قراءات نقدية
عصام البرّام: جوزيف برودسكي.. المنفى الذي صار وطنًا واللغة التي صارت خلاصًا
كان جوزيف برودسكي أحد أكثر الأصوات الأدبية تفرداً في القرن العشرين، شاعرًا ومفكرًا روسيًا حمل في كلماته ثقل المنفى وبهاء اللغة في آن واحد. وُلد في لينينغراد عام 1940، وعاش طفولة مثقلة بظلال الحرب والحصار، قبل أن يُطارد من قبل السلطات السوفييتية بتهمة (الكسل الاجتماعي) بسبب رفضه الانخراط في أدب الدولة الموجه، وهو ما قاده إلى النفي والمنفى، ليجد نفسه شاعرًا يبحث عن وطن داخل اللغة ذاتها. حين حصل برودسكي على جائزة نوبل في الأدب عام 1987، لم يكن ذلك اعترافًا بموهبته فحسب، بل كان احتفاءً بقدرة الكلمة على تجاوز الحدود الأيديولوجية والجغرافية، وتحولها إلى وطن بديل للإنسان المنفي.
اللغة عند برودسكي ليست أداة للتعبير، بل كيان روحي قائم بذاته، وهي مركز التجربة الجمالية والفكرية التي تحرك نصوصه. في شعره كما في مقالاته ونصوصه النثرية، تتجلى قدرة مذهلة على الجمع بين الدقة العقلية والتوهج العاطفي، بين التأمل الفلسفي واللمسة الإنسانية الحميمية. يستخدم الاستعارة بوصفها وسيلة لاستنطاق المعنى المستتر خلف اليومي، فتتحول الأشياء البسيطة إلى رموز تحمل دلالات الوجود والزمن والموت. إن البلاغة في أعماله ليست زينة لغوية، بل وسيلة تفكير، طريقة لإعادة تشكيل العالم وفق منطق الجمال.
أما من الناحية النفسية، فإن نصوص برودسكي تنبض بشعور عميق بالوحدة الوجودية، لكنها ليست وحدة اليأس، بل وحدة الإدراك، حيث يواجه الفرد ذاته والعالم بوعي قاسٍ وصافٍ. في شخصياته ورؤاه نلمح أثر المنفى الداخلي، ذلك الشعور الذي يتجاوز الجغرافيا ليصبح حالة روحية يعيشها كل إنسان حين يكتشف هشاشته أمام الزمن وسلطته. إنه كاتب يعيش بين لغتين، بين ثقافتين، بين وطن فقده ووطن يصنعه بالكلمات، وهذه الثنائية كانت وقود تجربته الأدبية ومصدر توترها الدرامي.
الدراما في أعمال برودسكي لا تأتي من الأحداث، بل من الصراع الداخلي بين الذاكرة والنسيان، بين الحنين والحرية، بين ما يُقال وما يُحجب. إن حضور الزمن في نصوصه يحمل طابعًا مأساويًا، إذ يتعامل معه بوصفه قوة لا يمكن الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته مصدر الوعي والكتابة. هذا الوعي الزمني هو ما جعل شعره مزيجًا من الفلسفة والرثاء والتأمل الجمالي، فكل قصيدة لديه تبدو كحوار بين الحاضر والماضي، بين الكلمة والعدم.
في كتاباته الأخرى، خصوصًا في مقالاته باللغة الإنجليزية بعد هجرته إلى الولايات المتحدة، اتخذ أسلوبًا يجمع بين الرصانة الفكرية والروح الشعرية. لغته هناك أكثر اتزانًا لكنها لا تخلو من ذلك الوميض الروسي الحزين الذي ميز بداياته. كان يرى في الأدب ملاذًا من الهمجية، وفي الجمال مقاومةً للزمن، وفي اللغة خلاصًا من النسيان. لقد استطاع برودسكي أن يجعل من تجربته الخاصة مرآة للتجربة الإنسانية جمعاء، وأن يكتب عن المنفى وكأنه يكتب عن مصير الإنسان الحديث، الباحث عن معنى في عالم متغير بلا يقين.
وهكذا، فإن جوزيف برودسكي لم يكن مجرد شاعر نال نوبل، بل كان عقلًا إنسانيًا حاول أن يفهم العالم عبر اللغة، وأن يواجه القسوة بالجمال، وأن يحوّل المنفى إلى فضاءٍ للإبداع والتأمل. لقد ترك وراءه إرثًا أدبيًا يذكّرنا بأن الكلمة حين تُكتب بصدق تصبح بيتًا، وأن الكتابة، في النهاية، هي الشكل الأسمى للحرية.
كان جوزيف برودسكي في جوهر تجربته الأدبية فنانًا جدليًا، لا بمعنى أنه أثار الصراع مع السلطة فحسب، بل لأنه جعل من الأدب نفسه ساحةً للتساؤل المستمر حول الحقيقة والجمال والمعنى. في كتاباته، تتشابك الأبعاد الفنية مع الأبعاد الفلسفية، فيغدو الشكل عنده امتدادًا للفكر، والبنية اللغوية انعكاسًا لرؤيته الوجودية. كان يميل إلى بناء نصوصه على الإيقاع الداخلي أكثر من الحدث الخارجي، فالفن عنده ليس حكايةً تُروى، بل حالة تأمل تُعاش. لذلك تتصف أعماله بنَفَسٍ موسيقيٍّ عميق، يمتد من اختياره للكلمة إلى توازن الجملة، ومن حركة الصورة إلى توتر الصمت بين الأسطر، كأن اللغة عنده آلة موسيقية تُستدرج منها نغمة الحياة والغياب في آنٍ واحد.
أما الأبعاد الجدلية في كتاباته فتكمن في صراعه الدائم مع مفاهيم الانتماء والهوية والحرية. لقد كان برودسكي يعيش تناقضًا جوهريًا بين كونه ابن الثقافة الروسية العظيمة، وناقدًا شرسًا للقيود التي فرضها النظام السوفييتي على روح الإنسان والمبدع. هذا التناقض انعكس في كتاباته التي لم تكتف بمساءلة السلطة السياسية، بل تجاوزت ذلك إلى مساءلة السلطة الفكرية ذاتها، إذ كان يرى أن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن ينتمي إلا إلى اللغة والفكر، وأن الوطن الحقيقي هو الوعي لا الجغرافيا. ولهذا كان من الطبيعي أن تتحول أعماله إلى فضاء للحوار الجدلي بين الفرد والعالم، بين الصوت الداخلي وصخب الواقع.
أما أبطاله الأدبيون فهم في الغالب شخصيات هامشية، تقف على تخوم الحياة، لكنها تمتلك ثراءً داخليًا يجعلها أكثر وعيًا من الآخرين. هم أفراد لا يسعون إلى البطولة بالمعنى التقليدي، بل إلى النجاة بالمعنى الوجودي. فيهم نلمح ظلال المنفيين والشعراء والمفكرين الذين يعيشون داخل الصمت أكثر مما يعيشون في الضوء. شخصياته ليست مصنوعة من ملامح اجتماعية محددة، بل من حالات نفسية وفكرية متوترة، تتأرجح بين الحنين والتمرّد، بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان في الجماعة. وهنا يكمن البعد الإنساني العميق في أدبه: إن بطله هو الإنسان المجرد من كل حماية، الباحث عن معنى في عالمٍ يغدو فيه الوعي عبئًا والحقيقة جرحًا مفتوحًا.
وعند مقارنته بالرواد الكبار في الأدب الروسي مثل ديستوفسكي وتولستوي ومكسيم غوركي، يمكن القول إن برودسكي ورث عنهم العمق الروحي والاهتمام بالإنسان، لكنه اختلف عنهم في أدواته الفنية وموقفه من الواقع. فبينما غاص ديستوفسكي في أعماق النفس البشرية عبر الصراع الأخلاقي والديني، ووجّه تولستوي نظره إلى الإنسان في صراعه مع المجتمع والطبيعة، وركّز غوركي على الإنسان المكافح في وجه الظلم الاجتماعي، فإن برودسكي جعل الصراع الداخلي أكثر تجريدًا، وأكثر تعلقًا بالوعي واللغة والزمان. إن أبطاله لا يواجهون الآخرين، بل يواجهون فكرة الزمن ذاتها، ويقاومون الزوال عبر الكلمة. في حين كانت روايات ديستوفسكي وتولستوي تشبه مرايا كبرى للمجتمع الروسي، فإن عالم برودسكي يبدو كمرآة داخلية تعكس روح الفرد المنعزل وهو يسعى إلى فهم نفسه والعالم بالكلمة وحدها.
لقد كان برودسكي بمثابة حلقة حديثة في السلسلة الطويلة للأدب الروسي، لكنه مثّل انعطافة نحو الذات، نحو الشعر كأفق فلسفي واللغة كقدرٍ وجودي. جمع بين حسّ الفنان وقلق الفيلسوف، وكتب نصوصًا لا تنتمي إلى زمن محدد بقدر ما تنتمي إلى فكرة الإنسان الأبدي الباحث عن معنى وجوده. وبهذا المعنى يمكن القول إن برودسكي أعاد تعريف البطولة الأدبية في الأدب الروسي، حين جعلها لا تقوم على الفعل الخارجي، بل على الوعي الداخلي، ولا تتجسد في مواجهة العالم، بل في مقاومة العدم بالكلمة.
إنّ الحديث عن جوزيف برودسكي، لا يمكن النظر إليه مجرد شاعر أو كاتب نال جائزة نوبل، بل كظاهرة فكرية وجمالية متكاملة جسّدت تحولات الأدب الروسي في القرن العشرين، وفتحت أمامه أفقًا جديدًا يتجاوز حدود الشكل والمضمون نحو الوعي الوجودي والحرية الفردية. لقد كان برودسكي نموذجًا للكاتب الذي يعيش على تخوم الثقافات، بين شرقٍ يورث الحنين وأخلاق المعاناة، وغربٍ يفتح أمامه أفق الحرية الفكرية والتجريب الفني. هذا التوتر بين الانتماء والاغتراب شكّل صلب رؤيته للكتابة، وجعل من تجربته مرآةً للإنسان المعاصر، الذي يعيش ممزقًا بين ذاكرةٍ لا يستطيع نسيانها وحاضرٍ لا يستطيع الانتماء إليه بالكامل.
ما يميز برودسكي حقًا هو قدرته على تحويل التجربة الفردية إلى لغة كونية. في نصوصه تتجسد الذاكرة كقوة خالقة، والزمن ككائن متحرك يتداخل مع الوعي في نسيج شعري متقن. كانت نظرته إلى الأدب تقوم على أن الكلمة ليست وسيلة للبوح فقط، بل فعل مقاومة ضد الفناء. وهو في ذلك يستعيد تقاليد الأدب الروسي العميقة في اهتمامها بالإنسان، لكنه يفعل ذلك بطريقة مغايرة تمامًا؛ إذ يجعل من اللغة ذاتها بطلاً مأساويًا وجماليًا في آنٍ واحد. فبينما كان ديستوفسكي يبحث عن خلاص الروح في صراعها مع الخطيئة، وتولستوي عن الانسجام الأخلاقي بين الإنسان والطبيعة، وغوركي عن الكرامة الإنسانية وسط القهر الاجتماعي، فإن برودسكي يبحث عن الخلاص في الجمال، عن الحقيقة في نغمة اللغة، وعن الإيمان في وعي الشاعر بأن اللغة قادرة على أن تهزم العدم.
في هذه الرؤية الجمالية تكمن فلسفته الكبرى: أن الفن هو المجال الوحيد الذي يتيح للإنسان أن يتجاوز محدوديته، وأن يعيش في الزمن دون أن يُبتلع به. ولذلك كانت قصائده ونصوصه النثرية أقرب إلى حوارات فلسفية مع الذات، يتجاور فيها الجمال مع الألم، والحنين مع الوعي القاسي بالزوال. كان يؤمن أن الشعر، حين يُكتب بصدق، لا يعبّر عن الذات فقط، بل عن الوجود نفسه، وأن الشاعر، بقدر ما يتألم، بقدر ما يقترب من جوهر الحقيقة.
لقد استطاع برودسكي أن يمنح الأدب الروسي بعدًا جديدًا، إذ لم يعد الكاتب عنده نبيًا اجتماعيًا أو مصلحًا أخلاقيًا كما في التقاليد الكلاسيكية، بل مفكرًا في اللغة، ومؤمنًا بقدرتها على إعادة خلق العالم. لقد أعاد تعريف وظيفة الكاتب، وجعل من الشعر خطابًا فكريًا لا يقل عمقًا عن الفلسفة، ومن النثر مساحة تأمل تتجاوز الوصف إلى الإدراك. إنه شاعر المنفى الذي حوّل الغياب إلى مادة للفكر، والمأساة إلى شكل من أشكال الجمال.
وربما في هذا تكمن القيمة الحقيقية لإرثه الأدبي: أنه أثبت أن الكتابة ليست ملاذًا للهروب من الواقع، بل وسيلة لمواجهته بأدوات أعمق من السياسة والفكر، أدوات اللغة والخيال والذاكرة. لقد كتب برودسكي عن الإنسان لا بوصفه ضحية التاريخ، بل بوصفه كائنًا قادرًا على تجاوز التاريخ عبر الجمال. لذلك تبقى تجربته شهادة على أن الكلمة، حين تُكتب بصفاء وصدق، تستطيع أن تمنح المنفى معنى، وأن تجعل من العزلة شكلاً من أشكال الحرية، وأن تُبقي للإنسان مكانًا في العالم، مهما ضاقت به الأرض والسماء.
***
د. عصام البرّام






