قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءات فلسفيّة في قصائد سرديّة تعبيريّة

بين الغربة والذكريات.. رحلة في الزمن بدون تصريح مرور

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: تصريح مرور- للشاعرة: اعتماد الفراتي – العراق.

***

قصيدة /تصريح مرور/ للشاعرة اعتماد الفراتي تعكس عمقاً فلسفياً معقداً يرتكز على مواضيع الذاكرة، الزمن، والغربة، ويمزج بين الأبعاد الحسية والوجدانية للوجود الإنساني. القصيدة، التي تنبض بالحزن والتساؤل الوجودي، تستدعي فينا تأملات حول معاني الحياة والموت، الحضور والغيب، وتفتح أمامنا بابًا لقراءتها كحالة نفسية تسير في حركة دائرية لا نهائية.

1. الذاكرة والزمن:

في البداية، تذكر الشاعرة /أذكر مرة/، وهي كلمة تفتح باب الحنين والتذكر، مما يعكس حضور الماضي في الحاضر. هذا التذكر يشكل نقطة انطلاق للقصيدة حيث يتداخل الماضي مع الحاضر ويصبح الزمن غير خطي، بل حلقة متشابكة من الذكريات واللحظات التي تتداخل وتغمر الحاضر. صورة /جدل ضفائر الليل/ تلمح إلى محاولة الشاعرة نسج وترويض الزمن، لكن /غفوتي سبقتني/، أي أن الذاكرة أو الحلم أخذ منها السبق، فالغفوة تسبق الوعي وتفتح أمامها مسارًا آخر مليئًا بالتجليات.

2. الوجود الداخلي والصراع النفسي:

الشاعرة تتحدث عن /ضجيج داخلي/ و/دانان الصمت/، وهو تعبير يعكس التناقضات الداخلية التي يواجهها الإنسان في صراعه مع ذاته. الضجيج الذي يشير إلى الاضطراب الداخلي يتلاقى مع الصمت الذي يرمز إلى العزلة أو العجز عن التعبير عن هذا الاضطراب. هذه الثنائية بين الضجيج والصمت هي انعكاس للصراع النفسي الذي لا يجد طريقه إلى الخارج، مما يزيد من شعور الشاعرة بالعزلة وعدم القدرة على التواصل مع الآخر أو مع نفسها بشكل كامل.

3. الغربة والبحث عن الذات:

الغربة هي السمة المركزية في القصيدة، حيث تشير إلى /غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ تتنقل بعيدًا، متجهة إلى /نهاية الحلم/. هذه الصورة الشعرية تعكس حالة من الانفصال، ليس فقط عن المكان أو الوطن، بل أيضًا عن الذات والآخرين. الغربة تصبح بمثابة الرحلة المستمرة التي لا تنتهي، وكأن الشاعرة تبحث عن شيء غير محدد، شيء يعجز الحلم عن الوصول إليه أو تفسيره.

كذلك، نجد في الصورة الشعرية لـ/دمعة خابية/ و/تمطر ضاحكة باكية/ إشارة إلى التمزق الداخلي بين المشاعر المتناقضة: الضحك والبكاء، الفرح والحزن، الوجود والغياب. هذه الثنائية تعكس فوضى الوجود الإنساني، حيث لا يمكن للإنسان أن يحدد تمامًا مشاعره أو كيف يتعامل معها في ظل هذا التشتت الداخلي.

4. الرمزية والتشابك بين الحلم والواقع:

القصيدة تشير بشكل دائم إلى الحلم كوسيلة لفهم الذات والوجود: /أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ و/حتى نهاية الحلم/. الحلم يصبح مساحة للبحث عن إجابات أو للتعبير عن رغبات داخلية لا يمكن للمجتمع أو الواقع المادي أن يمنحها تصاريح مرور. هذه الرمزية الحلمية تتداخل مع الواقع في صورة الفراق والتفكك، حيث /لمحتها أمامي ترحل.. تمضي/، وهي لحظة من الفقدان الذي لا يعود أبدًا. الرحيل هنا ليس مجرد فراق مادي، بل هو فراق معنوي بين الذات وما يمكن أن يكون /مسموحًا/ أو /ممكنًا/ في هذا العالم.

5. اللامعقول والبحث عن /تصريح مرور/:

عنوان القصيدة /تصريح مرور/ هو نفسه لغز فلسفي. ففي عالم يهيمن عليه النظام والمواصفات المقررة، تصبح فكرة /تصريح المرور/ بمثابة مبحث عن إذن أو حق للوصول إلى مرحلة ما في الحياة. الشاعرة، في سعيها للفهم أو للوجود، لا تجد /تصريح مرور/، مما يعكس فكرة اللامعقول أو العبثية التي تميز الوجود الإنساني. إنها محاولة للعبور إلى مكان غير محدد، والتجربة تتم في ظل عدم وجود قواعد واضحة أو شروط.

6. الخاتمة:

قصيدة /تصريح مرور/ هي تأمل فلسفي في الأبعاد النفسية والوجودية للإنسان. من خلال لغة رمزية غنية وصور شعرية معقدة، تعرض الشاعرة معركة الفرد الداخلية مع الزمن، الغربة، والذاكرة، وتنفتح على تساؤلات فلسفية حول الحياة والموت، الحلم والواقع. الشاعرة تتساءل عما إذا كان هناك من /تصريح مرور/ أو إذن للوصول إلى السلام الداخلي أو الفهم الحقيقي، إلا أن النهاية تظل مفتوحة، حيث ترحل الذات وتبقى الأسئلة معلقة في الفراغ.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

............................

تصريح مرور

أذكر مرة. وأنا أجدل ضفائر الليل سبقتني غفوتي لنجمة يقظة منحت ذاكرتي، تصريح مرور بحجم غيمة تبحر برفقة ظلي عبر العشب الأبيض تسكبُ ضجيج داخلي بدنان الصمت تنأى عني تفتش عن طيف شارد اثقلت اهدابه دمعة خابية على وجهي تمطر ضاحكة باكية عبر أخيلتي ضللتُني كنداء بعيد تركتُني وحيدة مبتلة أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية تبعدُ. تبعدُ حتى نهاية الحُلم لمحتها أمامي ترحل.. تمضي. دون تصريح مرور.

***

اعتماد الفراتي

 

في المثقف اليوم