قراءات نقدية

عدنان الظاهر: مع منازل العِطراني

لا أُكرّرُ ما كتب غيري عن رواية (منازل العطراني)* لكني أُحاول أنْ أُركّزَ على أمور أُخرى لم يمسسها ــ كما إخالُ ــ السادة الذين تصدوا لهذه الرواية وكتبوا عنها. أقولُ هذا الكلام لأني أتميّز عن سوايَ من هؤلاء السادة المحترمين في أني عاصرتُ وزاملت بطل الرواية (محمد الخَلَف) لقرابة الأربعة أعوام مساهمين في تحرير صفحة [التعليم والمعلم] في جريدة طريق الشعب البغدادية الناطقة بإسم الحزب الشيوعي العراقي. كما عرفتُ أحد أبنائه الذين عملوا في القسم الفني لهذه الجريدة وهو (البطل سامي) الذي اختطفه البعثيون في العام 1979 أو ربما في 1978 إبّان غدر وخياتة البعث لحليفه في الجبهة الوطنية والتنكّر للعهود ومبادئ هذه الجبهة فطورد مَن طورد وأُعتقل من أُعتقل وأُختطف مَن أُختطف وغَيّبَ ثم أُعدم وكان سامي حسن العتاّبي أحد هؤلاء. وفئة أُخرى كبيرة استطاعت مغادرة العراق على عَجَل للبحث عن مأوى آمن والتشتت في مختلف بقاع العالم وكان أحد أبناء محمد الخلف أحد هؤلاء.. فئة أخرى من الشيوعيين إلتحقت بقوات الأنصار في جبال كردستان تقاتل جيوش دولة قوية مارقة مُنفلتة لا تعرف ذمّةً ولا تصون عهداً ولا تلتزم بميثاق. واستطاع أحد أبناء (محمد الخلف) ترك العراق والإلتحاق بهذه القوّات. إثنان من أولاد محمد الخلف سيقا للقتال في الحرب العراقية ــ الإيرانية 1980 / 1988.. أُصيب أحدهما بشظية قنبلة كسرت ذراعه. أما ولده الأكبر الذي أكمل دراسته في كلية التربية في جامعة بغداد (أظنه جمال حسن العتابي كاتب هذه الرواية) ومارس التدريس في الفلوجة وبغداد فكان وضعه وضعاً آخر: ما كان شيوعياً نشطاً معروفاً لكنْ كان صديقاً للشيوعيين وعن طريقه قَبِلَ والدُه مساعدة الشابَ الشيوعي سليم والتوسط لتوظيفه مأمورَ مخزن في شركة يُديرها مهندس صديق للشيوعيين. أظن إني أعرفه.. عرّفني عليه في العام 1976 / 1977 الصديق المهندس حكمت الفرحان وزرناه ذات يوم في بيته المنيف في إحدى مناطق بغداد لا أتذكرها جيداً. ترك خالد مهنة التدريس وعاش متخفيّاً متنقلاً بين بيوت الأقارب والأصدقاء ولم يغادر العراق حسب المكتوب في الرواية.

الموضوعة الرئيسة في هذه الرواية هي: ما هو مصير المناضل الشيوعي الذي يُسجن ويهرب من السجن ويعيش متخفياً في بيوت الأقارب في جنوب العراق (في قرى مدينة الكوت / العطراينة) عيشة قلق وخوف دائم في بيوت من طين بائسة لا تتوفر فيها شروط الحياة النظيفة والمقبولة حدَّ الإختباء في حفرة لا تكادُ تسعُ جسده. هذا المناضل ترك وظيفته وترك عائلته بدون معيل ومورد وأحسن كاتب الرواية في وصف حال والدته زوجة محمد الخلف وأبدع في تصوير حالاتها خوفاً على مصير زوجها وأولادها وبناتها. أعود للسؤال إيّاه: ما مصير المناضل الذي يجد نفسه مُضطرّاً لترك وظيفته ومصدر رزقه الوحيد وعائلته الكبيرة ليتخفى بعيداً عن عيون الأعداء؟ لا أُجيب لكنْ الأسئلة التي وضعها الروائي تكفي وتوضّح أحسنَ توضيح من قبيل {.. تبدو لي الفكرة مقبولة الآن باشرْ بتنفيذها، تُرى كيف ستكونُ الحفرة، ما شكلها؟ أمامي صورة قاتمة لها: تراب، طين، روائح كريهة تنبعث من فضلات الحيوانات، مطر، رطوبة، تَرَقّب، إنتظار، كل هذه الهواجس تُعيدُ لي الأسئلة مُجدّداً، مَن الذي قادنا إلى هذا المصير؟ مرّتْ في رأسي موجات متوالية مضطربة من الأفكار والذكريات، الهزيمة التي تربضُ في دمي تمطّت في حلقي، في ذاكرتي، فقلتُ بتحدٍ:

أنتَ أيها المغوار تقاومُ الآنَ الهزيمةَ وحدكَ!

شعرتُ بحزنٍ يغمرني كأنه ثوب من حديد، هزّات رأسي تتزايد برتابة مجنونة، قلتُ لأقنعَ نفسي بالفكرة، الحُفرة ستضيفُ عنواناً لخيبة لا تنتهي}

(مَن الذي قادنا إلى هذا المصير)؟ سؤال وجودي ثم سياسي ــ إجتماعي ــ ثقافي ــ فلسفي. أحسبُ أنَّ الأفضل أنْ يكون السؤال (ما الذي قادنا إلى هذا المصير؟) بدل مَن الذي قادنا. نحن نعرفُ مَن قادنا ولكن يحتاج الأمر برمّته إلى الإستفسار عن السؤال المصري الأكبر (ما الذي قادنا).

محمد الخلف لم ينهزمْ.. لم يتبرأ من الحزب ولم يخُنْ الأمانات ولم يُفشِ أسراراً ولم يسبَّ أحداً من الشيوعيين كما فعل مرتدّون سقطوا معروفون في الأوساط السياسية والثقافية وعالم الشعر. تحمّل وعائلته ما تحمّل وتحمّلت ولم يقدّمْ براءةً تُنشر في الصحف ليستأنف وظيفته السابقة معلّماً في مدارس العراق. إلتزم الصمت حتى آخر أيام حياته.. لم يرجع لتنظيمات الحزب الشيوعي لكنه ظلَّ صديقاً وفيّاً للشيوعيين نقيّاً نبيلاً وسمعتُ أنَّ البعثيين لم يقتلوه خلال هجمتهم الهمجية الدموية الغادرة على حلفائهم الشيوعيين في الجبهة الوطنية كما فعلوا بصديقه وزميلنا في تحرير صفحة التعليم والمعلم المربي البطل عبد الستار زُبير أبو إيمان.

أفكار لمحمد الخلف تستحق التوقف لمناقشتها والحفر لإستجلاء بواطنها وهل فيها تخلٍ عن المبدأ الذي اعتنق وضحّى في سبيله وتشرّد وعانى وأهلُ بيته؟ أقولُ هذا الكلام لأنَّ أحد الكتّاب نشر قراءة لرواية (منازل العطراني) ركّزَ أو أشار فيها إشارات قوية أنَّ الشيوعي السابق محمد الخلف ندمَ على شيوعيته السابقة وكنتُ كتبتُ ونشرت رداً بالأدلّة الحية التي عايشتها أُفنّد فيها ما كان هذا الأستاذ قد ادّعى فيما كتب. أنقل حرفياً ما جاء في الصفحة 131 من الرواية:

(.. نهض خالد مُسرِعاً يتلفُّ مُتوَجِساً، إنشغل تفكيرهُ بمحاولة ترتيب أسئلته الحائرة لأبيهِ عن معنى التفاني،وجدها فُرصةً للسؤال عن قضية أكبر: لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ (المجد) الذي ينالهُ الآباءُ؟ من أعطاهم الحقَ بذلك؟ هل أخذوا إذْناً بالموتِ ليرمِّلوا الزوجات، ليذهبَ أولادهم إلى التيه !! ما معنى البطولات برؤوس اليتامى؟؟

- الإشكالية باعتقادي يا خالد أنَّ الجماعة تُلزِمُ بتقديم القرابين من أجل القضية، ما من شهيد إلاّ ورددَ أنه سيموتُ، لأنَّ القضية التي ماتَ من أجلها ستعيش، عَبِرها ستعيشً ذكراهُ أبداً، البطلُ هو مَن يُضحّي بنفسهِ من أجل سواهُ، أو من أجلِ قضيّة يرفعُها إلى مرتبةِ القداسة، هناك مَن يرى في البطل قدرته على الموتِ بقدِرِ ما يملكُ من قُدرات على قتلِ غيره.

- أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية!

- ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسانٌ يُمارسُ القتل لنشرِ عقيدةٍ يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يُعدُّها عادلة، فيما هي غيرُ ذلك في نظرِ سواهُ، الإلتزام بحدِّ ذاتهِ يتحدد مضمونهُ وقيمتُهُ بمدى اقترابه من استمرار الحياة، لا فنائها.

- إنسانُ الجماعةِ يؤكّدُ لنفسه دائماً: ألمْ نُقدّم أنفسنا قُرباناً على مذبح القضيّة، ألمْ نُنشد: نموتُ ويحيا الوطن وتحيا العقيدة؟ بالنتيجة هي الأفكار المُجرّدة والرموز المقدّسة، أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة، لأنها الغاية المُثلى، لا الموتُ المُرتبط بالإيديولوجيا)

ملاحظة: " الجماعة " التي تكرر وروها في هذه الرواية تعني (الشيوعيين) حصراً.

- هنا أمور كثيرة تستحق المناقشة وطرح الكثير من الأسئلة التي هي موضع خلافات قديمة وحديثة وستظل كذلك أبدَ الدهر منها:

1 ـ { لماذا يموتُ المرءُ من أجل فِكرة؟ }

2 - (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمنَ " المجد " الذي يناله الآباءُ)؟ من أعطاهم الحقَّ بذلك؟

3 - (هل أخذوا إذناً بالموت ليرمّلوا الزوجاتِ، ليذهبَ أولادهم إلى التيه)؟

4 - (ما معنى البطولات برؤوسِ اليتامى)؟

5 - (هناكَ مَن يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قُدراتِ على قتلِ غيره. أي أنَّ البطلَ " قاتلٌ " في النهاية)

6 - (ليس كما تعتقد يا خالد! هو إنسان يُمارس القتل لنشرعقيدة يعتبرها صحيحة، أو تطبيق نظرية يعدّها عادلة، فيما هي غير ذلك بنظر سواه، الإلتزامُ بحد ذاته يتحدد مضمونه وقيمته بمدى اقترابه من استمرار الحياة لا فنائها)

7 - (أنا أُشيرُ يا ولدي إلى ثقافة بديلة في غرسِ معنى الحياة لأنها الغاية المُثلى، لا الموت المُرتبط الإيديولوجيا).

- أمامي هذه اللوحة من الموضوعات التي طرحها الدكتور جمال حسن العتّابي نسب بعضها والأكثرَ حساسيّةً وإثارةً للجدل لأبيه ولا أراها بالضرورة كذلك إنما هي آراء وقناعات الراوي رحّلها لأبيه لمضاعفة فاعليتها أو ربما تكلّم بها نيابةً عنه بعد أنْ أفضى له بها بين حين وآخر تلميحاً أو توضيحاً مباشراً.

- (لماذا يموتُ المرءُ من أجل فكرة)؟ هل سألَ سقراط نفسه هذا السؤال حين وافق على تناول السم الذي قتله؟ هل سألت كليوباترا نفسها إذْ قتلت نفسها بلدغة أفعى سامّة؟ هل سأل الحُسين بن علي نفسه هذا السؤال وقد رأى بأم عينيه مقتلة ذويه وآل بيته صبياناً وشباباً ثم ظهر في ميدان معركة الطف ظمآناً خائر القوى وهو يعلم أنه مقتول لا محالة؟ إنه صاحب القول المنسوب إليه [يا سيوفُ خذيني]. هل ندم فهد وصارم وحازم وقد عرفوا انهم محكومون بالإعدام شنقاً وقد أُعدموا في شباط 1949 وعُلّقت جثامينهم في ساحات بغداد العامة. أم هل تراجع سلام عادل أو ضَعُفَ وانهار تحت التعذيب الوحشي في قصر النهاية في بغداد إثرَ انقلاب شباط 1963 وكذلك رفيقاه جمال الحيدري ومحمد صالح العبّلي والآلاف من خيرة شباب ورجال العراق؟ هل ندم وتراجع السيد محمد باقر الصدر أو قريبه النجفي محمد صادق الصدر ونخب أخُر من علماء الدين وأعضاء حزب الدعوة وفئات ملتزمة غيرها؟

- يقبلُ صاحب الفكرة والمؤمن بعقيدة سياسية أو فلسفية أو مذهب أو دين أو فلسفة... يقبلون الموت حين لا من فُرصة أخرى بديلة مُتاحة لهم لمواصلة الحياة كما أرادوها. لا من خيار آخر أمامهم سوى الخنوع والرضوخ والإستسلام وهذا ما لا يقبله المؤمنون من الرجال مهما كانت طبائع إيمانهم. إختاروا الموت حين وجدوا أنفسهم أمام قوة غاشمة تحاول إخضاعهم والتنازل عمّا أمنوا به وصاح الحُسين [[هيهاتَ منّا الذُلّة]] حين حاولوا إجباره على البيعة ليزيدَ في دمشق وكان الحسين هو الخليفة حسب بنود إتفاقية صُلح الحسن مع معاوية كما تقول مصادر التأريخ. فضّل الموت على أنْ يرى نفسه مغبوناً مظلوماً مسلوبَ الحق فضلاً عمّا رأى من تقاعس الذين ورّطوه وأغروه بالتوجه إلى كوفة العراق فقتلوا قبله سفيره لهم (مسلم بن عقيل) وجزّوا رأسه ثم سحلوا جسده بالحبال في دروب الكوفة. وقبل ذلك بعشرين عاماً فعلوا بأبيه مثل ما فعلوا به: تقاعس أهل العراق عن نجدته بمعاودة قتال معاوية بعد معركة صفّين. هكذا يفعل تبدّل أمزجة بعض الشعوب والأقوام. بالنسبة لي كنتُ سأُفضّل الموت ولا أتنازل لفئة ضالّة متخلّفة دموية ولا أقبل الإنتماء لعقيدتهم أو حزبهم أو دينهم... أرفض الحياة لأني لا أرضى أنْ أحياها مع هذه الزمُر المُغتصِبة لنسغ الحياة. لا تجمعنا حياة واحدة. لقد تعرّضتُ ذات يوم للموت ثمناً لقناعاتي والتزاماتي السياسية وكنتُ مُنسجماً مع نفسي أني قدّمتُ ما أستطيع من أجل خياراتي وإيماني بالحقائق العلمية وعلى رأسها قوانين الدايالكتيك وتطبيقاتها في الحياة. ليس كل الناس مستعدين للتخلي عن الحياة فالقناعات والإيمان بها درجات متفاوتة شتى. سألتُ الشاعر عبد الوهاب البياتي مرة وقد التقينا في مقهى في مدريد (ما أسباب انهيار السياسي الشيوعي المعروف عزيز الحاج وتعاونه مع البغثيين؟ أجاب فوراً لأنه ما كان مُقتنعاً بالشيوعية !). قناعة المرء إذاً هي التي تحدد الخط الفاصل بين الموت والحياة.

- فُصلَ محمد الخلف وسُجن زمان عبد الكريم قاسم في عام 1959.

- (لماذا يدفعُ الأبناءُ ثمن المجد الذي يناله الآباء؟) معك حق كل الحق يا جمال حسن العتابي (خالد).. هذا سؤال وجيه ومبرر. قديماً قيل: يأكل الآباء الحُصرُم ويُضرِّس الأبناء. يا ما ترك الآباء أطفالاً يتامى لا مُعيل لهم وزوجات ربّات بيوت لا موردَ لهنَّ إما ذهبوا للسجون الرهيبة أو أُغتيلوا في الشوارع المظلمة أو قُتلوا تحت التعذيب الوحشي في غياهب السجون. هنا يسأل المرء: كيف يهون على رجل مثقف أنْ يتركَ أطفاله والأُمّهات بدون أب يُعيل ويحمي ويُطعم ويكسي ويربي.. كيف؟ ما يقول لنفسه وكيف يبرر عمله هذا؟ لماذا تزوج وأنجب وهو عارف أنه يمشي في طريق محفوف بالمخاطر والمجازفات ويعلم أنه مُعرّضٌ للسجن أو الفصل من الوظيفة بل والموت إغتيالاً أو تحت التعذيب في الأقبية وظَلُمات السجون؟ الإيمان المُطلق بعقيدة ما يهون أمامها كل شئ. يُضحّي بعض الناس بكل شئ من أجل الثبات على ما يعتقد وما يؤمن به فيتماهى ولا ينفصل: أنا وعقيدتي أو الموت من غير هذه العقيدة! أنا لاشئَ بدون عقيدتي... فراغ.. هواء...فالفناء أفضل. يبقى الموضوع الإنساني الخاص بترك زوجة وأطفال من غير مورد مُعلّقاً قابلاً للجدل والأخذ والرد. عائلة محمد الخلف وقفت على أقدامها بعد الصدمة فشرع الأولاد الشباب وشقيقتهم بالعمل هنا وهناك أو في البيت فضمنوا ما يُديم حيواتهم من طعام وسكن وملابس حتى أكمل خالد دراسته في كلية التربية / جامعة بغداد وتم تعيينه مُدرِّساً في الفلوجة فضمن بذلك مورداً ثابتاً جيداً له ولأسرته. لكل مشكلة هناك حل واحد في الأقل. وأهلنا يقولون [ما تضيق إلاّ وتنفرج] وشاعر قال (وكلُّ شديدةٍ نزلتْ بقومٍ / سيأتي بعد شدّتها رخاءُ). تمام دكتور جمال حسن العتابي؟

- هناك من يرى في البطل قدرته على الموت بقدر ما يملك من قدرات على قتل غيره. أي أنَّ البطلَ قاتلٌ في النهاية. أرى في هذا القول آثار أصابع الفيلسوف الألماني نيتشه ! هكذا يفكّر ويتفلسف هذا الرجل صاحب كتاب (هكذا تكلّم زُرادشت). ما دليلك يا دكتور جمال أنَّ البطلَ قاتل في النهاية؟ هل كان سقراط قاتلاً غير نفسه؟ وهل قاتل الحسين إلاّ مُكرهاً ودفاعاً عن النفس بعد أنْ أُغلقت السبلُ كافّةً في وجهه؟ هل قتل فهد وصحبه وسلام عادل ورفاقه هل قتلوا أحداً؟ هل قتل صديق والدك الأستاذ عبد الستار زبير أحداً؟ قتل ستالين ملايين الناس بدعوى حماية روسيا والثورة فهل كان بطلاً أو أُعتبرَ بطلاً؟ كذلك الأمر مع صدام حسين. لم يسعَ الشيوعيون لإتيان البطولات واجتراح المعجزات إنما قاموا بما تستوجبه عناصر عقيدتهم السياسية والعلمية والإجتماعية وكانوا على استعداد للتضحية بكل شئ: حيواتهم ومستقبل عوائلهم من غير انتظار مكافآت أو جوائز أو أوسمة بطولة وفخار. هل ينتظر السياسي القتيل أنْ يأتي مَن يدعوه بطلاً؟ البطولة في أنتصار العقيدة.

- ملاحظات عامّة:

- بدأت أحداث الرواية في عام 1958 وانتهت في عام 1978 عام خيانة وغدر البعث وما تلاه من أعوام تشرد فيها العراقيون وسُجن مَن سُجن وأغتيل مّن أُغتيل ومات آخرون تحت التعذيب أي أنها لم تتعرض لما عاناه العراقيون نتيجة غزو العراق للكويت وما تلا ذلك من حصار وعقوبات وجوع وبؤس وشقاء حتى سقوط صدام حسين ونظام حكمه في آذار 2003.أتمنى أنْ يكتب.

- ذكر الراوي أنَّ (عبد الرحيم) صديق والده ساعده في دخول كلية التربية إذْ كان هذا معاون عميد الكلية. أحسبه كان يقصد الدكتور رحيم عبد آل كِتل.. ما كان الرجل سنة دخول السيد جمال كلية التربية معاوناً للعميد إنما كان تدريسياً في هذه الكلية ووجدته في العام الدراسي 1970 / 1971 رئيساً لقسم الفيزياء في كلية التربية وعملنا معاً في لجنة الإمتحانات النهائية سويةً مع الدكتور إبراهيم السُهيلي ممثلاً لقسم علوم الحياة والأستاذ سليم الغرابي ممثلاَ لقسم الرياضيات وأنا مُمثلاً لقسم الكيمياء وكان الدكتور رحيم رئيساً لهذه اللجنة. بعد فترة تم نقله رئيساً لقسم الفيزياء في كلية العلوم / جامعة بغداد في الأعظمية ثم غدا عميداً لكلية العلوم وبقفزة عالية جداً تم تعيينه سفيراً للعراق في فيينا وممثلاً للعراق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. خلال الحرب على العراق بعد غزو الكويت إستدعاه صدام حسين ثم غاب أثره. وفي نفس الوقت ترك الدكتور محمد المشّاط وظيفته سفيراً للعراق في واشنطن واتجه للإقامة في كندا.

- ملاحظات وتصويبات:

- في الصفحة 10 ذكر الدكتور جمال حسن العتّابي التربوي والرائد النقابي الأستاذ مُحمد الخِضْري (من الخضر) قتله البعثيون غيلةً عام 1970 (؟؟) وكان أحد أعضاء الحزب الشيوعي المنتدب للتفاوض مع البعثيين حول نقابة المعلمين وإمكانية خوض الإنتخابات في قائمة مشتركة بين الحزبين. شيمتهمُ الغدرُ.

- في الصفحة 50 ذكر الراوي الأستاذ النجفي عبد الباقي الجزائري باعتباره مديراً لقرية العطرانية. مدراء النواحي لا علاقة إدارية تربطهم بالقرى بل هم مدراء نواحي. وبقدر تعلّق الأمر بالأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد فقد كان زمان العدوان الثلاثي على مصر خريف عام 1956 مديراً لناحية البطحاء التابعة للواء المنتفك (محافظة ذي قار) وكنت هناك في هذا الوقت لأنَّ الدراسة في الكليات كانت قد أُوقفت بسبب التظاهرات الصاخبة والإحتجاجات إنتصافاً لمصر ووقوفاً مع الشعب المصري في نضاله ضد الإستعمار. كنت أزورشقيقتي فزوجها هو مدير المدرسة الإبتدائية في البطحاء وعرّفني على مدير الناحية الأستاذ عبد الباقي الجزائري أبو سعد وكنا نزوره في بيته ليلاً ونسهر هناك. وفي صيف عام 1957 دعوناه وشاباً مُعمّماً معه يحمل لقب الجزائري على العشاء في بيتنا في مدينة الحلة. كانا في الطريق قادمين من بغداد متجهين نحو النجف. لذلك أصابني عجبٌ كيف يكون هذا الرجل صديق العطراني المعلم في قرية العطرانية خلال فترة العدوان على مصر خريف عام 1956؟!

- الصفحة 80.. ذكر الراوي حركة حسن سريع ونسب وقوعها في منتصف شهر حزيران 1963.. بينما الكل يعرف أنها وقعت في الثالث من شهر تموز 1963 وليس في حزيران.

- في الصفحة 178 أخطأ الراوي في كتابة فعلٍ ماضٍ ولعها الغلطة الوحيدة في هذه الرواية. لقد كتب (تواطؤوا) والصحيح هو (تواطأوا) لأنَّ الهمزة مفتوحة وليست مرفوعة.

- في الصفحة 197 تكلّمت الرواية عن أزمة الصواريخ الذرية الروسية في خليج الخنازير على انها وقعت عام 1961 في حين أنها وقعت في خريف عام 1962 زمان خروشوف وكندي.

- كان الرواي مسيطراً تمام السيطرة على زمام سياقات الأحداث الصغيرة والكبيرة ماسكاً بخناقها لا يدعها تتفلّت إعتباطياً هنا وهناك ولا يسمح لأي نشاز أو مروق في سرد الوقائع وبأعلى ثقة بالنفس وباللغة القريبة جداً من لغة الشعر المنثور. لقد مرَّ باقتدار ومسح أحداثاً جسيمة ضربت العراق منذ ثورة الرابع عشر من تموز وإنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 وإنقلاب محمد عبد السلام عارف على البعثيين وحرسهم القومي وقطار الموت في تموز 1963 وحرب الأيام الستة عام 1967 ثم إنقلابي البعث في تموز 1968 والحرب العراقية الإيرانية ثم خيانة البعثيين وغدرهم برفاقهم في الجبهة الوطنية وما رافق ذلك من اغتيالات وسجون وتعذيب وهروب جماعي طلباً لملاجئ آمنة أو الإلتحاق بصفوف قوات الأنصار في جبال كردستان. لم يغفل الراوي المرور على بعض الأمور الثانوية مثل ذكره لمقهى المعقَّدين وقلم الحبر الجاف ماركة باركر 21. لم يتبسّط في ذكر ما حدث من وقائع في العراق قبل إنقلاب الثامن شباط 1963 كالصراع الحاد بين قاسم وعارف وتمرد الشواف في الموصل ومحاولة إغتيال قاسم في شارع الرشيد في تشرين الأول 1959. يستطيع القارئ رسم منحنىً بيانيٍّ يمثل نقطة البؤس والعناء ثم التحول ببطء نحو الإنفراج والرخاء وما أنْ يصل هذا المنحنى البياني إلى أعلى نقطة حتى يشرع بالهبوط حيث التشرد والقتل والسجون وسفك الدماء كأنها دورة حتمية من دورات الحياة مفروضة على العراقيين منذ قديم الزمان فسومر قامت ثم اندثرت وكذلك أكد وبابل وآشور.

***

د. عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

........................

* رواية منازل العطراني. منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، 2023 الطبعة الأولى.

    

في المثقف اليوم