قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لقصيدة: "بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي"

للشاعرة اللبنانية دلال برّو الساحلي

تعتبر قصيدة «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» نصّ غنائيّ يحاكِي تجارب الفقد والحضور المتردِّد، مع موسيقى داخلية تشدُّها مرجعياتٍ ثقافية وغنائية (بيتهوفن، «رسالة إلى إليزا»)، ومناخاتٍ موسمية (آذار، نيسان)، ورموز دينية ووطنية (مئذنة، «الله أكبر»، طقوس). منهاج القراءة هنا ينزع إلى فتح النصّ طبقةً بعد طبقة: الكشف عن دلالاته الظاهرة والباطنة، تتبُّع شبكة الصور والأساليب، وربط دلالاته بالبنى النفسية والدينية والوطنية التي تنزوي أو تندلع تحت الجلد الشعري.

1. التركيبة العامّة والصوت السرديّ:

١- الاسم الصوتيّ للقصيدة: صوت مُحاور مخاطَبٌ (أنتَ) — مخاطبٌ ثالثٌ غالبًا حنونٌ أو جارحٌ — والصوت الراوي/المخاطِبة يحمل مرارةً وحنينًا متقاطعين. تكرار صيغة الفعل «تركتَ يدي» يعمل كقيمة محورية تُعيدنا إلى فعل الانفصال المادي والرمزي: اليدُ هنا ليست فقط عضوًا بل رمزُ الفعل، رمزُ الحضور، رمزُ الإمساك بالعالم. تكرر العبارة يضخُّ لهيبًا من الخسارة ويحوّل الضياع إلى طقسٍ شعريّ.

٢- النّبرة: تُمزج فيها القداسة بالحنين واللوعة بالتهكّم الطفيف. الخطاب يسير بين السرد الشعري (صور الطبيعة، الشهور) والمخاطبة الموسيقية (بيتهوفن)، فيتشكّل نصًّا متعدد الأصوات: صوت عاشق، صوت متذكّر، صوت ناقد ذاتيّ.

2. البنية الموضوعية: الموسيقى، المطر، الشهور، واليد المغيَّبة:

١ - الموسيقى كإطار إشكالي:

افتتاح القصيدة بالإشارة إلى بيتهوفن و«رسالة إلى إليزا» يضع الموسيقى كقلبٍ للذاكرة والوجع. الموسيقى هنا ليست زخرفة: هي حافظة الذاكرة والمكث النفسي؛ هي «الزمان» الذي يعزف الحنين. «قد تركتَ يدي تعزف زوايا ومسامات» صورة تكثّف فكرة أن اليد المادية تترك أثرًا موسيقيًا/مكانيًا: الزوايا والمسامات مكانية وحسّية في آن، كأن الفقد يترك الخريطة التي تعبرها الريح.

٢ - المطر والرذاذ ـ أمواج الشوق:

العنوان ذاته «بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي» يقوم بتفكيك الحواس: المطر كحبيبات (تفصيل، دقّة) والرذاذُ في الفم — صورة تُحوّل المطر إلى فعل كلامٍ أو ذوق: الشاعرة تتذوقُ الغياب. هنا تداخل حسيّ (سماعي/لمسي/ذوقي) يفضي إلى تجربة شِعريّة متعدّدة البُعد.

٣ - الشهور: آذار ونيسان ورمزية الربيع

تردُّ الشهور (آذار، نيسان) أكثر من كونها فواصل زمنية؛ هي رموز استدعائية: آذار (مارس) يرتبط بالذروة الشتويّة/بداية الربيع وأحيانًا في الذاكرة العربية بحدثية سياسية (مثلاً: حركة آذار/مارس في بلدان العرب أو دلالات وطنية محلية)، ونيسان (أبريل) يحمل وعد التفتح. قول الشاعرة «أنّ.. ربما أنّ / "نيسانَ" آتْ..؟» يدل على رهبة الأمل، على مفارقة: هل يأتي الربيع؟ أم أنّ الزمن قد تآكل حتى أمل الربيع صار احتمالًا متردّدًا؟ التردّد في الجملة النحوية (الشرط ـ الاستفهام ـ العلامة الإيقاعية) يعكس تقلب النفس بين انتظارٍ ويأس.

3. البُنى الأسلوبيّة والصوتيّة:

١- التكرار (أنفورّا): «تركتَ يدي» — تكرار يبني إيقاعًا وصدىً دراميًا، يُرسّخ فعل الفقد كطقس متكرر.

الاستطراد/القطع: الترقيم المتقطع، والشرطات، والمواضع النثرية تُشبه موسيقى البيانو: مفاتيح دقيقة ومفاتيح مفصولة.

٢- الصور المجازية المركبة: «ترسمُ الريح أخيلةً وهودج» ـ «هودج» مجاز للنقل/السفر يقترن بخيالٍ يعود إلى العوالم الشرقية، فيحدث تقاطع بين الغرب (بيتهوفن) والشرق (هودج، شهرزاد).

٣- التناصّ: إشارات مباشرة إلى بيتهوفن و«إليزا» وشهرزاد تعطي النص أفقًا بينيًّا غنيًا: تجمع بين التراث الغربي الكلاسيكي والتراث الشرقّي الشعبي/السردي.

٤- التناص الموسيقي: شيفرات إيقاعية وكسر في الجملة تُشبه عازفًا يفقد إيقاعه، أو عازفًا يترك مقطوعة نصفَة على البيانو.

4. البُعد الرمزي والسيميائي:

١- اليد رمز مركزي: اليد تمثل الفعل والالتقاط والقدرة على الإمساك بالعالم. «تركتَ يدي» يرمز إلى فقدان القدرة على المواصلة، أو تلقي الأثر، أو فقدان التواصل الحسيّ. اليد «مدبوغة ببقايا نغمات» توحّي بأن أثر الموسيقى قد دبغ الجلد، أي ترك علامة دائمة.

٢- الموسيقى والكتابة.

الموسيقى تُعرض كرسالة حب (رسالة إلى إليزا)؛ كذلك الكتابةُ الشعريّة تشبه الرسالة، وتتحول القصيدة إلى سِجلّ من محاولات التأويل والإعادة: كيف نقرأ الرسائل التي تتركها الأجساد والأمكنة؟ الموسيقى تُعيد تشكيل الوجود بمنطقٍ خارج المنطق اللفظي.

٣- الشهور كرموز أيديولوجية.

آذار ونيسان يمكن قراءتهما موسمياً — فجر الربيع — وسياسيًا كدلالات زمنية لذكرى أو انقلاب أو حراك. الشاعرة لا تقول، لكنها تستثمر دلالات الشهور لتلوين المزاج: آذار كطقس حزن يتخذ شكل «أريكة الثلج»، ونيسان كوعد متردِّد.

٤- الرموز الدينية: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر»

٥- المقاربة الدينية هنا مركّبة: «مئذنة الحرمان» تتداخل مع تكبير «الله أكبر» في لحظة «مباحة»، والتضاد بين مقدّس وممنوع أو مباح هنا يشي بثنائيات: الخلاص/الحرمان، الصلاة/الغنائية، الطقس الديني/الطرب الإنساني. «مئذنة الحرمان» هي استعارة قوية: المئذنة هنا لا تُنادِي لصلاة الفرح بل تُنادي على غياب أو حظر؛ هي مئذنةٌ تصدُر منها صرخات الحرمان بدل الأذان. هذا الاستخدام يحيل إلى توترٍ بين الدين كمصدر رجاءٍ وميدان للغياب أو القمع.

5. البُعد النفسيّ: الحنين، الفقد، الندم:

الهيمنة في النصّ نفسية: الشاعرة تؤسس نصًّا منفرجًا حول «اليد المغيّبة» كرمز للخسارة الذاتية، والذاكرة الموسيقية كقُربٍ مؤجل، والحنين كقوة تنتظم في طبقات. «مُذ كان الحنينُ كبيراً» تشير إلى تاريخية الشعور: الحنين ليس حدثًا عابرًا بل حالة متجذّرة. التكرار الإيقاعي والنغمات المعترَضة تعملان كآليات للاستعادة العاطفية: إعادة العزف على ذاكرةٍ مشروخة تحاول أن تُعيد تشكيل الإيقاع.

6. البُعد الديني والوطني: قراءة تآزرية:

القصيدة تشتغل على نصفقة بين الديني والوطني: «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» غايتها ليست الوعظ بل إبراز التوتر: كيف يصبح المقدس وسمًا للحرمان؟ في السياق اللبناني، مثل هذه الصور قد تستحضر لحظات تاريخية من التوتر الطائفي والسياسي، لكن الشاعرة لا تتحول إلى رويترٍ سياسي: هي تستثمر العلامات لخلق روحٍ حالمة/مؤلمة تعكس جمعًا إنسانيًا يتألم من الانقسامات. لذا يمكن قراءة القصيدة كقضيب شبه وطني/اجتماعي يختزن ألم الذاكرة المشتركة، دون أن تكون قصيدةً دعائية.

7. المقاطع المفتاحية — قراءة تأويلية قريبة:

أ. الافتتاحية:

«بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي / على رائعة بيتهوفن و"رسالة إلى إليزا"»

التزاوج بين المطر والموسيقى يقترح استعارة حسّية مركبة: المطرُ هناك ليس مجرد حالة جوية بل خبرة صوتية وذوقية. «الرذاذ فمي» يوحّي بالكلام الذي يتشكل من حزن الرطوبة، وبمقدرة الشاعرة على تذوق الغياب بلعًا.

ب. «تركتَ يدي تعزفُ زوايا ومسامات»

الجملة تشتغل كمقولةٍ مركزية: اليدُ التي تُترك تعزف رقةً على بنية المكان (زوايا) وعلى بنية الجسد (مسامات): الفقد يُعزف على الفراغ نفسه.

ج. «بَقافل اللوز والزهرُ عيني»

صورة ربيعية تعود لتخفي حزنًا: قوافل اللوز تظلّ رمزية للربيع والخصوبة؛ لكن هنا الزهرُ في العين: لا يرى الزهر، بل تُقحم العين الزهر، أي أنَّ النظر مُلبّس بالأمل المؤجل.

د. «تركتَ يدي مُخلّفةْ على أريكة الثلج / على مراسمِ آذارْ»

أريكة الثلج: مفارقة بصرية تدمج الراحة (أريكة) والبرد (ثلج): استقرار مؤلم. مراسم آذار: طقس موسمي/ذكرى. اليد تُترك في طقس ميت/بارد؛ الفقد يتحول إلى طقس.

هـ. «قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ / حين "الله أكبر" مُباحْ»

هنا قمة العبارة الرمزية: الشاعرة تُشبّه ذاتها بمئذنةٍ لا تؤذن إلا للحرمان، ونغمة «الله أكبر» تصبح مباحة — أي أنها محرّفة أو مُستباحة كناية عن استباحة المقدّسات أو استباحة الحزن باسم الدين. هناك نقد مبطن أو تأمل في استغلال المقدس أو في انقسام القيم.

8. تفصيل دلالي لبعض المفردات والمركبات المهمة:

١- حُبُوب المطر: دلالة على تفتيت الكل إلى ذرّات صغيرة؛ تقصّي التفاصيل في الحزن.

٢- الرذاذُ فمي: المزج بين حاسة التذوّق والإحساس بالمطر؛ الكلام الذي يبلع الحزن كالرذاذ.

٣- رسالة إلى إليزا: تناص مباشر لمقطوعة شهيرة تعبّر عن حنين رومانسي أو فقدٍ صغيرٍ جميل/مرير.

٤- زوايا ومسامات: تصوير مكاني/جسدي؛ ترك أثر الفقد في المكان والجسد معًا.

٥- هودج: رمز شرقي للنقل والستر؛ يقرأ كحِمل الذكريات أو الرحلة.

٦ - قوافل اللوز: تقليد ربيعي؛ اللوز رمز لتفتحٍ أولي، تلمّح إلى ربيع مُعَقَد.

٧ - أريكة الثلج: صورة تضادّية تخلق شعورًا بالراحة الميتة والجمود العاطفي.

٨ - مراسم آذار: إضفاء طابع طقسي أو تذكاري على شهور الربيع، يحتمل البُعد السياسي.

٩ - شهرزاد الليالي: مرجعية سردية؛ شهرزاد ترمز إلى الحكاية التي تنقذ من الموت بالقصة، إذن هناك بحث عن الخلاص عبر الحكاية/الليل.

١٠ - مئذنة الحرمان: مركب رمزّي قوي: المئذنة مألوفة كنداءٍ، لكنها هنا تصدح بالحرمان، أي انقلاب الوظيفة الروحية.

١١ - صومعة الموسيقى: تركيب استعارى يجمع بين «الصومعة» كمكان انفصال عن العالم و«الموسيقى» كقُدسٍ داخلي؛ موضع الانطفاء الذاتي للغناء.

9. القراءات التأويلية الممكنة (مستويات):

1. قراءة شخصية/عاطفية: قصيدة حبّ/فقدٍ؛ علاقة انتهت وتركت أثرًا موسيقيًا في الجسد والزمان.

2. قراءة نفسية: نص عن سويداء الذاكرة؛ اليد رمز الفاعلية التي فقدت، والموسيقى تمثل ترجمة نفسية لصدى الفقد.

3. قراءة دينية/روحانية: توتر بين المقدس والممنوع؛ «مئذنة الحرمان» و«الله أكبر» كدلالات لصراع بين الدين والحرمان الإنساني.

4. قراءة وطنية/اجتماعية: الشهور والطقوس الدينية والصور الجماعية قد تشير إلى ذكريات وطنية أو لحظات تحوّل اجتماعي (مناسبات سياسية أو أعيادٍ تحمل ذاكرة مؤلمة).

5. قراءة سيميائية: النص شبكة من علاماتٍ قابلة لإعادة القراءة؛ موسيقى/مطر/شهور/يد = نظام علامات لا يثبت دلالة واحدة بل يتنوع باختلاف القارئ.

10. الخاتمة والتوصيات البحثية:

قصيدة دلال برّو الساحلي تنجح في أن تكون مشهدًا متعدد الأبعاد: هي رسالة حب مُنهَكة، هي معزوفة فقد، هي تأمل ديني/وطني في فضاءٍ واحد. البراعة في النص تكمن في توحيد التناصّات (الغربي والشرقي)، والحواس، والزمن، والطقوس، في لغةٍ تكاد تُغني. الشعر هنا ليس تعبيرًا عن حدث واحد، بل هو مشهدُ ذاكرةٍ مركّب يتحوّل مع كلّ قراءة إلى فضاءٍ جديد من المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

بحبوبِ المطرْ والرذاذُ فمي

على رائعة بيتهوفن

و " رسالة إلى إليزا "

مِنكَ إليّ ,

قد تركتَ يدي

تعزفُ زوايا ومساماتْ

ترسمُ الريح أَخيلةَ وهودجْ

و تقترفُ إثماً

أنّ.. ربما أنّ

" نيسانَ " آتْ..؟

**

بقوافل اللوز والزهرُ عيني

تركتَ يدي مَدبوغة ببقايا

نغماتٍ تعترفُ لِخيولك

و بالذي كانَ وكانْ..

فهلْ تبكي يوماً على جَيدِ

خِسارتها،الفرسان ؟..

**

تركتَ يدي

مُخلّفةْ على أريكة الثلج

تركتَ يدي

على مراسمِ آذارْ

و ما أدراك

ما لُغز الغاباتْ

و الأشجار على تكايا

شهرزاد الليالي

و ما لمز الآهاتْ

- مُذ كان الحنينُ كبيراً –

على سبيل الحرير والشطآنْ..

**

قدْ.. تَشبهني مِئذنة الحرمانْ

حين " الله أكبر " مُباحْ

نسيتُ أنّي،

في صومعة الموسيقى

أطفأتُ أُغنيتي

و نَفَس المصباحْ ؟

***

دلال برّو الساحلي / 14 / آذار

 

في المثقف اليوم