قراءات نقدية

جمعة عبد الله: حيدر كرّار وقصيدة (ما الذي سيحصل؟)

قصيدة تنهل من اصالة الشعر الحقيقي، بكل اقتدار وتمكّن. هذه أول قصيدة اقرأها لهذا الشاعر الشاب الموهوب ذي الثمانيةَ عشرَ عاماً، وطالب السادس الإعدادي/ الفرع الأدبي في كربلاء. يمتلك براعة ماهرة في قول وصياغة الشعر مما نقرأه في قصيدته (ما الذي سيحصل؟).
لم يتسنَ لي من قبل أن أقرأ له قصائد أخرى، لكنَّ قصيدته المذكورة تظهر بوضوح ساطع بأن خالقها ومكونها متمكن من عدة الشعر باقتدار مبدع جلي، فهو متمكن من الصياغة الشعرية التي تجبر القارئ أن يتوقف عندها، ويتأمل براعة صياغتها وصورها التعبيرية الناطقة بشكل بليغ وعميق، في المعنى والمغزى، والرمز الدالّ في مدلولات وإشارات بالغة الأهمية. متمكِّن من تكوين الرؤية الفكرية الرشيدة والهادفة. تتجاذب وتتعاطى مع منصات الحياة، وتتوغل بعمق، وتتجلى معانيها في تراكيبها اللغوية وبلاغتها التعبيرية وأسلوبها الرصين. متمكن من اللغة الشعرية الشفافة في انسيابها وتدفقها. لكنها تحمل خلفها حزناً وشجناً، يقطع انفاس القارئ وهو يتابعها. متمكّن من صياغة الصورة الشعرية البليغة، لترجمة حقيقية لمفردات الحياة، في واقع مأزوم ومخيّب للآمال بالاحباط الكلي المعاش. بلا شك إنّ تجربته الشعرية تأتي من رحم الواقع، في المعايشة والتجربة الحميمة للواقع العراقي بكل احباطاته وشجنه ومعاناته. لذا فإنّ القصيدة تطرح الكثير من التساؤلات الجوهرية في المعنى والإيحاء الدالّ، الذي يستحق التفكير والتأمل العميق، بما أصاب الواقع العراقي من معاناة، فالتهب شعر رأسه بالمشيب الأبيض قبل الأوان، بأن اصبح هو نفسه (سيزيف) حامل صخرته على كتفه بالمعاناة والعذاب الأبدي. هذا الشعر الحقيقي الذي ينبغي أن يقال ويصاغ كلسعات كهربائية؛ ليفيق العقل من سباته وغفوته، ويدرك بأنّ الماء قد وصل الى العنق. وان يفيق قبل ان تجرفه المياه، وأنْ يدرك ويفهم حقيقة ما يجري في الخفاء والعلن، ان يدرك ماذا حصل؟ وماذا سيحصل؟ وماذا تغير؟ وماذا سيتغير؟


أسير وحدي، راكبًا جوّالتي،
أقطع الطريق نحو الأرض المفتوحة،
حيث النخلُ يحرسُ الفقراء،
وحيث المجانين يحادثون الله دون وسيط.
هناك، في أطراف المدينة،
في البقعة التي يسمّونها "الشبانات"*
أذهبُ لأتأمل،
أفرش نظري على خضرةٍ لم تمسسها يدُ الإسفلت،
أسحبُ نفسًا من سيجارتي،

هذه صورة طبق الأصل للواقع اليومي للوحة العراق الكبيرة، بكل تبعاتها المؤلمة والموجعة، صورة الفقراء والمظلومين، وهم يكابدون القساوة من أجل رغيف الخبز، صورة الأمهات اللائي حُرمن من نعمة وجود فلذات اكبادهن أحياء، فمنهم شهداء الحروب العبثية، ومنهم شهداء بطش النظام السابق المتسلط بالإرهاب والقمع. ومنهم المخطوف والمغيَّب، تنتظر أمهاتهم على قارعة الطرق، ربما يخطف خيالهم الذين ذهبوا، ولم يعودوا. أنْ يفهم ويدرك القارئ الأطفال العراة وهم يلعبون، وهم محرومون من رعاية الطفولة، كأن الله خلقهم حفاة وعراة في الطرق الى الأبد، أن يدرك ويفهم القارئ: بأن الناس أصبحوا لعبةً كالدمى من أجل أن يكون مثواهم الأخير وادي السلام، والباقون ينتظرون دورهم في قائمة طويلة بلا ترتيب ..... أنْ يدرك ويفهم القارئ بأن الحياة اصبحت أشدَّ ظلمة من القبور. حتى لو فتحت المقابر، وأعطيت للموتى إجازة ليوم واحد فقط، فإنهم بعد سويعات قليلة يرجعون هاربين من جحيم الحياة فوق المقابر، والتي هي أشد قسوة من ظلام القبر . هذا طعم حياة العراقي بعلقمها وحنظلها. لكن مَن يسمع صرخات واستغاثات المظلومين، وانين وبكاء امهات الشهداء؟ السؤال البريء والساذج !!!! من المسؤول عن أن يجعل الحياة بهذا الشكل من الجحيم، وهل هؤلاء - أنصاف البشر المتوحشين - يقبل الله توبتهم عند يوم القيامة والحساب؟ ربما يغفر الله سبحانه وتعالى لإبليس ويدخله نعيم الجنة، لكنَّ هؤلاء من حملت اكتافهم الخطايا والذنوب والرزايا، هم مَنْ جعل الحياة رخيصة، ودم العراقي يسفك بدم بارد وبرخص، لا يقبل الله سبحانه وتعالى ان يسمعهم، ولا يقبل توبتهم، فيكون مصيرهم نار جهنم، وبئس المصير. مثلما جعلوا الحياة نار جهنم، فالظلم بالظلم، والبادي اظلم، واشد قساوة وعقاباً، لنقرأْ ما يقول الشاعر حيدر كرار في قصيدته:


ماذا لو قَبِل اللهُ توبةَ إبليس؟
هل ستنهار خطط العذاب؟
هل ستُطوى جهنّمُ كما تطوى الصحفُ بعد انتهاء الأخبار؟
*
ماذا لو وضعوا قنبلة غازٍ مسيلٍ للدموع في يد مَلَك الموت؟
هل سيرجعها كما فعل "أبو علاوي الحلاق"؟
يردّها عليهم ضاحكًا، قائلًا: "خذوها،..
لا حاجة لي بها، الموت يكفيكم!"

حيدر كرار شاعر يملك موهبة واعدة بالكثير من الإبداعات الشعرية، يركب حصان الشعر، يجول ويصول بمهارة واقتدار.
والى المزيد
***
جمعة عبد الله

 

في المثقف اليوم