قراءات نقدية
فؤاد الجشي: (الرّوع) رواية تنبض بالحياة – زهران القاسمي

عندما تقرأ رواية تتوقع أن تكون بين النور والظلام، متنقلًا بين مشاهد مختلفة تثير مشاعرك، وتضعك في أجواء لا تنتهي من التشويق والتفكير العميق. فالقصص ليست مجرّد كلمات تُسرد، بل هي عوالم تُبنى داخل العقول، وأحداث تتشابك لتشكل نسيجًا فنيًا يعكس خيال الكاتب ورؤيته. من هنا، تأتي أهمية الرواية التي تأخذنا في رحلة سينمائية من خلال الكلمات، فتنسج لنا صورًا حية ومؤثرة تجعلنا نشعر وكأننا جزء من الأحداث.
الرواية التي انتهيت من قراءتها للكاتب زهران القاسمي هي واحدة من تلك الأعمال التي تترك أثرًا لا يُمحى. استطاع القاسمي، من خلال أسلوبه الفريد، أن ينقلنا إلى عالم مستوحى من تراث عُمان، حيث تمتزج الحداثة بالأصالة، ويصبح التاريخ خلفية زاخرة بالتفاصيل التي تدعم السرد الروائي. إنّ القصة ليست مجرد حبكة درامية، بل هي تجربة عميقة تمنح القارئ إحساسًا بالغوص في بحرٍ من اللغة العذبة والتراكيب الأدبية الراقية.
ما يميز هذه الرواية هو قدرتها على خلق مشاهد ذات طابع سينمائي، حيث تتجلى التفاصيل بوضوح، وتتحول الكلمات إلى صور حيّة داخل مخيلة القارئ. لم يقتصر على السرد التقليدي، بل استخدم تقنيات سردية متقدمة جعلت القارئ يعيش التجربة وكأنه يشاهد فلمًا متكامل العناصر.
من بين أكثر المشاهد تأثيرًا في الرواية، ذلك المشهد الذي يصف فيه الكاتب الغراب الجبلي، الذي لا يُعرف متى هبط، بسواده الفاحم وعينيه المرتكزتين على الأرض. هذا المشهد يحمل في طياته رمزية عميقة تعكس حالة الترقب والتشاؤم التي قد تراود الشخصيات أو ربما القارئ نفسه. بأسلوب دقيق ومفعم بالحيوية، استطاع الكاتب أن يجعل من الغراب عنصرًا دراميًا ذا دلالة، يضيف إلى أجواء القصة طابعًا غامضًا مثيرًا للتساؤل.
الرواية لا تعتمد فقط على الحبكة القوية، بل أيضًا على اللغة الراقية والأسلوب البديع الذي يمزج بين الوصف الدقيق والخيال الخصب. النص مليء بالجمل التي تحفّز الذهن، وتجعل القارئ يتوقف للتأمل في معانيها العميقة. على سبيل المثال، ذلك المقطع الذي يصف عمل الفلاح في اقتلاع الحشائش بطريقة تجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد مشهدًا حيًا من يوميات الريف. التفاصيل الدقيقة، مثل تفتت التربة في يده وتساقطها كالمطر، تضفي على المشهد حسًّا واقعيًا يجذب القارئ ويغمره داخل القصة.
إلى جانب اللغة الرصينة، تميزت الرواية ببنائها الدرامي المحكم، حيث تتوالى الأحداث بسلاسة دون شعور بالتكلف أو الإطالة غير الضرورية. كلّ مشهد له دوره في تعزيز الفكرة العامة للرواية، مما يجعلها عملًا متكاملًا يستحق القراءة والتأمل. كما أنّ الشخصيات مرسومة بعناية، حيث تعكس تصرفاتها وأفكارها ملامح إنسانية حقيقية، تجعل القارئ يتفاعل معها ويشعر بقربها.
الكاتب نجح أيضًا في توظيف الرمزية بطريقة ذكية، حيث استخدم العناصر الطبيعية، مثل الغراب والحقل، لإيصال معانيَ خفية تتجاوز السرد المباشر. هذه الرمزية تمنح الرواية أبعادًا متعددة، تجعلها قابلة للتفسير من زوايا مختلفة، مما يزيد من قيمتها الأدبية وعمقها الفكري.
من ناحية أخرى، استطاع المؤلف أن يمزج بين الواقع والخيال بأسلوب سلس، حيث تتداخل المشاهد الحقيقية مع الأحداث المتخيلة بطريقة تجعل القارئ يتساءل عن الخط الفاصل بينهما. هذا التداخل يضيف عنصر التشويق، ويدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة لمعرفة المزيد عن هذا العالم الذي خلقه الكاتب.
الرواية تعكس قدرة الكاتب على بناء عوالم سردية غنية بالتفاصيل والدلالات العميقة. هي ليست مجرد قصة تُقرأ ثم تُنسى، بل هي عمل أدبي يترك أثره في ذهن القارئ، ويدفعه إلى التفكير والتأمل في معانيه ورموزه.
الرواية تستحقّ أن تُصنف ضمن الأعمال الأدبية المتميزة، ليس فقط على المستوى الخليجي، بل أيضًا على المستوى العربي والعالمي. إنها رواية تُقرأ بشغف، وتظلّ تفاصيلها عالقة في الذاكرة، مما يجعلها واحدة من تلك الأعمال الأدبية التي تستحق أن تترجم إلى لغات مختلفة.
***
فؤاد الجشي