شهادات ومذكرات

عبد الجليل البدري: محمد الربيعي.. مسيرة عالم

بين الاكتشاف العلمي والمسؤلية المجتمعية

 في سماء العلم، تتلألأ نجومٌ قلائل ببريقٍ خاص، لا يقتصر ضياؤها على مختبرات البحث وأروقة الجامعات، بل يمتد ليشمل آفاقًا أوسع من العطاء لوطنٍ ينشدُ التقدم والنماء. ومن بين هذه النجوم الساطعة، يبرز اسم الدكتور محمد الربيعي، قامةٌ عراقيةٌ شامخة جمعت بين ريادة الاكتشاف العلمي وشغف التغيير المجتمعي.

رائد الهندسة البايوكيميائية: بصماتٌ عالمية في صناعة الدواء

بدأت رحلة الدكتور الربيعي في رحاب العلم لتضعه في مصاف أبرز العلماء على مستوى العالم في مجال الهندسة البايوكيميائية. بروفسورًا في جامعة دبلن (UCD)، وقبلها في جامعة برمنغهام، لم يكن الربيعي مجرد باحث، بل كان مكتشفًا ومبتكرًا وضع أسسًا جديدة في مجالات حيوية.

لقد كان السبّاق في اكتشاف الموت الخلوي المبرمج في الخلايا المزروعة، فاتحًا آفاقًا جديدة لفهم الحياة الخلوية. ولم يتوقف إبداعه عند هذا الحد، بل كان له الأسبقية في إطالة العمر الجيني للخلايا المنتجة للمواد الطبية، وهي خطوة ثورية مهدت الطريق لإنتاج الأدوية بشكل أكثر كفاءة واستدامة.

ويُعدّ الدكتور الربيعي الأب المؤسس لصناعات أدوية التكنولوجيا الحيوية في المملكة المتحدة، بفضل إنجازاته الرائدة في إنتاج الأجسام المضادة والأدوية من خلايا حيوانية خارج الجسم في صهاريج. كما كان من الأوائل الذين نجحوا في إنتاج كريات الدم الحمراء بصورة اصطناعية خارج الجسم، وفي زراعة وهندسة غضروف الركبة خارج الجسم، وتكوين كبد اصطناعي. هذه الاكتشافات ليست مجرد إنجازات علمية فحسب، بل هي ثورات حقيقية في عالم الطب، تحمل الأمل لملايين البشر حول العالم.

تقديراً لجهوده الجبارة، حصد الدكتور الربيعي العديد من الجوائز العالمية المرموقة، منها وسام دونالد العالمي، ووسام مؤسسة العلوم الإيرلندية، وجائزة مؤسسة أستيلاس اليابانية، وشهادة دكتوراه فخرية من الجامعة الوطنية الإيرلندية. كما كرمته مؤسسة سبرنغر بإصدار كتاب تكريمي على شرفه، اعترافًا بمسيرته العلمية الحافلة شارك في اعداده اكثر من 60 مختصا وعالما وصناعيا. بأكثر من 500 بحثٍ علمي وكتابٍ ودراسة وبراءة اختراع، أثرى الدكتور الربيعي المكتبة العلمية العالمية بكمٍ هائل من المعرفة.

بصمات تميز في العلم والهندسة البيوكيميائية وصناعة الأدوية الحيوية

يتميز الدكتور محمد الربيعي ليس فقط بكمية إنجازاته، بل بعمق تأثيرها وريادته في مجالات حيوية دقيقة:

- الرؤية الرائدة في الموت الخلوي المبرمج (Apoptosis): يُعد اكتشاف الدكتور الربيعي للموت الخلوي المبرمج في الخلايا المزروعة إنجازًا علميًا بالغ الأهمية. ففي الوقت الذي كان فيه هذا المفهوم يُفهم بشكل رئيسي في سياق الكائنات الحية المعقدة، كشف الربيعي عن آلياته في الأنظمة الخلوية المعزولة، مما فتح الباب أمام فهم أعمق للتحكم في نمو الخلايا وموتها. هذا الفهم أساسي في أبحاث السرطان، حيث يُسعى إلى تحفيز الموت الخلوي في الخلايا السرطانية، وفي أمراض المناعة الذاتية، حيث يُسعى إلى تعديل هذه العملية. إسهاماته منحت المجتمع العلمي أداة جديدة للتلاعب بسلوك الخلايا لأغراض علاجية.

- إطالة العمر الجيني للخلايا المنتجة للمواد الطبية: ثورة في الإنتاج الحيوي: قبل جهود الدكتور الربيعي، كانت التحديات التي تواجه إنتاج الأدوية الحيوية من الخلايا المزروعة تكمن في قصر عمر هذه الخلايا وقدرتها الإنتاجية المحدودة. إنجازه في إطالة العمر الجيني للخلايا لم يكن مجرد تحسين بسيط، بل كان قفزة نوعية. يعني ذلك أن الخلايا يمكنها الاستمرار في إنتاج البروتينات العلاجية، مثل الأجسام المضادة والهرمونات، لفترات أطول وبكميات أكبر، مما يقلل تكلفة الإنتاج ويزيد من توافر الأدوية المنقذة للحياة. هذا العمل وضع الأساس للعديد من العمليات الصناعية الحديثة في مجال التكنولوجيا الحيوية.

- ريادة إنتاج الأجسام المضادة والأدوية في المفاعلات الحيوية: يُعتبر الدكتور الربيعي من الرواد في تطوير تقنيات إنتاج الأجسام المضادة والأدوية من خلايا حيوانية خارج الجسم في صهاريج (Bioreactors). هذه التقنية هي حجر الزاوية في صناعة الأدوية الحيوية الحديثة. فبدلاً من الاعتماد على مصادر حيوانية معقدة، سمحت رؤيته بتصنيع هذه المواد الحيوية بطريقة متحكم بها، قابلة للتوسع، وأكثر أمانًا وفعالية. هذا الإنجاز هو ما أكسبه لقب "الأب المؤسس لصناعات أدوية التكنولوجيا الحيوية في المملكة المتحدة"، مما يعكس التأثير التحويلي لعمله على قطاع الصيدلة الحيوي.

- التفكير المستقبلي في الطب التجديدي: الريادة في إنتاج كريات الدم الحمراء اصطناعياً: لم تقتصر بصماته على الأدوية، بل امتدت لتشمل الطب التجديدي. فهو من الأوائل الذين نجحوا في إنتاج كريات الدم الحمراء بصورة اصطناعية خارج الجسم، بناءً على بحوثه الرائدة التي استكشفت إمكانيات الخلايا الجذعية المشتقة من الدم المحيطي للتكوين الخلوي للدم خارج الجسم. أثبتت نتائجه أن الخلايا الجذعية المكونة للدم المشتقة من الدم المحيطي يمكن أن تكون وسيلة لانتاج كريات الدم الحمراء، مما يوفر مزايا واضحة من حيث التوفر لدراسات التوسع والنضج، ويحمل تطبيقات سريرية مستقبلية هامة. بالإضافة إلى ذلك، كان من الرواد في زراعة وهندسة غضروف الركبة خارج الجسم، وتكوين كبد اصطناعي، مما يبرهن على قدرته على التفكير خارج الصندوق وتطبيق مبادئ الهندسة البيوكيميائية لحل مشكلات طبية معقدة. هذه الإنجازات تمهد الطريق لعلاجات مستقبلية لأمراض الدم، وإصابات المفاصل، والفشل العضوي، مما يجسد رؤية شاملة لمستقبل الرعاية الصحية.

هذه الجوانب الإضافية تبرز ليس فقط إنجازات الدكتور الربيعي كباحث، بل كمهندس رؤيوي للمستقبل، حيث ربط بين أعمق المكتشفات البيولوجية والتطبيق العملي في صناعة الأدوية والطب التجديدي، ليترك بصمة لا تُمحى في تاريخ العلم والطب.

من المختبر إلى الوطن: مجابهة التخلف والخرافة

لم يقتصر اهتمام الدكتور محمد الربيعي على صرح العلم العالمي، ففي أعماقه، كان هناك نبضٌ قويٌّ لوطنٍ يعشقه، وشعورٌ عميقٌ بمسؤولية تجاه مجتمعه. بعد أن وصل إلى قمة العطاء العلمي، حوّل الربيعي طاقاته وخبراته نحو قضايا بلده الأم، العراق، ليواجه التحديات التي تعيق تقدمه، لا سيما في مجالات التعليم والتنمية.

بصفته رئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا)، وخبيرًا تربويًا، ومستشارًا فخريًا لرئيس الجمهورية العراقية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، انغمس الدكتور الربيعي في قضايا وطنه بكل شغف. أدرك أن بناء مستقبلٍ مزدهر يبدأ من جودة التعليم، فأصدر عشرات الدراسات والمقالات والكتب التي تركز على تطوير وتحسين جودة التعليم الجامعي.

من أبرز مؤلفاته في هذا السياق: "إطار ضمان الجودة وتحسين الجودة للبرامج في الجامعات العراقية"، و"نظام المقررات المبني على الوحدات – نظام بولونيا"، و"البرامج والمناهج والمقررات الحديثة"، و"المحاضرة التفاعلية". هذه الكتب ليست مجرد دراسات نظرية، بل هي خارطة طريق عملية للنهوض بالتعليم العالي في العراق والعالم العربي.

كما تعمق في قضايا التعليم في العراق بشكل أوسع، مناقشًا الصعوبات والتحديات ومقترحًا الحلول في كتابيه المهمين: "قضايا التعليم في العراق: صعوبات وتحديات وحلول" و"التعليم العالي في العراق: قضايا وتحديات وحلول". ولم يكتفِ بذلك، بل قدم رؤية مقارنة لأنظمة التعليم العالمية في كتابه الأخير "أسرار التفوق: رحلة عبر أنظمة التعليم العالمية"، ليفتح نافذة على تجارب ناجحة يمكن للعراق أن يستلهم منها.

رؤية متكاملة لتعليم يرتقي بالعراق

تتركز رؤية الدكتور الربيعي لتطوير التعليم في العراق على محاور أساسية تنطلق من إيمانه بأن التعليم هو قاطرة التنمية الحقيقية. فهو يشدد على ضرورة تطبيق معايير ضمان الجودة وتحسينها في البرامج الجامعية، مستنداً إلى خبرته العالمية لضمان أن تكون المخرجات التعليمية ذات كفاءة تنافسية عالمياً. يرى أن نظام المقررات الحديث ليس مجرد تغيير في الأساليب، بل هو وسيلة لتمكين الطلاب ومنحهم مرونة أكبر في اختيار مساراتهم التعليمية بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل المتغيرة.

يؤكد الدكتور الربيعي أيضاً على أهمية تحديث البرامج والمناهج الدراسية لتكون مواكبة لأحدث التطورات العلمية والتكنولوجية، وبعيدة عن الأساليب التقليدية التي عفا عليها الزمن. كما يولي اهتماماً خاصاً المحاضرة التفاعلية، معتبراً إياها أداة حيوية لتعزيز مشاركة الطالب وتحويل العملية التعليمية من التلقين إلى التفكير النقدي والإبداع.

وتتضمن رؤيته دعمًا قويًا لاستقلالية الجامعات، مؤكدًا أن استقلال الجامعات في إدارة شؤونها وتحديد مسار البحث العلمي يعد من الأمور الأساسية لتطور المؤسسات العلمية في العراق. لذلك، يدعو الدكتور الربيعي إلى منح الجامعات العراقية نوعًا من "الحُكم الذاتي"، معتبرًا ذلك الأساس لتقدم وتطوير الجامعة. فاستقلالية الجامعة والحرية الأكاديمية هي من الأساسات الهامة للغاية لبناء الجامعة في العصر الحديث. ويرى أن استقلالية الجامعة، بمفهومها المحدود، تعني حرية الجامعات وعدم خضوعها للسيطرة الخارجية في المسائل المتعلقة بالفعاليات الأكاديمية، وفي صياغة وتنفيذ السياسات والبرامج الجامعية. ويفترض أن تدار الجامعة المستقلة من قبل إدارة معينة أو منتخبة بالكامل من قبلها، وينبغي ألا يكون هناك إملاء من خارج الجامعة فيما ينبغي أن تكون عليه معاييرها الأكاديمية والعلمية، باستثناء الشروط التي تضعها سلطات التمويل لترشيد ومراقبة صرف الأموال الممنوحة من قبلها.

تتجلى هذه الرؤية في سعيه الدؤوب لحل التحديات والصعوبات التي تواجه التعليم العالي في العراق، من خلال مقترحات عملية مستقاة من خبرته الواسعة كخبير في شؤون التعليم العالي بمنظمة اليونسكو. يؤمن بأن تحقيق نهضة تعليمية يتطلب تعاوناً وثيقاً بين المؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص والحكومة، لخلق بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار، وإنتاج كوادر مؤهلة تسهم في بناء عراق مزدهر.

تحديات التعليم العالي في العراق وحلول رؤية الدكتور الربيعي

يواجه التعليم العالي في العراق جملة من التحديات المعقدة، التي تعيق تقدمه وتؤثر على جودة مخرجاته. من أبرز هذه التحديات:

- البنى التحتية المتهالكة ونقص التمويل: تعاني العديد من الجامعات العراقية من نقص حاد في المختبرات الحديثة، والمكتبات المجهزة، والتجهيزات التكنولوجية المتطورة، بالإضافة إلى ضعف الميزانيات المخصصة للبحث العلمي والتطوير.

- الأساليب التعليمية التقليدية: لا تزال الأساليب المعتمدة في كثير من الجامعات تعتمد على التلقين والحفظ، مما يحد من قدرة الطلاب على التفكير النقدي والابتكار والبحث.

- ضعف جودة المناهج: قد لا تكون المناهج الدراسية محدثة بما يتوافق مع التطورات العالمية في التخصصات المختلفة، ولا تلبي احتياجات سوق العمل المتغيرة، مما يؤثر على جاهزية الخريجين.

- هجرة الكفاءات: بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يعاني العراق من هجرة العديد من الكفاءات الأكاديمية والبحثية، مما يحرم الجامعات من خبرات قيمة.

- ضعف الارتباط بسوق العمل: هناك فجوة واضحة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل، مما يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة بين الخريجين.

- التحديات الإدارية والبيروقراطية: تعيق البيروقراطية وضعف الحوكمة في بعض الأحيان عملية اتخاذ القرارات وتنفيذ الإصلاحات الضرورية في القطاع التعليمي.

كيف تسهم رؤية الدكتور الربيعي في التغلب على هذه التحديات؟

تقدم رؤية الدكتور الربيعي حزمة متكاملة من الحلول لمعالجة هذه التحديات، مرتكزة على خبرته الدولية ورؤيته العميقة:

- ضمان الجودة كقاعدة أساسية: يؤكد الربيعي على أن تطبيق "إطار ضمان الجودة وتحسين الجودة للبرامج في الجامعات العراقية" هو الخطوة الأولى والأساسية. هذا الإطار يضمن تقييم البرامج التعليمية بشكل دوري وفق معايير عالمية، مما يجبر المؤسسات على تحسين بنيتها التحتية وتحديث مناهجها وتطوير قدرات كوادرها.

- تحديث المناهج والأساليب: من خلال مؤلفاته مثل "البرامج والمناهج والمقررات الحديثة" وتركيزه على "المحاضرة التفاعلية"، يدعو الربيعي إلى الابتعاد عن التلقين نحو تعليم يعتمد على حل المشكلات، والتفكير الإبداعي، وتنمية المهارات العملية. هذا من شأنه أن يجعل الخريجين أكثر قدرة على التكيف مع متطلبات سوق العمل.

- نظام المقررات المبني على الوحدات الاوربي لمرونة وابتكار: يدعم "نظام المقررات" الذي ينادي به، مرونة أكبر للطلاب في اختيار تخصصاتهم ومساراتهم، مما يمكنهم من بناء ملفات شخصية تتناسب مع متطلبات الصناعات الحديثة. هذا النظام، المطبق في الجامعات العالمية المرموقة، يشجع على التخصص الدقيق والبحث العلمي الموجه.

- ربط التعليم بالصناعة والبحث: بصفته خبيراً ومستشاراً لعدد كبير من الشركات الطبية والصيدلانية ومؤسسات البحث العلمي الأوروبية والعالمية، يسعى الربيعي لمد جسور التواصل بين الجامعات العراقية والقطاعات الصناعية والبحثية. هذا الربط يسهم في توجيه البحث العلمي نحو احتياجات التنمية، وتوفير فرص تدريب للطلاب، وزيادة فرص التوظيف للخريجين.

- جذب الكفاءات والاستفادة من الخبرات: بصفته رئيس "شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا)"، يعمل الدكتور الربيعي على خلق قنوات للتواصل والاستفادة من خبرات العلماء العراقيين في المهجر، وتشجيعهم على المساهمة في بناء القدرات البحثية والتعليمية داخل العراق، سواء من خلال برامج تبادل أو مشاريع بحثية مشتركة.

- الاستفادة من التجارب العالمية: يقدم كتابه "أسرار التفوق: رحلة عبر أنظمة التعليم العالمية" رؤية مقارنة لأنظمة التعليم الناجحة، مما يوفر للعراق نماذج يحتذى بها في تطوير منظومته التعليمية وتجاوز التحديات البيروقراطية من خلال تطبيق أفضل الممارسات الدولية في الحوكمة الأكاديمية.

إن مسيرة الدكتور محمد الربيعي ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي نموذج ملهم للعطاء العلمي والوطني. فبينما يواجه العراق تحديات جمة، تظل رؤى أمثال الدكتور الربيعي هي بارقة الأمل التي تشق طريقها نحو مستقبل تعليمي مزدهر، ينعكس إيجاباً على كافة مناحي الحياة في بلاد الرافدين.

***

بقلم الدكتور عبد الجليل البدري

لندن، ‏الثلاثاء‏، 21‏ تشرين الأول‏، 2025

في المثقف اليوم