاً ورجلاً شهماً فذاً وفيّاً عرفه العراق نزيهاً مقداماً رئيساً للجنة النزاهة العراقية. بفضل براعة التنظيم والتخطيط التي يتمتع بها الصديق العزيز الدكتور موسى فَرَج أبو ياسر وكريم إلتقيتُ صديقاً قديماً طالما اشتقتُ أنْ ألتقيه في بيته وكان معنا الصديق الآخر الكريم الرائع و (الكامل الأوصاف) الأستاذ حمّودي الكناني أبو علياء. سأكتب لاحقاً عارضاً موجز تأريخ الأستاذ غازي الخطيب لتعريف القرّاء الكرام به ومن يكون وما كان وما لحِقَ به من جور وأذى واعتقال وتعذيب على أيدي البعثيين في ثمانينيات القرن الماضي وهو الباحث النادر والأستاذ الجامعي المعروف والإنسان المبدئي الثابت والمسالم والمتفاني في سبيل مبادئه وحبّه للخير والخيرين في العراق وفي كافة أنحاء العالم. لم يخاصم أحداً ولم يشتم أحداً وما حمل السلاح ضد أحد فلماذا يُعتقل ويُعذّب وما تبرير هذه الوحشية الدموية التي امتاز بها بعثيو صدام حسين؟ في القلب ألم وفي الفم أكثر من غصّة.
أهداني العزيز الدكتور غازي الخطيب وأنا ضيفه في بيته مع الدكتور موسى والأستاذ الكناني وحيث الكرزات والشاي والكليجة الممتازة أربعة كتب أنجزت حتى اليوم قراءة كتابين منها كرّس الأول منها وعنوانه (مواقف وأحداث من حياتي) لكتابة ما درسَ وأين دَرَسَ (في أية مدينة وفي أي بلد) وما أنجز وما نشر من أبحاث علمية في مجال اختصاصه وأية مسؤوليات إدارية وأكأديمية رفيعة كُلِّفَ بها فأنجزها بإقتدار وكفاءة رغم إستثنائية الظروف التي كانت سائدة حينذاك. سأتناول الكتاب الآخر، وهو رواية، ذُهِلتُ لما وجدتُ فيه من براعة في القص وترتيب الأحداث حيثُ استعرض فيه (136 صفحة فقط) فترة عدّة عقودٍ من السنين بِدءاً بمرحلة الحصار وغزو العراق بملايين الأخوة المصريين الذي فضّلهم صدام حسين على العراقيين أبناء العراق... ذاك الحصار الذي خنقَ العراق والعراقيين حتى الوقت الراهن فضلاً عمّا قام به بعض الضيوف المصريين من تجاوزات وما اقترفوا من جرائم بحق العراقيين أصحاب الأرض المُضيّفين. إسم الرواية (أوراق متناثرة لحياة عاثرة) دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع.. العراق ـ السماوة..الطبعة الأولى 2022.
أعجبُ كيف لم تأخذ هذه الرواية حقها من النقد والدراسات والتقويمات التي تستحق والعراق خاصةً عاج بالمثقفين والأدباء ونقّاد الرواية والشعر! ألأنَّ كاتب هذه الرواية رجل متواضع زاهد لا يُحب الطنين والرنين ولا تهمه مظاهر وزخارف الحياة وقد عرفها وخبرها وعجم أعوادها فاعتكف لأنه الأكبر والأرقى والأكثر نبلاً. لنرَ ما في هذه الرواية:
قسّم الدكتور غازي الخطيب روايته هذه إلى أجزاء سمّاها أوراق وعددها 14 ورقة تناول في كل ورقة قصة تخص عائلة عراقية واحدة فقط وما عانت تحت ظروف العراق السائدة البالغة الشذوذ والإنحراف عن الطبائع السوية.
الورقة الأولى: عنوانها [سائق التكسي]
من هنا تبدأ مأساة عائلة عراقية نكبتها أحداثٌ مأساوية متتالية أبدع البروفسور غازي الخطيب في خلق المناخ والأرضية وربما المبررات التي تسببت فيما عانت هذه العائلة من ويلات: خيانة المصري سائق التكسي الذي آواه العراق وأكرمه كما آوى وأكرم قرابة خمسة ملايين مصري فتح صدام حسين لهم أبواب العراق وقلوب العراقيين فعاث البعض منهم فساداً وخانوا الأمانات والذمم بل وأقدم بعضهم حتى على سفك دماء بعض العراقيين مستقوين بصدام وعصابته في حزب البعث ردّاً لجميل مصر وعبد الناصر الذي استقبله وأكرمه إثرَ اشتراكه في محاولة قتل عبد الكريم قاسم الفاشلة في شارع الرشيد خريف عام 1959 وهروبه إلى سوريا ثم إلى القاهرة. توثّقت علاقة هذا المصري بعائلة عراقية مستورة الحال وأتمنته على عرضها وكافة شؤونها اليومية وبالغت في كرمها العراقي وحسن ظنها حتى سمحت له أنْ يعيش معها في بيتها. غاب رجل البيت العراقي لبعض شؤونه خارج العراق فوسوس الشيطان لهذا الضيف المصري أنْ يراود سيدة البيت عن نفسها وحصل على ما أراد وتمادى وأسرف في فعل المنكر مع عقيلة الرجل الذي أكرمه وأضافه فحملت منه ثم أنجبت بنتاً سمّتها زينب. كانت هذه هي المأساة الأولى لتغدو زينب التي وُلِدت سِفاحاً بطلة سلسلة من المآسي والنكبات التي ضربتها وبناتها الخمس وإبناً واحداً فهل هي لعنة السماء إنتقاماً من وضع شاذ أم أنها جريمة صدام حسين وزبانيته الذين أذاقوا العراقيين الأمرّين قتلاً وتعذيباً وتسميماً وتعربياً بالقوة وتهجيراً ثم الغزو والحرب التي ورطوا العراق فيها أم الإثنان معاً؟
كان الراوي الدكتور غازي الخطيب رائعاً ومبدعاً في سرد الكيفية التي تعرّفَ فيها على السيدة المنكوبة زينب شاهدة وراوية وبطلة المآسي التي لحقت بها وبمن أنجبت من بناتٍ خمس وإبن واحد. كان الراوي رائعاً وكان دقيقاً جداً وكان صبوراً في التخطيط وفي تصميم مواعيد اللقاءات مع زينب ببراعة وبدون تكلّف فتوالت هذه اللقاءات في نادٍ أو مقهى حتى دعتهُ وقد أمِنته إلى بيتها وتعرّف على بناتها فانسجموا جميعاً حتى جعلوه واحداً منهم.
خصّص الراوي الورقة الثالثة لسميرة وهي البنت الكبرى للسيدة زينب.
كانت سميرة موظفة صغيرة بشهادة ثانوية في وزارة المالية. عانت في هذه الوزارة الأمرّين خاصة من لَدُن أحد الموظفين المتورطين بسلب ونهب الوزارة وتزوير العروض. تزوجها لكنها لم تُطق الحياة معه ففضحته أمام مسؤولي الوزارة.. سُجن 15 عاماً وسُجنت هي، سميرة، عامين. خرجت من السجن الذي خُفِّف وعانت من البطالة والشقاء الشئَ الكثير لكنها أخيراً تزوجت من شخص ثري كبير السن. توفي هذا وأُصيبت هي، سميرة بنت زينب، بسرطان الكبد وفارقت الحياة.
وخصص دكتور غازي الورقة الرابعة للإبنة الثانية (المُهندسة حياة) للسيدة زينب. فما قصتها وما كانت مشاكلها؟ كأختها سميرة، قاومت السُرّاق وكبار حيتان الفساد ومعها المهندس الكبير الشريف النظيف لكنهما وقعا في شِراك هذه الحيتان فسُجنا بتهم ملّفقة وشهادات مزوّرة. خرجت من السجن واشتغلت في مكتب هندسي مشبوه موبوء بالفساد وتزوير المقاولات فنجرفت مع الفاسدين في المكتب وجنت أرباحاً طائلة لكنها انحرفت وصارت تتعاطى المخدرات. وفي يوم وكانت تحت تأثير قوة هذه المخدرات ضربت شرطيَ مرور بسيارتها فقتلته. كشفت الشرطة المخدر في دمها وأودعت السجن وفي السجن عانت من نوبات هستيرية وصرع حتى غدت كالمجنونة فوضعت في مستشفى المجانين.
وماذا في الورقة الخامسة؟ خصصها الراوي للإبنة الأخرى لزينب (سلوى).
{تخرّجت سلوى في المعهد التَقَني بتخصّص ميكانيك وحصلتْ على وظيفة بعد جهد كبير في محافظة الموصل}. كانت سلوى متدينة ملتزمة بكل الواجبات الدينية لكنها كانت بعيدة عن الأمور الطائفية. ساءت أمورها في الموصل وقد تغلغلَ الدواعش فيها وكثروا وتعرّضت للتحرش والإستفزاز لأنها (رافضية). في هذا الجو المشحون والخطير أحبّت زميلاً لها من الطائفة الأخرى. تقدم زميل سلوى في العمل السيد شامل لخطبتها ووافق الأهل. تركا الموصل ومشاكلها إذْ تمت الموافقة على نقلهما بطلب منهما (إلى أحد المعاهد القريبة من المحمودية. كانت المحمودية مدينة صراع). تزوجا وأنجبا طفلة أسموها (وردة). قرر شامل زوج سلوى السفر إلى الموصل للإطمئنان على أحوال أهله هناك. في الموصل خطفت مجموعة من الملثّمين شاملاً وضاع أثره. وصلها خبرٌ من الموصل مفاده أنَّ شاملاً وُجدَ مقطوع الرأس مرمياً في أحد الوديان خارج مدينة الموصل. واصلت عملها في المحمودية وعانت وابنتها من المشاكل المتفاقمة في المحمودية وجرف الصخر. عرض عليها رجل دين زواج المتعة! رفضت بالطبع. تحسنت الأوضاع فاستقرت سلوى وابنتها وردة في بيت صغير في المحمودية قريب من دائرتها.. كبُرتْ وردة ودخلت المدرسة.
الورقة السادسة: هُدى والفلوجة وجهاد النِكاح
إبنة أخرى لزينب كاظم السيدة المنكوبة بدنياها الخاصة وببناتها الخمس. من هي هدى؟ مُدرِّسة صدر أمر تعيينها في مدينة الفلوجة في أوج زمن الإضطرابات والقتل على الهوية. في الفلوجة هي مُدرِّسة رافضية حالها حال الجنود الأمريكان الكَفَرة. عرّفتها إحدى زميلاتها المدرّسات على (مُعلِّم شاب لطيف مُلتحٍ). (في البدء طلبت منها صديقاتها التبرّع للمجاهدين ومن ثمّ وبكلام ناعم مُنمّق طلب منها معلّم المدرسة المتديّن الألتحاق بركب المجاهدين وحضور ندوات دينية)... طُلِبَ منها أنْ تصبح جهادية وتحمل السلاح لكفاح المحتلين. وافقت وتدرّبت وتزوّجت من أحمد زميلها الجميل الصلب. خاضت الكثير من المعارك ضد الأمريكان سويةً مع زوجها أحمد. في إحدى المواجهات قُتل زوجها أحمد الرجل الذي أحبّتْ. شاعت بين زملائها المجاهدين المقاتلين مودة {جهاد النكاح} لكنها استهجنتها، قاومتها، حاربتها فتقرر محاكمتها. حوكمتْ وصدر الحكم بإعدامها وتمَّ تنفيذ هذا الحكم بها.
الورقتان السابعة والثامنة مُخصصتان للدكتورة الألمعية والنابغة " نجاة ". أكملت كلية الطب في العراق ولتفوّقها أُرسلت في بعثة إلى بريطانيا.. درست وتفوّقت وكانت محط إعجاب الجميع خاصة الأوساط الطبية الإنكليزية. عادت للعراق وصدر أمرُ تعيينها تدريسيةً في كلية الطب مختصّةً بالنسائية والتوليد. فتحت لها عيادة طبية خاصة بها وتمَّ ترشيحها لمنصب وزيرة الصحة في وزارة جديدة. إعتذرت وبيّنت الأسباب. عرض عليها أحدُ كبار رجال الأمن الزواج لكنها اعتذرت... ألحَّ وصار يهددها بفتح ملف والدتها وعلاقتها بسائق التكسي المصري ومن أبوها الحقيقي. لم تأبهْ... تجاهلته حتى يئسَ وانصرف بأدب وهدوء ثم قُتل في إحدى المعارك وكانت كثيرة. تزوجت من محامٍ كبير معروف وأنجبت. هنا في الورقة الثامنة نُفاجأ بأنَّ رياض ابن السيدة زينب الوحيد المفقود منذ انسحاب الجيش العراقي من الكويت في عام 1991.. إنه لم يزل على قيد الحياة لكنه في إيران.. وتلك قصة أخرى طريفة مُعقّدة فيها الكثير من المفاجآت والأخبار العجيبة تدخلت فيها شقيقته الطبيبة نجاة ففتحت موضوعه مع جهات طبية ومنظمات إنسانية عاملة في لندن والراوي نفسه وأصدقاء له في وزارة الخارجية العراقية حتى تكللت كل هذه الجهود بإعادته إلى أهله ووطنه العراق مصحوباً بزوجة إيرانية وطفل. عانى رياض ما عانى في إيران من شبهات حامت طويلاً حوله من كونه بعثيّاً مُندسّاً فقد كان نائب ضابط شارك في غزو الكويت وبعثياً بدرجة نصير. كما هو متوقع ومنطقي تزوج الراوي صديق العائلة من زينب الأرملة متعددة النكبات والمصائب فهل تتوقف الأقدار السود وتدع الناسَ يفرحون ويُسعدون؟ كلاّ. قضّى العروسان شهر العسل بين مصر وتركيا ثم ماليزيا وعاصمتها كوالا لامبور وكانا في غاية السعادة رغم مشاعر الخوف من المجهول. ركبا الطائرة عائدين للوطن والكل مبتهجٌ سعيد لكنْ تحقق خوفهما من المجهول إذْ فُقِدَ الإتصال بالطائرة وضاعت أخبارها ولم تفلح الجهود المتنوعة الكثيرة في العثورعليها أو على الصندوق الأسود حيث الشك في إحتمال سقوطها في البحر. ضاعت طائرة العروسين وضاع العروسان العراقيان.
لديَّ ملاحظة استرعت إهتمامي وكبير فضولي: الراوي ضاع مع عروسه ولم يتركْ له أثراً فكيف استمر يقص أحداث روايته حتى أتمّها في 14 ورقةً؟ هل كانت له نُسخة ثانية تحل محله إذا غاب أو غُيّب أو قُتل؟ أجبْ يا بروفسور غازي نجل عمّنا الشيخ موسى الخطيب... أجبْ لأجل عينيّ سميِّ أبيك الغالي الدكتور قاضي الحاجات موسى فَرَج صاحب الفضل في ترتيب زيارتنا لك في بيتك وزيارة أخرى سبقتها لزميل قديم أيام الدراسة في كلية التربية في خمسينيات القرن الماضي أُستاذ الرياضيات علي حسين الغرّة.
ملاحظة: أعجب لما وقع في هذه الرواية من أخطاء إملائية غير قليلة رغم أنَّ الدكتور عبد المطلب محمود، صديق الأستاذ غازي الخطيب قد قام بمراجعة وتدقيق الرواية.
***
الدكتورعدنان الظاهر
آذار 2025
.............................
مُلحق:
هذا ملخّص تأريخ الأستاذ غازي موسى الخطيب العلمي والإداري والسياسي والإجتماعي كما نشره هو على أغلفة كتبه الخلفية.
ـ الأستاذ الدكتور غازي موسى الخطيب ـ مواليد 1933 السماوة
ـ خريج ثانوية السماوة
ـ تخرّجَ من جامعة بغداد
ـ كلية الطب البيطري عام 1959
ـ حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزك
ـ ألمانيا 1963 حاصل على شهادة الدكتور هابيل من جامعة همبولت ـ برلين ـ ألمانيا 1968
ـ حاصل على لقب الأُستاذية منذ عام 1976
ـ كان عميداً لكلية الطب البيطري في جامعة بغداد 2005
ـ ترأسَ جامعة المُثنى المُستحدثة عام 2007 حتى إحالته على التقاعد 2011
ـ له أبحاث علمية تجاوزت المائة بحث باللغات الإنكليزية والألمانية والعربية
ـ أشرفَ على أكثر من مائة أُطروحة دكتوراه وماجستير
ـ له نشاطات أدبية كثيرة ـ الكثير منها لم يُنشرْ بسبب الظرف السياسي (شعر ـ شعر شعبي ـ قصة ـ مقالات) أُلِّفت بين 1970 ـ 1990.
ـ ترأسَ تحرير جريدة الرأي الجامعي ومجلة الإشعاع الجامعي التي تصدر من جامعة المثنى قرابة الأربع سنوات
ـ صدرت له رواية ثورة الخلاص، سنة 2012، ومجموعة قصصية بعنوان ذئاب وذئاب سنة 2013.
يا ناس! يا عراق! يا عالم! أَمثلَ هذا الرجل العالم يَعتقلُ ويُعذِبُ البعثيون ويُرمى في زنازين الدم والعفونة والظلام؟ هل أنجب البعثيون رجلاً مثله ومثل رجل القانون وعضو مجلس السلام العالمي البروفسور صفاء جميل الحافظ وكثرة آخرين؟ ما كان ذنبهم؟ فليجبْ البعثيون وليكشفوا عن قبر صفاء الحافظ.