قراءات نقدية

حسن الحضري: القناع النقدي ورمزية الشُّخوص في مسرحية ميسون حنا "الرباط الأزلي"

أحيانًا تحتاج عملية النقد إلى الكلام على لسان الآخر، وهو ما يمكن تسميته بالقناع النقدي، وقد يكون النقد حينئذٍ أبلغ أثرًا وأعمق موقعًا، وهذا يعني أن القناع النقدي ليس دليلًا بالضرورة على الخوف أو ما أشبهه؛ بل هو أمر إيجابي في بعض الحالات، ومن أمثلة القناع النقدي كتاب (كليلة ودمنة) الذي ترجمه إلى العربية ابن المقفع [ت: 142هـ]؛ وتُعَد مسرحية (الرباط الأزلي) للكاتبة الأردنية ميسون حنَّا نموذجًا واضحًا للقناع النقدي المحمود، من خلال الشخوص الرمزية التي أُسنِد إليها الحوار وظهرت في مشاهد المسرحية؛ وهي شخصيات (الحياة، القدر، الإرادة)، وباعتبار حضور هذه الشخصيات الرمزية عتبة من عتبات النص؛ فإنها تكشف عن اتجاه ميسون حنا في هذه المسرحية إلى النقد الاجتماعي تحديدًا، وذلك من حيث مدلول كلٍّ من هذه الشخصيات الرمزية، واستشراف ما يمكن أن يقال على لسانها أو يُنسَب إليها مِن فعلٍ أو أداءٍ حركي أو مظهرٍ بصري أو نحو ذلك؛ ويمكن تناول أمثلة للنقد الوارد بهذا الشكل، على النحو الآتي:

 تتقنَّع الكاتبة خلف الشخصية الرمزية "الحياة" وتصف القدر بالكائن السلبي، ثم تقول له: «إنما البشر ظرفاء، أهكذا يسمُّونك؟!»، وقد جاء وصفُ القدر بالسلبي من قبِيل المجاز؛ نظرًا إلى كثرة (السَّلبيِّين) الذين يتعلَّلون بالقدر وهو من أخطائهم وفشلهم بَرَاءٌ، ثم وصفت الكاتبة البشر بالظرفاء؛ مِن قبِيل السخرية، وهي تقصد تلك الفئة العريضة من البشر، الذين لا يجدون سِتارًا لأخطائهم أو فشلهم إلا القدر، وفي سياق النقد عَبْر ذلك القناع يقول القدر بعد أن رفضت الحياة حبَّه والزواج منه: «تتهمينني بالغرور ولستِ أقل مني تيهًا بنفسك»؛ فالذي تقصده الكاتبة أن تنقل رؤية الناس للحياة كما يرونها، فذكرت هذه الرؤية على لسان القدر، ولما اعترضت الحياة على كلام القدر؛ علَّل كلامه بقوله لها: «أفعالكِ تجبرني على تخطِّي حدودٍ وضعتها التقاليد حولك وليس القوة»، وفي هذه الجملة تسخر الكاتبة على لسان القدر، من الناس؛ إذْ يعظمون شأن الحياة الدنيا وهي لا تستحق، وتأكيدًا لذلك تستطرد الكاتبة على لسان القدر مخاطبًا الحياة: «عجبت لجرأتي وجهارتي منذ لحظات؛ إذْ خرقتُ العادة وطرقتُ بابك الحصين الذي لم يجرؤ أحد أنِ اقترب منه أو حاذاه»، وفي هذا السياق تكشف الكاتبة موقف الحياة ممن يلهثون خلفها، فتقول على لسان الحياة معلِّلة رفضها حب القدر: «أنا لا أستطيع أن أكون حبيبة لِمَملوكٍ لي ولعبدٍ صنعته»؛ فهذه الكلمات تقصد الكاتبة توجيهها إلى عُبَّاد الحياة من البشر، لكن ذكرتها على لسان الحياة ليكون ذلك أبلغ أثرًا في نفوس الناس؛ إذْ علموا موقف الحياة الدنيا التي يتكالبون عليها ويعظمون أمرها.   

وبعد أن بيَّنت الكاتبة من خلال هذا القناع النقدي، الوجه الحقيقي للحياة الدنيا؛ عادت لتكشف أيضًا عن الوحه الحقيقي للقدر، من خلال هذا الحوار:

«القدر: إني أستطيع هدم الحياة في غمضة عينٍ.

الحياة: أيها المغرور؛ لو كنت تستطيع هذا حقًّا فماذا تنتظر؟!.

القدر: التاريخ يشهد عظمتي؛ فكم حربٍ أشعلت، وكم زلزالٍ أحدثت و...؟!!!.

الحياة: بالرغم من كل ما ذكرتَ؛ الحياة في نموٍّ مستمر وازدهار متزايد».

وهذه الجملة الأخيرة على لسان الحياة هي هدف الكاتبة من هذا الحوار بين الحياة وبين القدر، تريد به الكاتبة أن تصحح المفاهيم لدى من يحتج بالقدر وهو في الحقيقة مُستكين مستسلم لا يحاول السعي والاجتهاد؛ وتستطرد الكاتبة في التحاور بين الشخصيتين الرمزيتين:

«القدر: عزائي الوحيد الرهبة التي أحيط بها نفسي؛ فالجميع يهابونني.

الحياة: هل يجب عليَّ أن أهابك كي تستريح؟!!

القدر: إني أحسد لك الحب الذي يحيطونك به.. أقصد البشر»

وحين يتحاور القدر والحياة، ويكشف كلٌّ منهما مكانة الآخر عند الناس؛ فإنَّ ذلك له أثره الكبير في تقبُّل المتلقي لِما يكشفه الطرفان من حقائق، ولا سيَّما أن المتلقي يعلم هذه الحقائق ويدركها جيدًا، فيكون تلقِّيها من طرفَيِ الحوار بمثابة التأكيد، فهذا من فوائد التقنع خلف هذه الشخصيات الرمزية.

وتمضي أحداث المسرحية، ويقوم القدر بتشتيت سكان "الجزيرة المخملية"، ثم يجتمعون مرة أخرى، وعند ذلك يزعم القدر أنه هو الذي جمع شملهم بعد شتاتٍ وأعادهم إلى الجزيرة، ويتصاعد الحوار على هذا النحو:

«القدر (مفاخرًا): لقد أعدت السكان إلى موطنهم.

الحياة: أنت؟!!.

القدر: وها هم يعمرون ما قد تهدَّم.

الحياة: لا أصدق أنك فعلت هذا!!.

القدر: لا بد من التصديق.

(الإرادة تنظر إليه باستنكار شديد)»

إن ظهور "الإرادة" واستماعها إلى هذا الحوار له دلالته الواضحة، تلك الدلالة التي تواجه بها ادعاءات القدر فتقول: «ولكني أنا التي أَعَدْتُهم وليس أنت، وبعد أن باشروا أعمالهم هذا الصباح؛ شعرت بأنني حققت انتصاري، فجئت أحتفل بهذه المناسبة، وفجأة أسمعك تنسب لنفسك ما أنت بعيد عنه كل البعد!!».

إن هدف الكاتبة من وراء هذا الحوار على ألسن الحياة والقدر والإرادة؛ هو إظهار انطباعات البشر نحو هذه الثلاثية؛ فهم يحبون الحياة، ويتعللون بالقدر حين يفشلون في أمرٍ من أمورهم، وينسون أن الله تعالى خلق فيهم الإرادة؛ التي لو وظَّفوها بشكلٍ صحيحٍ لانتصروا على الفشل الذي ينسبونه إلى القدر.

وفي سياق السعي إلى تحقيق هدفها تجعل الكاتبة الاعتراف بالتخاذل الذي يقع فيه البشر؛ يأتي على لسان القدر الذي يتعلَّلون به، كما في هذا الحوار:

«الإرادة: مساكين أهل هذه الجزيرة؛ يحسبونك لا تؤذي أحدًا!!!.

القدر: إني لبق في إيذائي؛ ألدغ كالثعبان وأبتسم كالهرِّ». 

ويدور في المسرحية حوار بين بعض الشخصيات البشرية، حول بعض الأحداث، يحاول القدر من خلالها إثبات قدرته على تنفيذ ما يقول، ويحتدم الجدل بينه وبين الإرادة، وكلاهما يحاول إثبات انتصاره على الآخر، وتعود الحياة لتشترك معهما في الحوار بعد أن تخبرهما أنها كانت تراقب الأمور عن كثبٍ ولم تبتعد عنهما، وتستطرد الكاتبة في الحوار بين الشخصيات الرمزية الثلاثِ، ونلمس المزيد من الحكمة في مثل هذا الجزء من الحوار بين الإرادة وبين الحياة:

«الإرادة: آمل ألَّا يصل بنا الأمر للخصام.

الحياة: أنت لا تستطيعين خصامي؛ لا وجود لك من غيري.

الإرادة (بانكسار): صدقتِ؛ هذه هي الحقيقة».

وفي هذا المقتطف من الحوار حكمة واضحة هدفت الكاتبة إلى إبرازها؛ وهي أن الإرادة مفقودة عند الموتى، وفي ذلك دعوة من الكاتبة إلى التمسك بالإرادة؛ فالإنسان ما دام حيًّا لا بدَّ أن يستحضر إرادته؛ التي يتخطى بها الصعاب والأهوال، ويبرأ من التَّعلُّل الكاذب بالقدر؛ وقد عملت الكاتبة على تأكيد رؤاها التي تدعو إليها في هذه المسرحية، من خلال مواجهات واعترافات الشخوص الرمزية التي جاءت بها لتكون بمثابة قناعٍ يُعِين الكاتبة على إبراز رؤيتها النقدية.

***

حسن الحضري

في المثقف اليوم