قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصيدة (أغنية غجرية) لفدريكو غارسيا لوركا

شعرية الفروقات الدالة ومكابدة مساحة التعيينات

توطئة: لعل من اللافت في ضرورة قراءة وبحث وتمحيص شعرية تجربة الشاعر الاسباني الفذ فدريكو غارسيا لوركا، وتحديدا من خلال جملة تمفصلات قصيدته موضع بحثنا (اغنية غجرية) أنموذجا لما تتسم به من الاوضاع الدوالية والدلالية في متن النص من حساسية نوعية في عضوية مركبات (تكرارية اللفظ_ إيقاع المنحى الصوتي _ خطاب الانا - حديث التخاطب- غيرية الموصوف- ذاتية التشكيل) سبرا الى متواليات تغدو حينا متطابقة في القيمة المعللة للتسمية، واخرى لا تنفك حينا عن كونها محض إحاسيس ورؤى توصيفية .

- تعددية الأحوال وتقاطع محاور المشار إليه:

ما أود أن اتحقق منه في مواضع قصيدة (أغنية غجرية) هو ذلك التعدد في أوجه مسار الأحوال التلفظية التي تتجاوز ما يوحي به من خصائص في التسمية للاشياء من قبل جهة (الفاعل التذويتي) اي ذلك الفاعل المكرس في حيثيات صورة تداخلية نسقية في هوية المكون التلفظي، لذا فإن علاقات هذا الفاعل تختص في جعل للاشياء مسمياتها واطوارها، كأنه بذلك الفاعل الذي يساق من قبل وصولات وصور حسية ضمنية ناتجة عن نسيج الذات الثانية للشاعر، وربما يمكننا توصيفه ب(الفاعل المتخيل) تكاملا مع حيثيات الصورة الأولية من أفعال وأقوال الشاعر تواصلا تقديريا مرتبطا بالتركيز والأحتواء التصوري الٱني والبعدي المجمل في الٱن نفسه من العملية القولية في مشاغل النص .

١- بناءات معادلة وقائع توفيقية:

تتمثل انطباعات وتصورات حالات القصيدة ضمن علاقات متجانسة وغير مشخصة في الحد الادنى من الواقعة الصورية والإمكانية والممكنة في استيعاب اسقاطات الدال الاختباري، اي أن هناك حالات أولية في مقاطع النص الاولى بدت من خلالها الاقتراحات المتضافرة في محاولة ما في بث الموصول الدوالي في ايسر الطرق والوسائل من الاجمال والارتجال في ما لا يمس حقيقة زمن الحال والتدرج المناسب في نمو ملاءمة ظهورية في حاصلية الصيغة المتجانسة من البوح:

خضراء..

خضراء..

أريدك خضراء، فالرياح

خضر، وخضر هي الغصون./ص11

نتبين من خلال مطالع هذه المقاطع التكراربة، بأن زمن الملفوظ ذات وتيرة توكيدية بالدال والدليل، مما جعل (خضراء.. خضراء) حدوثا إيقاعيا يتطرق الى زمن معنون في معالجة الخلوص بالتملك الإرادي (أريدك ؟)، ولكن الفاعل الذاتي، لا ينفك في معاودة للمزيد من التحقق التصوري (فالرياح خضر - وخضر هي الغصون) ولانعلم ما مدى حقيقة هذا النزوع اللوني بالحدوث الدوالي، ربما من جهة ما هو متوالية متكثرة بالامثولة الإنشادية، أو انها حالة قناعية ملازمة لمظهر توصيفي مرتجل، وقد تكون أحوالا معادلية في مرصود وقصد الموضوعة في مرٱة ذاتية الشاعر نفسه، ولو اعتبرنا هذا النزوع اللوني حالة نسبية من قيمة هامشية الدلالة، لما تركت هذه الصفة اللونية مساحة تتعدى عتبات العلاقة الأولية للنص نفسه، لتؤسسس لذاتها مشهدية تتكون من إقرارية خاصة من زمن الحال التوالدي في محاور النص . ولكننا عند متابعة المقاطع اللاحقة من النص، قد نعاين تحاورات جديدة عبر مساحة اللوحة الشعرية تتابعا:

والسفينة في العباب تلمحها العيون

والخيول ترتعي كلأ التلال

طوقت خصرها الظلال

وهي ماتزال

في الشرفة تحلم/ص11

لو دققنا في احياز علاقات محاور الدوال في رقعة إحساس المتخيل التشكيلي، لوجدنا معطيات صورية هامة في محمل أبعاد اللوحة الشعرية للنص، فمثالا هناك مفردات جاءت بحدود حالة كفيلة بجعل وظيفة خطاب الدال، تتشكل وتتمحور في وجودات تشكيلية صرفة من قيمة حركية تشتغل بخلفية وظيفة بناء اللوحة، لذا فإن السبب في مثل قولنا هذا، هو ما ترجحه جملة التعالقات الجزئية والكلية من حفظ (المساحة _ زاوية الرؤية_ حصرية الزمن السكوني) اي ان الصورة كعنصر تشييدي، هي الغالبة على وظيفة الملفوظ الحركي في الخطاب وللمد الدوالي (السفينة في العباب تلمحها العيون - والخيول ترتعي كلأ التلال) الكشف هاهنا يوحي لنا بحضور حالاتي (حسية ضمنية - نقطة مشهدية) ومن المتوقع أن تكون نقطة إنطلاق لدلالة تأسيسية ذا هيمنة فضائية سكونية الطابع والزمن والشكل والبنية الأحداثية.

2- اللاكينونة في برهنة الفاعل الحضوري:

لعل المطروح الشعري في قصيدة (أغنية غجرية) يتبنى ذلك الإجراء والتحديد بين (نقطة التلفظ) ونعني بذلك الإجراء المتحكم في إثبات حضورية الٱخر عبر هويته أو كيفيته أو دخوله في زمن أطروحة الكينونة المحددة، لذا فالملفوظ عبر تبلوراته لا يعكس سوى وظائف (خارجية) أو ربما هي حالات قصوى، يتبلور مصدرها من خلال (الوجود - اللاوجود / الوجود - فرضية مضللة) وعلى هذا النحو فإن فعل الدوال في احياز النص متوافقة من ناحية (زمن سكوني؟) ومتعارضة من ناحية كونها مقولات افعال حضورية حاسمة في وجودها الذاتي والفعلي: (وهي ماتزال - في الشرفة تحلم؟) ولعلنا نملك الى إعادة زمن واقعة (وهي ماتزال؟) الى وضعية خارج الفعل الكينوني، كوحدة مقصية ومنفصلة، وذلك بدءا من جملة العنونة المركزية الدالة (أغنية غجرية) أي أن حالات التجربة في ممكنات القصد الدلالي، لا تتعدى ذلك الحيز من وجود موقع تلفظ أو رؤية في نظر تبادل محوري وصوري . فالرائي يتصور - شيئا- عبر موقعه المتشظى والمتناثر، فهو بمرويه يعبر عن وجودا شيئيا، أكثر افقا وتوقعا بصريا، لذا فتتعدى مهمته حرفية الحضور الحاضري (العيني) في كونه مجسدا محددا ذا طبيعة قرائنية، ذلك لأن حيزه الساردي تشغله جملة تقييدات موصوفة وسكونية في المقدار والمواضعة والانعكاس والقصد :(باتت تحدق فيها من حولها الأشياء - ولكنها لا تستطيع تبادلها النظر) اي أن وجود المرئي يظل غير محددا، ولكنه حالة انعكاس لهيئة حيادية ليست بحجم اسباب موضوعة الأشياء من حولها، لذا فهي موصوفة بدقة (الرائي الفاعل) بحرية أكيدة ومعززة، ولكنها مقرونة داخل افعال تتعدى فعلية الحدوث والسطوح الوقائعي، فتظل في ذاتها كفاصلة هلامية بين ما ترى -تصدرا- وما تقوله عين الرائي توصيفا وإعادة رؤية في حدوثات واهمة.

3- طابعية سياق التكرار وانطباع الوحدة الحلمية:

يمضي لوركا في متواليات بنيات قصيدته نحو توصيف مؤولات خاصة للأمكنة والأحوال والذوات المتشيئة عبر محفوظها وصورها الاكثر غورا في حيوات الاكوان الكائنية الكامنة في اللاثوابت من احياز لغة الاشياء وأستعارتها المتحولة في حيثيات (طابع سياقية التكرار؟) وحركية (انطباع الوحدات الحلمية) من خلال متخيلها التأملي العاج بأقصى حالات الوصف للأكوان المتوالية في شفراتها وشذراتها الحالمة بطفولة وصبا كينونة التقاويم الطقوسية للزمن الحاف ب(أغنية غجرية):

جسمها أخضر، الذوائب خضراء

وفي عينيها تلمع الفضة والزمهرير

خضراء، خضراء، أريدك خضراء/ص11

إذ لا شك إطلاقا أن تنطوي القيمة اللونية المتعدية تتابعا في صيغة ملفوظها المتوال (خضراء .. خضراء) ضمن صفة تذويتية عالية الرمزية، إذ انها تتمركز من خلالها الذات الساردة حول تنفصلات ٱنويتها وبعديتها الغيرية بوصفهما بديلان عن إرهاصاتها المتوارية عن مواجهة (الزمن - الذاتية الخطية) لذا تنتهي وتبتدئ دوالية الصور والتشكلات الوضعية عبر أحوالها باللجوء الوصفي بالمخصوص اللامحدد (أريدك خضراء) إذ على ما يبدو عليه حال الجملة الواردة اعلاه، أن الشاعر يلوح نحو نقطة تذويتية لا يحكمها التخصيص في نوعه الأحوالي المحدد، بل انها حلت في صيغة (الاخر - الغائب) إستكمالا للاستجابة في مراسمها التماثلية المتولدة عن جملة إضافات الفضاء النصي (وبينما القمر، قمر الغجر، يلعب ضوءه اللأ لاء) لعل هذه الجملة تلخص لنا في رحاب كون الشاعر ما كان من وراء إحالات قصيدته، إذا انه كان يتقصد هدفا مدلوليا كليا، ولا يخصص من جهة ما محددة لدالا مركزا في محوريته الوظيفية.

- تعليق القراءة:

لعل عنف النص الشعري يتلخص في سبل علاقاته اللفظية والجمالية والدلالية، ولا يمكننا بأي حال من الاحوال اغفال ما لقصيدة لوركا موضع بحثنا، من تعيينات تتناول حمولات ومقادير تم انتقاءها بمقتضيات وظائف علامية تبلغ في مستوى خطابها الشعري أعلى مستويات النفوذ الدلالي والجمالي، دون أن أميل الى دحض ما للشاعر من تجارب شاسعة من الجواهر المدلولية والايحائية والقصديات التي تحددها قصيدته الاكثر سبيلا الى (شعرية الفروق الاحوالية) التي تصارع وتجتهد في مغايرة الاوضاع في دلالات التسمية للأشياء وطقوسها التحقيقية النوعية:

- أيها الصديق

أود لو بادلتك هذا الحصان

ببيتك ومخزن الغلال،

أن أطرح سرجي لقاء مرٱتك الجلواء

وأقايض غمد مديتي بالبساط /.ص13

لعل القارئ الى موجهات وتمركزات المد الدوالي، يكتشف أن في متن النص عدة تقانات ملفوظية وضمائرية، تأخذ دورها في بث اللقطات المدعومة بضمير (المخاطب-جهة الغائب) لتشكل في ذاتها ذاتية المروى، تعليقا في مدار افعال لجوئية، غاية في الكشف عن مدى مأزومية الذات الساردة، فهو اي -الفاعل المتخيل- يلوح لنا عبر دلالات فقدانية راحت تضج بها الدوال، إستكمالا لجدوى حوارية ومقاربة حالات تصورية لا تفارقها رؤى اضمحلال الشخصانية في حكاية اغنيته الغجرية الممنوحة في اوجه موصلات الاكتفاء بنواتية (لاخر- الغائب) بديلا حتميا ونهائيا لفراغ أو عدمية الانكشاف الحضوري الفعلي للأنا الشاعرة:

- أيها الصديق، أتمنى لو أموت

ميتة محترمة في بيتي على سرير

-على سرير من الحديد، أامكن

مغطى بالبياضات، ناصعة، مسواة،

أفلا ترى هذه الطعنة النجلاء

من ضلعي الى حبل الوريد؟.ص13

لا شك أن ٱليات جملة استنزفات الفاعل المتكلم، لا تعرب لنا عن مقدمات قصدية من شأنها الأخذ بزمام الملتبس أو الإشكالي من ظرفيات مناجاة الفاعل نفسه، ولكننا نعاين حزمة إضمارات مرمزة بغلاف اللغة والاستعارة وسائل متخفية من عين منظومة الحال الشعري، فما حقيقة طلاسم لوركا عبر صوت فاعله الشعري هل يود من خلال هذا الصوت الافعالي، التلويح لنا بأن جملة تشكيلات حضوره الٱنوي، هو ما يشكل بذاته الاستمرارية المؤلمة في تجليات الكائن البوهيمي شعريا#؟ وعلى هذا النحو وغيره، جعلت تقودنا سلسلة الافعال المرسلة في مبثوثات المتن، وكأنها حالات تأبينية مخصوصة حول مصرع تلك الصبية الغجرية:

نبئني . أين هي؟ نبئني أيها الصديق

أين تلك الصبية -خير صبايانا؟

كم مرة بقيت منك على انتظار

ما أطول ما انتظرتك، وباتت في رجاء

بوجهها الندى وذوائبها السود./ص15

تمثل إضاءات هذه المقاطع مرحلة انفراجية ما من اسرار واسباب ملحمة القصيدة . فهي بذاتها تشكل ذلك المدى من حوارية (المخاطب لذاته-مونولج) ب(أيها الصديق) تواصلا مع زمن صوتي (الشاعر - الفاعل التصوري) لذا فهي اللحظة الاسترجاعية التي راحت تتداخل بمنطق ٱخر من خارجها وداخلها - اي ان لوركا عبر متنه الشعري، جعل من صوته تفصيلا مدمجا بحساسية المخاطبة لذلك الصديق، في حين ليس هناك من ثوابت راسخة في محكومية كون لهذا الصديق وجودا بالانفراد والارتباط والمؤول، كذلك ما تعكسه ذاكرة الشاعر التي لا تتخطى حدود الوصف في سياق (شعرية الفروق) المكرسة عبر سلسة من الاختلافية والمغايرة بين مقطعية وأخرى من القول الصوري، لذا فيمكننا القول عنها ب(مكابدة مساحة المسميات؟) خلوصا لكون أن القصيدة لا تكشف وظائف الدوال عبر مسمياتها (الذاتية - الاحوالية- المكانية- الزمنية - الظرفية - الغيرية) بل انها تقترح شخصانيات مسمياتية تعاكس حقيقة وهوية التعيينات والمخصوصيات المرادة في استجابة الموضوعة الشعرية:

تترنح جثة الغجرية

جسدها اخضر، والذوائب خضراء

وعيناها التماع من فضة كالجليد.

بهذا المعنى المرمز في خانة مسرحة الدال الشيفراتي، تدفعنا غائيات باطنية الالتحام اللفظي نحو مقاربة ميلودرامية لحكاية (أغنية غجرية) وليس لكونها أغنية، سوى لمحكومها الدلالي ذا الاوضاع التشكيلية في رحاب نسق (الصوت- الإيقاع - ٱفاق الرؤية) المرتبطة بهوية سيرة (الذات - المكان - الزمن - الطقس) وهذه العناصر في مجموعها ممهدة بذلك التوصيف الملازم (خضراء .. خضراء) مخاطبا جانبا من جوانب تجليات الرؤى والاحوال التي يكتنزهما تخصيص مجال أغنيات تفتعلها الذات الساردة في باحة شرفتها وحلمها القصي بعيدا .. بعيدا في أكوان الاحتمالات والخيالات التي تعاين وحدها مصائرية تلك الهيئة الغجرية المميتة في مخزون الذاكرة ومحمولات الدال بالدال تحقيقا حلميا في فضاءات القصيدة العابرة للمخصوص والنوع والزمن كينونة الذات الساردة في غروب شرفتها الخضراء.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم