قراءات نقدية

حميد الحريزي: الاختزال والتكثيف في الرواية القصيرة جداً

القدرة على سرد ما قل ودل وليس عجزاً في التعبير

(تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، الجرجاني

***

"التكثيف كمصطلح أدبى فهو خصيصة جوهرية من خصائص الشعر، ويكون على المستوين البنائى والدلالى فالتكثيف البنائي هو الاقتصاد اللغوي وعدم تحميل النص بكلمات زائدة عن حاجاته، وتكثيف دلالي وهو تحميل الكلمات وشحنها بالدلالات المتعددة، ويشتبك التكثيف البنائي بالتكثيف الدلالي اشتباكاً لا انفصال فيه بحيث يتحقق الاقتصاد اللغوي القائم على إزالة الحشو والزيادات مع التكثيف الدلالي و تكثير وغزارة المعنى في آن واحد"

"الجدير بالإشارة أن التكثيف والاٍختزال ليسا مصطلحين مترادفين يحل كل منهما محل الآخر، فالاختزال يختلف عن التكثيف في أن الاختزال تكثيف شديد يستخدم في صياغة النصوص القصيرة جدا كالاٍبيجراما أو الومضة الشعرية، وهو بذلك يتناسب مع النص القصير الوامض الخاطف الذي يعبر عن لحظة أو مشهد خاطف وامض يصوغه الشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات وأكبر قدر ممكن من الحمولات الدلاليه" محمدعزب الانطلوجيا 9 شباط 2021 طامي الشمراني

https://makkahnewspaper.com/article/1557855/الرأي/الأدب-الوجيز-طفرة-أم-استجابة-لروح-العصر

أهتم الأدب الوجيز كالقصة والقصة القصيرة جدا وكذلك قصيدة النثر  والهايكو، بالإيجاز والتكثيف في عملية السرد وتخليق النصوص السردية والشعرية، لتستوفي مبررات وجودها كجنس أو أجناس إبداعية تستجيب لروح العصر ومتطلباته للاختصار وعدم الإسهاب  في التوصيف والتعريف والاكتفاء بما قل ودل من الكلمات والجمل، وقد أهتم العرب عبر تراثهم الأدبي والكتابي بهذا الأمر   حيث دعا عبد القادر الجرجاني إلى (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، وهذا التعبير أو هذه التوصية تستبطن الكثير من معنى ودلالة  التكثيف والاختزال  وهذه  الوصية أو النصيحة الجرجانية الثمينة ربما تكون سابقة حتى لعصرها، في حين أصبحت ضرورة ملحة في عصرنا الراهن عصر العولمة، عصر السرعة، واقتصاد الزمن في واقع يستوجب السرعة والإيماء والرمز ولا يحتمل الإطالة والإسهاب، ومن مبررات ذلك انشغال الإنسان حد القهر بالعمل اليومي لتأمين متطلبات الحياة المتزايدة دوماً. الإنسان في عصر الأنترنيت وتطور شبكات التواصل والفضائيات واسعة الانتشار أصبح يستبطن الكثير من المعلومات  التي كانت عصية عليه في القرون الماضية، وبذلك أصبح يفهم ويدرك الكثير من الأمور والصفات والتعريفات بالإشارة ولا داعي للإسهاب والإطالة والإعادة المملة  للكثير مما يعرفه ويضمره المتلقي في ذاكرته وتجربته الحياتية، وكأن المتلقي  يتوسلك: يا أخي لا تعيد علي ما أعرفه اخبرني بالجديد المتفرد للشيء الموصوف من قبلك، فأنا أعرف تفاصيل برج إيفل  وتاريخ  إنشائه ومهندسه، لا داعي أنْ تصف لي  وتعرف  طوله ومساحته  وتفرعاته، اذكر لي أذا استجد  شيء في هذا البرج لم أعرفه، أخي  صاحب المطعم أعطني وجبة غذاء أتناولها وأنا أسير  حتى لا يفوتني القطار أو الطائرة لا وقت لدي للجلوس وتناول الطعام  المتنوع  والمقبلات  وووو في مطعم فاخر ...

وأنت يا أخي الروائي العزيز وقتي محسوب ببعض ساعات  قد أقضيها في قطار أو طائرة أو باص نقل، أو فترة استراحة بين دوريتي عمل في معمل أو مصنع، وأنا بالتأكيد بحاجة إلى وجبة غذاء روحي كالرواية والشعر والقصة. شكرا لكاتب القصة القصيرة جداً وقد اختزل  كثيراً، وقد فهمني  كاتب قصيدة النثر  والهايكو ... أما أنت  أيها الروائي قدر وقتي ولا تحرمني من متعة قراءة الرواية أرجوك كثف كثف أختزل قلل أحذف كل الزوائد والمرادفات  أختار كلمة واحدة ولا تكرر المرادفات، فكر في كتابة كل مفردة لتكون هي أفضل الكلمات  تعبيراً عن المعنى وتخليق المبنى ... واستذكر مقولة الجرجاني: (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، كما أرجوك لا تعيد على ما استبطنه من معرفة عن المدن والبنايات  وعمارة  الدور وحتى التوصيف السائد لشكل وملابس الشخصيات الروائية، اذكر لي فقط العلامات الفارقة، أنا أعفيتك ضمن ما استبطنته من معلومات وفرتها ثقافة العصر الراهن أن لا تطيل وأن لات سهب فحينما تذكر مدينة لندن مثلاً،  تتولد في مخيلتي كل صفات هذه المدينة وساحاتها  وشوارعها  ومتاحفها  ومسارحها  ومتنزهاتها ... فقط أعطني  وصفي  إنْ جد فيها جديد لم أعرفه.

من تجربتي الحياتية  سألت  أحد الأصدقاء حول  صديق  مشترك  بيننا  فقال:- نعم  هو  بخير، رأيته يرتدي بدلة زرقاء من قماش انكليزي، خاطها عند الخياط فلان، دفع له المبلغ الفلاني كأجرة خياطة، زوج أحد أولاده من أحد بنات خالته  المعلمة في  المدينة الفلانية وعمرها .... وظل يشرح ويفصل  بإسهاب ممل  لأمور أنا لا احتاجها  وأخرى أنا اعرفها ... كل ما أردته منه أن يقول إني رايته وهو بخير، وكفى.

وهذا  هو  ما تريد أن تنتهجه الرواية القصيرة جداً  في أسلوب  سردها  وحياكتها  لأحداث الرواية القصيرة جداً لتفي بشروطها في الاختزال والتكثيف مع احتفاظها باشتراطات الرواية، وهذا  يفرض على الروائي التفكير كثيراً قبل أن يكتب المفردة  وصياغة الجملة بدون زوائد وان تعبر أحسن تعبير عن المعنى، مكتنزة المعنى من دون كرش وترهل رشيقة أنيقة معبرة، وهنا يجب أن يمتلك الروائي خزيناً لغوياً وثقافياً كبيراً يضخ له الكلمات والمفردات من مخازن ذاكرته الثرية بهذه المفردات والصور والكلمات، شرطها الأول هو كثرت القراءة والمطالعة وكما ذكر الأستاذ عبد الجبار الرفاعي  ضمن مقال بعنوان (الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال) : (كما الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة).

لذلك  ترى المتحدث  أو المحاضر المكتنز للمعرفة يعبر عما يريد بأقل الكلمات وبأقصر الجمل، بينما  نرى آخر قليل الاطلاع  يظل  يلف ويدور ويرغي ويهذر  محاولا توصيل ما يريد إلى المتلقي من دون جدوى.

فالكتابة جزلة المعنى رشيقة القوام أمر في غاية الصعوبة وعلى وجه الخصوص في مجال كتابة الرواية القصيرة جداً، فقد قال أرنست همنغواي لمن يريد أن يصبح كاتباً، وبالتحديد روائياً: (عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل ويعرض هو على نفسه أن يكتب أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه بمثابة بداية).

هذا ما قاله همنغواي  حول صعوبة الابتداء بكتابة رواية  طويلة أو قصيرة وهو لم يكتب رواية قصيرة جداً  تستدعي جهوداً  أضعاف م اتتطلبه كتابة رواية طويلة أو رواية قصيرة  لإيصال هذه الفكرة إلى المتلقي المستعصية  بأسلوب  مختزل مختصر مكثف أكثر صعوبة واستحالة. وكما قال الدكتور حسين المناصرة في مقال حول كتابة القصة القصيرة جداً: (وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في مجال الكتابة عمومًا، والقصة القصيرة جدًا خاصة، هو: كيف أصبح قاصًا حقيقيًا؟! وكانت الإجابة الوحيدة : قبل أن نكتب علينا أن نقرأ ، ثم نقرأ ، ثم نقرأ في المدونة التي نريد أن نكون من كتابها؛ فمن وجد أنّ لديه ميولًا في كتابة القصة القصيرة جدًا؛ فعليه إن يقرأ ما لا يقل عن مئة مجموعة قصصية قصيرة جدًا؛ حتى يتمكن من أن يكون كاتبًا جيدًا في مجالها.

اقرأ المزيد على الرابط:

https://iraqpalm.com/ar/a3112

كل هذه الصعوبة يواجهها من يريد أن يكتب قصة قصيرة جداً، وهي محدودة الشخصيات ربما شخصيتين لا أكثر، ومحدودة الحوارات، ومحدودة الزمن، ومحددة الهدف، فما أكبر وأصعب مهمة كاتب الرواية القصيرة جداً، متعددة الشخصيات الرئيسية والثانوية، وتعدد الحوارات، وانتقالات الزمكان، وتحديد الهدف المنشود بأقصر الجمل وأقل الكلمات، وارشق الحوارات، وبلوغ الهدف محافظة على اشتراطات أمها جنس الرواية.

فقد كتبت الرواية الطويلة بأقل قدر من التوتر والحذر من الانزلاق إلى جنس أو نوع أدبي مجاور، بينما كتبت الرواية القصيرة جداً وأنا في غاية التوتر والتركيز والحذر من الإسهاب حتى لا انزلق إلى  الرواية القصيرة، ولا أن أوغل في الاختزال والتكثيف لانزلق صوب القصة القصيرة جداً، أو إلى النص الشعري النثري الحديث،  والخوف الشديد من عدم القدرة على إيصال الفكرة ومضمون الثيمة الروائية إلى المتلقي بأقصر الجمل  وأقل الكلمات، يجب أن  تكون الرواية القصيرة جداً رشيقة القوام حد النحافة، مكتنزة المعنى والمبنى حد النشاط والحيوية وخفة الحركة المشوقة للمتلقي، تتحول الرواية القصيرة جداً إلى نص وامض متعدد الفجوات والفراغات، يتحول إلى دوائر متوالية متسعة دائماً في مخيلة المتلقي لتسد وتشغل كل الفجوات والفراغات التي تركها المؤلف لتكون من حصة المتلقي لسدها بطريقته الخاصة وما يختزنه من  خبرة ومعلومات  حول  الشخص أو المكان أو الحدث  الذي يبدو ناقصاً غير مكتمل المواصفات ضمن المتن الروائي، مما يوفر للمتلقي متعة المشاركة في كتابة النص، كما تتعدد المعاني والمباني للنص بتعدد القراءات بعدد القراء. وهنا تكمن الصعوبة التي يواجهها كاتب الرواية القصيرة فيما  يقدمه للمتلقي  وما يحجزه ليكون من حصته، على أن يكون الروائي متفهماً لبيعة هذا المتلقي وبيئته وما مقدار ما يستبطنه من معلومات متعلقة بثيمة الرواية  حتى يتمكن من بناء نص ثان  بدون فراغات مواز للنص الأول ...

فلذلك نقول لمن  يتهم كاتب الرواية القصيرة جداً بأنه لجأ إلى كتابة هذا النوع الجديد من الرواية لأنه لا يمتلك من الخيال والخزين اللغوي لكتابة  الرواية الطويلة والرواية القصيرة، أي أنَّه لا يمتلك هشاشة الهذر والاستغراق في التوصيف والتعريف  والإكثار من المرادفات والإفراط في التشبيه والتزويق اللفظي  ليقدم عملاً روائياً (مكروشاً) متخماً  بما هو معروف ومعاد ومكرر  يولد الملل والكلل من قبل المتلقي  وهو المحاصر بالزمن  المحدود ضمن  كده الحياتي اليومي.

فكما أكد النقاد وأجمعوا على صعوبة كتابة القصة القصيرة جداً، هنا الجهد مضاعف  والصعوبة كبيرة جداً في كتابة الرواية القصيرة جداً. وكتابتها ليست نزهة، وإنما هي عصارة فكر وجهد ومكابدة للقلم وللعقل. ومن لا يستطيع السباحة عليه أن لا يقترب من الساحل.

***

بقلم: حميد الحريزي

في المثقف اليوم