قراءات نقدية
غريب دوحي: الاغتراب في الشعر العربي
اجارتنا انا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
ولو ان هذا البيت من الشعر القديم لكني ارتأيت ان ابدأ به لأن امرؤ القيس صاحب هذا البيت هو اول من بكى على الاطلال وأول الغرباء في الشعر القديم.
يعرف الاغتراب بأنه انفصال الانسان عن بيئته او مجتمعه وواقعه الذي يعيش فيه وذلك لغياب الانسجام والتآلف بينهما، ويقول النقاد انه على نوعين: الاغتراب الماركسي والاغتراب الوجودي، الشعراء بشكل خاص عاشوا هذه الأنواع سواء في العراق او في بلدان العالم العربي والعالم ايضاً، ففي العراق ظهر الاغتراب في وقت مبكر في شعر عبدالوهاب البياتي: 1926-1999 لكونه عاش بعيداً عن وطنه وقد عانى من حياة المنفى الذي انعكس على قصائده مثل ديوانه (اشعار في المنفى) وللبياتي مقولة بهذا الصدد (يموت الشاعر منفياً، او منتحراً او مجنوناً او عبداً او خادماً في هذي البقع السوداء وفي تلك الاقفاص الذهبية..).
وفي احدى قصائده يقول:
أهكذا تمضي السنون؟
ويمزق القلب العذاب
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء، يا قَمَرِي، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت
شاعر عراقي اخر تتفجر في قلبه ينابيع الغربة القاتلة والحنين الى الوطن رغم انه في (الكويت) بلد عربي ليس بعيداً عن العراق، يكتب قصيدته الرائعة (غريب على الخليج) منادياً العراق عبر مضامين وطنية عالية التأثر فيها من الاحاسيس ما هو أروع، يقول الشاعر بدر شاكر السياب مخاطباً زوجته:
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه
وفي قصيدة أخرى من قصائده في الغربة يقول بدر شاكر السياب:
لأنّي غريب
لأنّ العراق الحبيب
بعيد وأني هنا في اشتياق
إليه إليها أنادي: عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى
أحسّ بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيب
ندائي
وإمّا هززت الغصون
فما يتساقط غير الردى
شعراء عرب اكتووا بنار الغربة وعانوا من مساوئ الاحتلال هم شعراء الأرض الفلسطينية أمثال: محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، لقد عرفوا حياة السجون والمنافي، عاشوا تحت الاستعمار الإسرائيلي القاتل (ادفع دولاراً تقتل عربياً) سميح القاسم هو احد هؤلاء الشعراء، الشاعر الذي تعامل مع التاريخ اكثر من تعامله مع الأرض يقول سميح القاسم (1939-2004) في قصيدة اسمها (أغاني الدروب) بعنوان (غرباء):
وبكينا.. يوم غنّى الآخرون
ولجأنا للسماء
يوم أزرى بالسماء الآخرون
ولأنّا ضعفاء
ولأنّا غرباء
نحن نبكي ونصلي
يوم يلهو ويغنّي الآخرون
وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا
و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا
شرذماتٍ.. من يتامى
و طوينا في ضياعٍ قاتم..عاماً فعاما
وبقينا غرباء
وبكينا يوم غنى الآخرون
شاعرة من نابلس الفلسطينية، تسمى شاعرة الحب والثورة هي فدوى طوقان (1917-2003) في قصيدة لها بعنوان (لن ابكي على اطلال يافا) تقول:
على اطلال يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور .
بين الردمِ والشوكِ
وقفتُ وقلتُ للعينين :
قفا نبكِ
على أطلال من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدار
وتنعى من بناها الدار
وأنّ القلبُ منسحقاً
وقال القلب: ما فعلتْ؟
بكِ الأيام يا دارُ؟
وأين القاطنون هنا
فأين الحلم والآتي وأين همو
وأين همو؟
ولم ينطق حطام الدار
ولم ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمت الصَّمتِ، والهجران
وكان هناك جمعُ البوم والأشباح
غريب الوجه واليد واللسان وكان
يحوّم في حواشيها
وغصّ القلب بالأحزان
كانت هذه القصيدة التي كتبتها فدوى عام 1968 هدية لشعراء المقاومة الفلسطينية وقد عبرت فيها عن اسفها على البكاء واقسمت انها لن تبكي بعد لأن البكاء لا يفيد شيئاً.
وهكذا فأني قد اخترت شعراء من العراق هما البياتي والسياب وشعراء من فلسطين هما سميح القاسم وفدوى طوقان لان البلدين يجمعهما شيء واحد وقاسم مشترك واحد، اما هؤلاء الشعراء يجمعهم هاجس واحد هو الشعور بالغربة ومأساة الوطن الذي يعيشون فيه ويعانون من اجله.
***
غريب دوحي