قراءات نقدية

زهير ياسين شليبه: قراءة في رواية "نينا بتروفنا" (4)

للشاعر والروائي العراقي حسب الشيخ جعفر

القسم الرابع والأخير: الأبطال

تتميز رواية "نينا بتروفنا" لحسب الشيخ جعفر بِقِلّة عدد شخصياتها، وكلها روسية باستثناء البطل، معظمها من النساء. البطل الرئيس راوي السردية و"مدير" الحوارات والنقاشات والعلاقات، شاب عراقي يعاني من العشق والوجد والولع بالأدب، يعمل مترجماً في موسكو، لم يقدم الكاتب لا اسمه ولا أي وصف خارجي أو داخلي بمونولوجات كلاسيكية إلا قليلا.

فهل الراوي صورة الكاتب، أم شخصية مركبة يمثل مواطني الدول النامية القادمين للدراسة مجانا في الاتحاد السوفييتي، على عكس بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح، حيث إنه يدرس في الدولة الاستعمارية بريطانيا، ولا يحب البقاء فيها مفضلا العودة إلى قريته السودانية، يأخذ ولا يعطي إذا ما استثنينا الجانب "العاطفي" يأخذ من "مستعمريه العلم والجنس" ويمارس العنف مع النساء. ممكن مقارنته من حيث العنف مع بطل "قلب الظلمات" لجوزيف كونراد، أو حتى "مرتفعات وذرنج" لإميلي برونتي.

أما بطل "نينا بتروفنا" فإنه إنسانٌ "مُأنسَنٌ" بالقيم الرفيعة، مسالمٌ يعطي ولا يأخذ غير الحنين والانتماء والطمأنينة، فالحب أو "الجنس" كان متاحا بدون هذه العطايا الكثيرة، إنه شخص شغوف ومليء، مثقف، مهتم بالتراث الإنساني العربي والأدب العالمي وملم به وبالذات الروسي، وله مواقف من الترجمة مهنته التي يكسب رزقه منها، وسخي بدون مقابل، قد يكون لدرجة السذاجة، هل هو بسبب شعوره برد الجميل، أم ضعف شخصيته وسطحيته أم إحباطه الضمني غير المعلن عنه دائما؟

"كنت أترجم وأترجم طرداً للسأم" ص 59، وهو غني بكل شيء بالنسبة إلى أهل البلد الأصليين، إضافة إلى ثقافته ومشاعره وعاطفته الشرقية يغدق عليهم بالهدايا باستمرار، "اخترت في السوق الحرة ما يليق بهن من هدايا...". ص 136

حتى إن ليوسا رفضت مرةً هداياه الغالية من السوق الحرة، التي تبيع سلعها بالعملة الصعبة، قائلةً ممازحةً "لا تزدني فضائح"ص141، وهو ما يعبر عنه الكاتب في مكان آخر من الرواية، "مذ دخلت ناديا ببدلتها الأجنبية الأنيقة، وفتيات المقهى ينظرن إليها وإليّ بين الحين والآخر وهي ترى. قربت وجهها من أذني هامسةً: إنهن يتشوقن إليّ". ص 228700 Nina Petrova

وهو لا يعاني من النفور وغير مرفوض من قبل أهل البلد، بل يبحث عن الاستقرار عندهم، ويريد الزواج من نسائهن بأي ثمن وبدون استعدادات أو مقدمات كما هو واضح في علاقته مع ليزا صديقة جارته ليوسا " ليزا.. هل يمكنني أن أتزوجك؟" ص 20، وناديا، التي "أجلت" زواجها منه ثلاثة او أربعة أعوام. بيد إنه يصر على الزواج منها خوفاً من ان تكون حاملا منه " لن تجهضي. سنتزوج غداً... غداً نتزوج". ص 286

 لكن علاقته بنينا بتروفنا أمر آخر، إنها أليغوريا العذرية وحنان الأم المفقود في طفولته القاسية، فهي التي تقترح عليه الزواج من ناديا، "لماذا لا تتزوج ناديا؟ ... إنها ربيبتي ليست بنتي" ص 82، وهو في النهاية تبرير غير مقنع اجتماعيا إن أردنا التدقيق في طبيعة بناء "الحدّوته" على الطريقة الكلاسيكية، لكنها رغبة الكاتب في تجسيد هذه الأليغوريا، إضافة إلى العودة إلى الجذور.

نقرأ في الرواية مونولوج غير تقليدي "أنت لا تحب إلاها. إلا نينا بتروفنا أيها الدونجواني الشقي. لماذا اللقاء بناديا وغير ناديا؟ أهو مرض؟ مرض فينوسي؟ أهي الرغبة بتعدد الزوجات؟ ...". ص 180

وتتابع ناديا " تقول جدتي: أنا حائرة بينكما وبينه لماذا لا يتزوج إحدى المرأتين فتستقر الرياح؟ يخيل لي إنه حائر بينكما ... وتقول نينا بتروفنا: إنه في مثل عمر ابني. حرضي ناديا لتتزوجه". ص 181

وأخيرا فإن الراوي يمعن في وصف قوة نينا بتروفنا وحمايتها له كأم " كانت نينا بتروفنا أثبت مني قدماً، ونحن مسرعان إلى المخزن، في مهب من الرياح والثلوج المتسارعة المتشابكة.. فهي عذراء الثلوج الروسية وزوابعها. ولم تترك ذراعي لحظة خوفاً عليّ من أن أقع أو أزلق..." ص207، وهو ما يفسر بقاء المذكرات / مخطوطة الرواية عندها بعد وفاته مع ناديا في حادث سيارة.

ولهذا فإن الراوي يبرر إلحاحه على الزواج من ناديا عندما تماحكه الأخيرة ساخرةً منه بأنه لا يحب نينا بتروفنا "كدتَ تنساها البارحة " ص291، فيبرر "كنتُ خائفا أن تؤذي نفسَكِ" ص291، وأنظر التبريرات الأخرى. ص292

يقول الراوي لصديقته المميزة نينا بتروفنا ومنذ ليلتهما الأولى مكتشفا عذريتها "اسمعي رجاءً.. وأنا جاد. صادق فيما أقول، هل يمكنني أن أتزوجك؟ من فضلك" فتجيبه "ما بك؟ أنت في عمر ابني... أنا زوجتك. ألم تتزوجني الليلة؟ ماذا ستقول أسرتي وصواحبي؟ ... سيقولون إني أوقعت بك اثرةً واحتيالاً" ص 27، فيعلق قائلاً " ما أنا إلا فتى أجنبي لا يملك غير راتبه، فأين الإيقاع هنا؟" ص 27، وكأنه لا يعلم أن الهبات أو "المنح" كما يسميها، التي يوزعها على النساء كانت تكفي كَرِشى لمسؤولين كبار لحل مشاكل كبيرة يواجهها الناس في حياتهم اليومية آنئذ. حتى إن صديقته ناديا بدأت "تستغله"، "شاكستُ رئيسة القسم...ووعدتها بزجاجة ويسكي وسآخذ الزجاجة منك، وسمحت لي بالخروج مبكرا" ص59، على عكس نينا بتروفنا، التي تنصحه بالاقتصاد والتوفير وعدم شراء الهدايا.

زميله الصحفي أندريه، غارق في الإدمان والعشيقات وحياة اللهو دون أن نقرأ سردا عن حياته لكن هذا هو استنتاجنا، نفس الشيء يقال عن زوج جارته ليوسا.

نساء الرواية عاطفيات حنونات ينشدن الاسترخاء والاستمتاع بالحياة كرد فعل لفترة ما بعد الحرب التي عاشتها امهاتهن: ناديا وليوسا وصديقتها ليزا والجارة الجديدة، والبنت المستعربة، والنادلات الشابات الكثيرات اللاتي لم نتعرف لا على أسمائهن ولا أوصافهن الخارجية.

بطلة الرواية نينا بتروفنا، كانت في ريعان شبابها أثناء الحرب الوطنية العظمى كما كانت تسمى في الاتحاد السوفييتي، لكنها لا هي ولا والدتها لم تتحدثا عن تلك الفترة القاسية، مما يدلل على رغبة الكاتب بذلك. وهذا يطرح تساؤلات عليها.

من هو الشخص الذي يقف خلف صاحب المخطوطة او المذكرات؟ إنه الراوي، ولكن من هذا؟ إنه صورة الكاتب وليس الكاتب بحد ذاته. هذا يحتاج الى نقاش معمق آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى.

يقول الراوي "أوقعت نفسي حقاً أو أوقعتني المقادير على منزلق خطير! فتباً وتباً لي... قد أخادع نفسي وأقنعها، أحيانا أنني (متزوج) من امرأتين، لكن أمن السهل عليّ مخادعة امرأة حسناء محبة ووفية لي؟ أأنا مخادع؟ هل أنا غشاش؟ ...ما الحل؟ وأين راحة البال؟ هل (لمست) نينا بتروفنا شيئا ما وغضت الطرف ...". ص70

وهو أمر لم تخفه عنه ناديا عندما قالت له " ستشم نينا بتروفنا رائحتي في فراشك". ص 45، وتعبر عن حالها بشكل أوضح قبل نهاية الرواية "...لماذا لا أنام الليل كله هنا؟ أأنا فتاة شارع؟ أأنا ممن يبعن أجسادهن بقبضة روبلات؟ ... من طوّحَ بي؟ من (عهرني)؟ أين مني خجلي وعفتي؟". ص 314

ويسخر من نفسه قائلاً "التقى الأجنبي الغر سيدةً، وغادةً غضة، فاحتار بينهما، سأل المحير بين العيد والعيد". ص82

وهل يمكن إخفاء مثل هذه الأمور في الحياة السوفييتية بخاصة إذا كان الرجل أجنبيا؟ فالبطل "زير نساء" لا يترك واحدة إلا واصاب منها ما يريد، علاقاته بهن مفتوحة وواضحة في المجتمع حيث الناس يتناقلونها، لا سيما أن حبيبته طبيبة جراحة معروفة، ولهذا تحذره ناديا مبررة ممانعتها تقبيله "قد يمر أحد الجيران، إنهم يعرفون أنك فتى نينا بتروفنا". ص68 وتقول له ايضا " أنا ربيبتها المدللة ... إنها تعرف. هي ذكية جداً ...". ص78

أجل، نينا بتروفنا تجسد أليغوريا السمو والأخلاق العالية والبهاء والجلال والذكاء والجمال والحنان، إنها حبيبته وخليلته وأمه وروحه، التي لا يمكن للراوي التخلي عنها أو الانفصال عنها، إنها تنتقل في مخيلته من شقته الموسكوفيه إلى قريته في جنوب العراق حيث "الديكة تتصايح، ... تصحو (نينا بتروفنا) لتخبز العجين" ص 289، وأنه بالتأكيد سينتحر إن لم يمت في حادث سيارة، إن أجبر على الزواج من ناديا! ------

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك

......................

* حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014

* كُتبت هذه الدراسة عن رواية "نينا بتروفنا عام 2016 ونُشر جزء قصير منها عام 2018 في إيلاف.

في المثقف اليوم