قراءات نقدية
راجاشري موهاترا: قراءة نقدية في قصيدة: الشاعر كريم عبد الله

"في انهاركِ يتلاطمُ الغيم"
أيّتها الليليت المكسوة بعطشِ البَساتين، القابعة في حنايا شراشفِ الليل، أيّتها النافرة في تضاريسِ قفصِ الصدر، تينكِ لمّا يزل ينضجُ على أغصانِ التمرّدِ، وشرارةُ الثديينِ تقدحُ في مائدةِ الرغبةِ، وأنتِ تنضحينَ بالأغراءِ مِنْ ضلعِ آدم، أيّتها الراقصةُ على شَبَقِ أنغامِ التولّهِ، وفي الدفاترِ معمّدة بأمطار تعاويذ الشهوةِ، اسكبي عطوركِ جبارةً في كأسِ الخيال، العصافيرُ المحبوسة بأحلامي تبحثُ عنْ هديلكِ، عنْ البريق النابضَ في صلواتِ الشفتينِ ’ والشهقةِ المنسكبة توقظُ القرابينَ في الحلكةِ، ألَمْ يَئِنُ لغاباتكِ تفتحُ سيقانَ اشجارها، تلقّحُ جذوراً نخرَ فيها سوسَ الانتظار، وتشربَ الجوعَ مِنْ غدران يعشقها النسيان ..؟؟!!!، طوووووويلةٌ أيامكِ مرتعشةٌ كـ ارتعاشةِ وحدةِ الشتاء، خفيفةٌ أهدابُ فراشاتكِ تلتحفُ الحلم، لكنَّ نافذتي مجروحة بلوعةِ أغنيةِ الحرمان، حطامُ زوارقي للآنَ تجثو على بؤبؤِ الطوفان، ينمو في ركامها دَغَلٌ غريبٌ يهدهدُ غربتي، وسيولكِ جارفةٌ حدَّ الانعتاق مِنْ ظلمةِ الهاوية، كلّما فتحتُ خزانةِ الأسرارِ تنعتقُ مفاتنُ الغوايةِ، عاليةً ترفرفينَ راقصةً تحتَ صفصافتي، وسراجكِ يرسمُ طبتَ المخدعِ وهمهمةً مفضوحةً، مَنْ إذا ينحني يحصدُ اللهفةَ في خيامِ الصخب، ويُشعلُ بالابتداء نزفَ الطرقاتِ الملغومةِ، ويحصدُ الخمرةَ خلفَ ابوابِ الهذيان؟!.
***
د. كريم عبد الله - العراق
...............
هذه القصيدة استكشافٌ غنيّ وحسيّ للرغبة، والإغواء، والحنين غير المُشبَع، وقد غُمرت بصور طبيعية حيّة وإشارات توراتية. أدناه تحليلٌ لموضوعاتها وبنيتها وصورها ونبرتها، مع التركيز على تفسير معانيها المتعدّدة.
الرغبة والإغواء:
تدور القصيدة حول توقٍ عارم، يكاد يكون غريزيًا، يتجسد من خلال شخصية حواء، الرمز التوراتي للإغواء. يستهلك المتحدث الشغف والانبهار، وقد صُوِّرا كأنهما خمران ساحران ومعذّبان في آنٍ معًا.
تُعزز صور النضج، والجوع، والإغواء الذائب الجاذبية الجسدية والعاطفية للرغبة غير المُحققة.
الطبيعة والجسد:
تمتزج الطبيعة مع الجسد الإنساني، حيث تُستخدم المناظر الطبيعية (الأنهار، والبساتين، والغابات) لعكس ملامح الرغبة والجسد. وهذا يخلق نوعًا من الألفة بين العالم الداخلي للشاعر والعالم الخارجي، إذ تعمل الطبيعة كرمز للشغف والخصوبة.
التمرّد والحبّ المحرَّم:
تشير الإشارات إلى حواء، وضلع آدم، والتين "الذي لم / ينضج بعد على أغصان التمرّد" إلى صراع ضد القيود أو الأعراف الاجتماعية. تصوّر القصيدة الرغبة كقوة مبدعة ومدمّرة في آنٍ واحد، تقف على حافة المحرَّم.
الحنين وعدم الإشباع:
تخترق القصيدة مشاعر من الانتظار والتحلّل ("جذور تعفنت من انتظار السوس"). يظل شوق الشاعر دون ارتواء، وينعكس ذلك في صور البساتين المهجورة.
البنية والأسلوب
القصيدة مكتوبة بأسلوب الشعر الحر، دون نمط إيقاعي أو قافية منتظمة، وهو ما يعكس طبيعة موضوعاتها العضوية المتدفقة. تتفاوت أطوال الأسطر وتُستخدم الجمل المتقطعة (enjambment) لتوليد إحساس بالعجلة والتشظي، وهو ما يعكس الاضطراب العاطفي للشاعر.
تنقسم القصيدة إلى مقاطع فضفاضة، كل منها يغيّر التركيز قليلًا — من الكوني (الأنهار والغيوم) إلى الحميمي (الصدور، الأضلاع، الشفاه)، ثم تعود إلى الصور الطبيعية الواسعة (الغابات، المجاري الجافة). هذا التذبذب بين الشخصي والكوني يُضخّم البُعد العاطفي للنص.
الاستخدام المتكرر لـ "يا" (O) يُضفي طابعًا كلاسيكيًا، كما لو أن الشاعر يتوسّل أو يُناجي إلهامًا غامضًا.
الصور الرمزية والتشبيهية
صور القصيدة غنية، حسيّة، ومليئة بالرموز:
العناصر الطبيعية:
الأنهار، والبساتين، والغابات، والمجاري الجافة، تُثير معاني الخصوبة والنمو والتوحّش. لكنها غالبًا ما تُقرَن بالتحلّل أو الهجر ("جذور تعفنت")، ما يشير إلى توتر بين الحيوية والفقد.
الإشارات التوراتية:
حواء وضلع آدم يُؤطران القصيدة في سردية الخطيئة الأصلية، حيث تظهر حواء كمُغوية وككائن جدير بالتبجيل في آنٍ معًا. ترمز "ثمار التين" إلى الفاكهة المحرّمة، التي لم تنضج بعد، ما يدلّ على رغبة مُغرية بعيدة المنال.
الجسد كجغرافيا:
يُصوّر الجسد كأرضٍ ("شرارة الصدور")، فيمزج بين الحسيّ والمجازي. هذا يخلق ارتباطًا حسيًا بين رغبة الشاعر ومحلّ الشوق.
النار والشرر:
تصوّر النار ("إشعال مائدة الرغبة") شدة الشغف وخطورته، بينما ترمز "الشرارات" إلى لحظات خاطفة من الاتصال أو الإلهام.
السجن والانعتاق:
"الطيور المسجونة في أحلامي تبحث عن هديلكِ"، و"الضوء النابض في صلوات الشفاه" تُثير شوقًا للتحرر، جسديًا وعاطفيًا. تُوحي الصور الختامية للأشجار المنفتحة والجذور المُخصبة بإمكانية التجدد، وإن كانت غير مُحققة.
النبرة والمزاج
النبرة عاطفية، تبجيلية، وأحيانًا مليئة بالمعاناة. يتأرجح الشاعر بين التقديس واليأس. أما المزاج فهو حنين مسكر، مشوب دومًا بالتوتر بين النشوة والإحباط. تتوازن حسّية القصيدة بشعور خفي بالحزن، إذ تبقى رغبات الشاعر على الدوام عصية على التحقق.
التفسير
في جوهرها، تستكشف القصيدة مفارقة الرغبة: فهي قوة إبداعية تُغذي الخيال، لكنها أيضًا مصدر للعذاب حين لا تُشبع. وتُجسّد شخصية حواء هذا التناقض — رمزٌ للإغواء ومثلٌ أعلى بعيد المنال.
إن انشغال الشاعر بها يوحي بصراع داخلي — ربما بين قيود المجتمع والعاطفة الشخصية، أو بين الخيال والواقع.
تُرسّخ الصور الطبيعية القصيدة في إطار أسطوري بدائي، حيث تبدو المشاعر البشرية شاسعة وغير مروّضة كالأودية والغابات. ومع ذلك، توحي الرموز المتكررة للتحلّل والهجر بثمن التوق الطويل — الجمود العاطفي أو الفقد.
***
بقلم الشاعرة الهندية: راجاشري موهاترا .