قراءات نقدية

حبيب ظاهر حبيب: مسرحية (بغداد 41) المسرح الشامل خطوة كبيرة باتجاه الجمهور

العديد من الفرق المسرحية في كثير من الدول لا تقدم عروضها إلا بالاستعانة بلغة الحوار الشعبية (اللهجة المحلية) وتنأى بنفسها عن اللغة العربية الفصحى، لأنها تجد بالفصحى لغة ثقيلة على المتلقي الذي تريد أن تتقرب إليه وتتعاطى مع قضاياه الاجتماعية والوطنية، بل يذهب الأمر -احياناً - إلى جعل الحوار باللهجة الشعبية اساسياً في معالجة النصوص العالمية، بقصد إسقاط الموضوع على الفضاء المجتمعي الوطني وتيسير عملية التلقي والتفاعل. ولدينا تاريخ مسرحي حافل بالمسرحيات الشعبية التي شهدها جمهور واسع، مثل مسرحيات (النخلة والجيران) و(البستوكة) و(بغداد الازل بين الجد والهزل) و(الخيط والعصفور) وغيرها.

تنتهج معظم العروض الشعبية أسلوب المسرح الشامل الذي أسس له (فاجنر) حين رأى " أن المسرح يجب ان يجمع كل الفنون في صعيد واحد " (1)  وقد عمل المخرج الفرنسي  (جان لوي بارو) على بلورة أسلوب المسرح الشامل من خلال التركيز على "المشاركة communion، أو ما يسميه في استعارته الاثيرة (فعل الحب) والذي يصبح فيه العرض المسرحي (تآلفا) بين الممثلين والجمهور"(2)  وعلى الأسلوب ذاته عمل مخرج وفريق عرض مسرحية (بغداد 41) التي قدمت يوم السبت 1/ 1/ 2025 على المسرح الوطني، ليشكل باكورة العروض المسرحية العراقية للعام الجديد.892 Theatrical show

يثير عنوان عرض تساؤل: ما المقصود بـ (41)؟ ليجد الاجابة بعد مرور أكثر عشرين دقيقة من أحداث العرض وهي ان الانكليز احتلوا بغداد عام 1941 للمرة الثانية وتمت مواجهتهم من قبل الشعب في حينها، فهي فترة اضطرابات انعكست على مفاصل الحياة كافة، ومنها الحياة داخل البيت العراقي.

يبدأ العرض بدخول الجد (محمد حسين عبد الرحيم) والحفيد إلى بيت بغدادي قديم، إذ تملك الحنين الجد بعد سنين الغربة عن البلاد، عاد إلى مرتع طفولته لاستعادة الذكريات، ليرجع بالزمن إلى عام 1941، عندما كان جده (المختار) (حسين علي هارف) صاحب نفوذ ويحتكم إليه الناس،  وقد شهد احتفال ختان المولود الجديد أو ما يسمى باللهجة العراقية بـــ (الطهور) ولعب أطفال المحلة البنات والأولاد والمحاورة الغنائية، وحضر عدة مشاجرات بسبب الشابة الجميلة (سنية) وعلاقتها مع (نور) الذي يدرس الطب، وتجاوزات (ناظم) الشاب الأرعن الذي يتسبب بالعديد من المشاكل، وغالبا ما كانت تحل الأمور من قبل المختار وزوجته. وأهم ما كان يعكر أجواء البيت العراقي هو دخول الاحتلال الانكليزي، إلى جانب ما تضفيه المظاهرات المحتجة على الاحتلال من حماسة وقوة. وأن المشكلات في البيت الواحد التي حدثت وتحدث أمر طبيعي إذا ما تم احتوائها والتفاهم بشأنها، لأن الذين يعيشون في فضاء واحد ينتمون إليه، ولا مهرب لهم منه لانهم سيعودون إليه مهما طال بهم الزمن، كما هو حال (الجد) الذي عاد يملأه الحنين بعد سنين من الغربة.893 Theatrical show

حرص المؤلف (عقيل العبيدي) والمخرج (دريد عبد الوهاب) على بناء شخصيات الساكنين في البيت لتكون مزيج من اطياف الشعب العراقي وتنوعاتها من المحافظات من بغداد والموصل وغيرها ومن قومياته واديانه المؤتلفة تحت سقف واحد (المختار وزوجته وحفيده - عائلة (كرجي) الموصلية ولدين وأم وأب - طالب الطب (نور) من ديانة اخرى  - بروين ودايا من القومية الكردية - ام ناظم الأرملة وولديها المطيرجية ناظم وعزام - الفتاة سنيه وامها) اتضحت ملامح الشخصيات من خلال لهجات الحوار وتصميم الازياء والسلوك الاجتماعي وبعض العادات. والهدف من ذلك إظهار مكونات المجتمع كافة بصورة واضحة لا يقبل اللبس، ولا يختلف على دلالته اثنان.

أسس المؤلف علاقة حب من طرف واحد بين (ناظم المطيرچي) و (سنية)، زرعها المؤلف في المشاهد الأولى، لتبرز نتائجها في نهاية المسرحية، وكرر المؤلف كلمات (نور) عن صعوبة ارتباطه بعلاقة زواج مع (سنية) وأنه لا يستطيع ذلك رغم حبهما المتبادل، حتى بات المتلقي يتساءل لماذا لا يرتبط بها وهي الشغوفة به؟ هذا الزرع يدل بوضوح على قدرة المؤلف وضع العديد من علامات الاستفهام أمام المتلقي بقصد حصد المزيد من عوامل الاثارة والتشويق. 894 Theatrical show

حبك المؤلف أحداث المسرحية المتشابكة، وتضامن وعمل المخرج في ضوئها على البناء الدرامي للعرض: أطراف الصراع ومحوره علاقة حب الفتاة (سنية) مع الشاب (نور) في ظل عداء (ناظم) الشقي، أغاني المطرب ناظم الغزالي، (سنية) قلقة على نور بسبب اصوات الاطلاقات لأن الإنكليز دخلوا بغداد،(نازك) ترسل حفيدتها (بروين) الى (نور) مع (كليچة) العيد لغرض استمالته، تفاجئها ام سنية الغليظة، لقاء نور وبروين تفاجئهم سنية يبرر لقاءهم لسنية فيكون لقاء غرامي متخيل ينتهي بأغنية (تهانينا يا ايام … عزفي يا أنغام) ورقصة الأطفال ومشهد زواج  ليكسر الفرحة بأخبارها بأنه ليس مسلما،  وسط أفراح العيد، في وسط باحة البيت يلعب (ناظم) القمار -(لگو) باللهجة العراقية- مع مجموعة من المقامرين، يأتي إعلان ( صار الفرهود ) يطرد المختار (ناظم) وأخوه ولاعبي القمار. فتاح الفأل (نجم اللباگ) يبحث عن سكن لكي يفيد المختار، لأنه يعرف يقرأ الطالع، لقاء فتاح الفال (نجم اللباگ) مع (ست نازك) التي تريد تعديل حظ بنتها العاثر، يدخل إلى غرفتها لإنجاز عمل سحري، (نور) يخبر المختار بقرار مغادرته البيت وسط ذهول الجميع لأنه اكتشف كل ما مكتوب في الكتب كذب : خمس سنوات ولم يبح بسره. يطلب المختار من (نجم اللباگ) قراءة طالعه، يخبره بوجود: غيوم سوداء وغربان في كل مكان .. وكيف دخلت للبيت، المختار: يا ربي سترك.

تظهر بداية الأزمة في مشهد: سنية ترتدي السواد وتتذكر لقاءها مع نور، انها متعبة تخبر أمها ان حظها سيء مع الدكتور (نور) تروي معاناتها كونها بنت (ام الكبة) المحرومة التي لا تشبه باقي البنات وبلهجة خطابية مباشرة للجمهور، ام سنيه تفخر بكونها ام عاملة تعبت في تربية ابنتها (اللي مثلنا.. حرام عليه يحلم؟) يصفق الجمهور لهم.895 Theatrical show

ذروة الازمة تتجلى عندما يذاع بيان -من خلال جهاز الراديو- يناشد الشعب للدفاع عن الوطن ضد المحتل الانكليزي، ويبقى الجد وحده يفكر بدخول الغربان للبيت، تدخل عصابة (ناظم) لسرقة مخزن المختار بمشاركة مجموعة ويردون سرقة (گرجي ) يتفق عزام وناظم ويعملون على تنفيذ خطة السرقة ويهربون بعد صياح (كرجي)، يفزع الجميع ومعهم المختار وجميع النساء والأطفال .. (انه حرامي البيت) هكذا يقول المختار، ينسحب ناظم ويبقى السجال بين المختار وأم ناظم التي تعلن ان هذا البيت بيتها وأنها ستزوّج سنية من ناظم وستذهب لإحضار بدلة العرس، يتصدى له المختار، يشهر (ناظم) مسدسا لينال من المختار، يصيب ناظم والدته بطلق ناري بالخطأ أثناء الشجار ويندم على ذلك، الجد يصيح (كل شيء ولا الدم … دمكم غالي عليّ) يتم إنقاذ ام ناظم في المستشفى على يد الدكتور (نور) لتدخل فرقة موسيقية ومربعات بغدادية وتعم الأفراح. 

تباينت اصوات الممثلين من حيث جودة وصول الصوت إلى المتلقي، بسبب الاستعانة بوسائل مختلفة (النك مايك) و (الميكروفونات المعلقة) و (التسجيل الصوتي) و(الصوت العادي) مما جعل إيقاع الصوت متذبذبا ووحدة العرض السمعية غير متماسكة إلى حد ما.

جرت أحداث العرض جميعها في باحة البيت العراقي (البيئة البغدادية) المكونة من خمسة أبواب وأربعة شبابيك في الطابق الأرضي، وبابين وأربعة شبابيك في الطابق العلوي بألوان التراث البغدادي مع وجود الفوانيس والبساط بحياكة يدوية، تمركز الفعل الدرامي وحركة الشخصيات في وسط خشبة المسرح على ارضية مسطحة بلا مستويات، أمام أبواب وشبابيك الغرف المحيطة به، ولم تتحرك كتلة المنظر طوال العرض، مما أصاب الفضاء بجمود الصورة البصرية، في الوقت الذي عمل الاخراج على إثارة التطلع لما يجري في الطابق الثاني من البيت، حيث برج الحمام وشغف (سنية) بلقاء حبيبها (نور) هناك، مع ملاحظة : أن الكثير من اللقاءات الغرامية في تلك الأزمان كانت تتبلور تتم على سطح الدار، هذا حسب ما باحت به حكايات الآباء والأجداد، وما جادت به العديد من لقطات ومشاهد الأفلام والمسلسلات العراقية.896 Theatrical show

تفاعل الجمهور بالتصفيق مع كلمات مثل (ما نتفرق بإذن الله) واستأنس وتعالت الضحكات مع الكثير من المواقف الكوميدية، ولكن لم تكتمل صورة تأثيرها بعض التفاعلات، بسبب عدم إشباع الموقف من قبل الممثلون الاخرين، لان تفاعل المتلقي من تفاعل الممثل الآخر وينبني على رد فعله، وذلك حدث كثيرا مع حوارات الممثل (محمد حسين عبد الرحيم) وتعليقاته على الأحداث، إذ لم يصغ لها بعض او كل الممثلين أو لم يمنحوا الفعل مساحة الوصول والتفاعل إلى المتلقي وباشروا بأدائهم دون الالتفات إلى لحظة إشباع الفعل. وهذا حدث مع عدد من حوار وفعل شخصية المختار (حسين علي هارف) وكذا الحال مع شخصية (أم سنية) التي قدمت أداء كوميدي مقتدر دون مغالاة بصوت قوي وإلقاء متنوع وخفة حركة وسيطرة على الشخصية وحضور مميز. وربما ذكرت المتلقي بالفنانة الراحلة (أمل طه) وظهر الممثل (سعد عزيز) مع أغاني (فاضل رشيد) وفرقة المربعات البغدادية، التي تراوحت وظيفتها الجمالية بين التعليق على الأحداث وبين أداء فواصل ترفيهية، كما في مشهد محاولة (ناظم) تقبيل (سنية) بائعة (الكبة) والنيل منها، يقطع المشهد صاحب المربعات البغدادية عن (الكبة) بأداء حيوي للحد الذي لم يتبين منه هل ما يسمعه المتلقي تسجيل صوتي أم غناء حي، لقد أضفى على العرض أجواء من البهجة والاحتفال الشعبي المحبب. وتجدر الاشارة إلى جميع فريق العرض من الممثلين الذين قدموا وحدة أدائية فنية متماسكة، بدءا من استرخاء الفنان (محمد حسين عبد الرحيم) الذي تواجد على خشبة طوال العرض - ساعتان- يشارك ويعلق على الأحداث، إلى  (د. حسين علي هارف) صاحب الحضور المميز بشخصية مختار البيت وهي شخصية على درجة من البناء المركب، وانتهاء بمجموعة الأطفال المشاركين التي أضفت حيوية للعرض ومسحة جمالية، كسرت جمود احتكار العروض على الممثلين الراشدين، وكانت توقيتات دخولهم مبهجة مع الأغاني والرقصات / الحركات الإيقاعيّة التي رغم بساطتها منحت العرض أجواء من المتعة والبهجة، فضلا عن أن مشاركة مجموعة الأطفال كشف عن مواهب في التمثيل، ترسم صورة مستقبلية مشرق لهم.

يختم الجد العرض بنصيحة (خليكم يدا بيد وبغداد حلوة والوطن أغلى من الولد … محروسة يا بغداد) ومقولة (إذا ضاع وطنا نضيع كلنا) تهتز مشاعر الجمهور ويصفق طويلا، فقد اتضحت فكرة العرض: الاعتزاز بالماضي والإفادة من مجريات أحداث التاريخ في صناعة حاضر مشرق وجميل يتعايش فيه الجميع بسلام ومحبة.

حفل العرض بتنوع التمثيل والموسيقى والغناء الفردي والجماعي والرقص والمواقف الكوميدية والرومانسية مع التوترات والصراعات العائلية إلى جانب بعض الاحداث التاريخية. وعليه يصح ان يصطلح على الأسلوب الذي انتهجه الإخراج بالمسرح الشامل.

عرض مسرحية (بغداد ٤١) علامة مشرقة في تاريخ المسرح الشعبي العراقي، تواصل العروض بهكذا وتيرة يصنع جمهورا كبيرا، ليكون حضور العروض المسرحية جزء من تقاليد العائلة العراقية.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

........................

(1) احمد زكي: المسرح الشامل، بيروت، المركز العربي للثقافة والعلوم، السلسلة الثقافية، د.ت، ص 7.

(2) كريستوفر اينز: المسرح الطليعي من (1892-1992)، ترجمة : سامح فكري، القاهرة، وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 1994،ص181.

في المثقف اليوم