قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: قوّة الأشياء للروائي الفلسطيني عارف الأغا.. دراسة نقدية

يجتهد النقد الغربي في تقسيم الروايات بحسب أنواع تشكيلاتها، فتارةً يصفها بأنها رواية الشخصية، وتارةً أخرى بأنها رواية الأفعال، وقد تكون هيّنةً مرة، ومركّبةً مرةً أخرى. وقد ينزاح الفعل الروائيّ ليَنهَضَ بسرد سيرة ذاتية، وأحيانًا يتوهّج المرجع الواقعيّ فيتحوّل إلى مرجع نصيّ، إذ يغادر واقعيّته الحرفيّة ليَنهَضَ من خلال ذاتية الكاتب ولغته وإحساسه ومشاعره ورؤاه وإسقاطاته، حذفًا واستبدالًا وإضافةً.
رواية "قوّة الأشياء" للروائي والباحث الفلسطيني عارف الأغا، الصادرة في دمشق عام 1992، هي واحدة من الروايات المعقّدة التي خاطبت العقل والنفس معًا، فبدت تارةً روايةً شخصيةً، وتارةً رواية أفعال، كما أنها رواية المرجع الواقعي المتوهّج، وهي في الآن ذاته رواية ذاتية.
قال أبو حيان التوحيدي: "ما أصعب الكلام على الكلام"، مُؤسِّسًا بذلك لنظريةٍ نقديةٍ حاز بها فضلَ السبق، أطلق عليها الحداثيّون في النقد الغربي اسم "نقد النقد"؛ حيث يتحوّل العملُ النقديّ من سلطةٍ لإصدار الأحكام المعيارية المسبقة، التي تُصادر صوت الإبداع فتقتله في مهده، إلى نقدٍ إبداعيٍّ يحمل من الأدبية ما يجعله يُوازي أو يُضاهي لغةَ الإبداع. لكن في رواية قوّة الأشياء نجد الأدب والنقد من داخل النص الأدبي في توازٍ وانسجام.
لقد جسّدت تجربة الروائي الفلسطيني عارف الأغا المقدرة القصوى للخاصّ الفلسطيني والعربي، وهو يبحث له عن مكانٍ لائق في العالم الكوني، ليُكثّف بذلك أعلى لحظات التوتر في علاقة الخاص بالعام، ويُعبّر عن أشدّ حالات معاناة المثقف الإشكالي. فقد جسّد الروائي، في هذه الرواية، قدرةً عاليةً على التقاط مفردات الحياة اليومية وانعكاسها على الحالة النفسية والفكرية والفلسفية لبطل الرواية.
ولو استعرْنا مصطلح لوكاتش عن البطل الإشكالي روائيًّا، ضمن القراءة التفسيرية التي قدّمها غولدمان، بوصفه البطل الذي يبحث عن القيم في وسطٍ متحلّل، والذي يطمح إلى بناء كليّات نوعية جديدة على أنقاض بنى تقليدية متداعية، لوجدنا أن عارف الأغا هو البطل الروائي لنصّ الحياة العربية، في رواياته مثل:
أزهار الصبار (دمشق 1990، مطبوعات الاتحاد)،
مخيّم في الريح (1986، مطبوعات النسيم)،
ورواية قوّة الأشياء.
تدور قوّة الأشياء حول شخصية عمر أيوب، الذي يجسّد الفلسطيني التائه. إذ عاش طفولته في مخيمٍ بائس بلا أبٍ ولا أم، ثم انتقل إلى عائلةٍ تبنّته، ليعيش غريبًا في المدينة، وفي مدرسةٍ بعيدة كلّ البعد عن واقعه في المخيم. وإزاء هذه الغربة الساحقة، أشعل النار في المدرسة التبشيرية انتقامًا لغربته، فاحتواه الشارع شريدًا جائعًا، لكنّه كان حرًّا هذه المرّة.
وتشاء المصادفة أن يتبنّاه رجلٌ آخر، ولكنّ عمر ينتقم مجددًا لغربته بحبّ زوجة معلّمه الأولى المهجورة. عاش صراعًا حادًّا بين خيانته وحبّه لهذا الرجل الذي أنقذه، لكن عمق التيه الذي يعيشه هذا الفتى دفعه إلى الفرار إلى الأكواخ المتناثرة على أطراف المدينة، حيث بدأ حياةً جديدة، وتعرّف إلى عائلةٍ بسيطةٍ ذات قيم أصيلة، ووقع في حبّ ابنتهم الجميلة عذاب. لكن لم يدم هذا العشق طويلًا؛ إذ تدخلت قوة الأشياء وانتهت حبيبته قتيلةً مغتَصَبةً على يد بعض الأشرار، وفقد هو ذاكرته بعد ضربة على رأسه منهم.
خلال وجوده في الأكواخ، اجتهد عمر في القراءة والتعلّم حتى أصبح كاتبًا مرموقًا، واستخدم الروائي حالة فقدان الذاكرة بشكلٍ فنتازيّ ليُظهِر أنّ الوباء الذي يجتاح المدينة هو السبب في هذا التيه. ويكتشف عمر في نهاية الرواية أنه جزءٌ من هذا الوباء، ويُعلن – من خلال ممارساته – أن لا خيار في ذاك العالم الموبوء سوى أن يكون قاتلًا أو مقتولًا. تلك هي قوّة الأشياء التي لعنها عمر، ولعنها الروائي على لسانه، إذ يقول في ختام الرواية: "اللعنة عليكم جميعًا".
خاتمة تحليلية:
رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد عملٍ سرديّ يحكي حكاية فردية مأساوية، بل هي نصٌّ يتجاوز الخاص إلى العام، ويتحوّل من سيرة شخصية إلى مرآة كاشفة لتمزقات الذات الفلسطينية والعربية في لحظة انهيار حضاري شامل. لقد قدّم الروائي عارف الأغا عملاً أدبيًا يجمع بين الصدق الإنساني والوعي الفني والالتزام السياسي، دون أن يسقط في فخ الشعارات أو الخطابية أو المباشرة، بل اختار أن يخاطب القارئ من داخل التجربة لا من فوقها.
فنيًّا، تنتمي الرواية إلى الأدب النفسي والواقعي في آنٍ معًا، مستندة إلى بنية سردية متقنة، وزمن دائري، وشخصيات متحوّلة تتطوّر وفق صراع داخلي كثيف، وهو ما يمنح النصّ عمقًا دراميًّا لا يخلو من البُعد الرمزي والفلسفي.
أما سياسيًّا، فهي رواية تقاوم النسيان، وتفضح آليات الهزيمة في الواقع العربي، من خلال الغوص في بنية القهر الاجتماعي والاغتراب السياسي والخذلان الوطني، لتقدّم شهادةً صادقةً عن فلسطين لا بوصفها قضية، بل بوصفها ألمًا حيًّا يسكن الجسد واللغة والذاكرة.
وهكذا تُمثّل قوّة الأشياء رواية تحمل في طياتها مشروعًا للكتابة المقاومة، وتُؤسّس لوعي جديد، لا ينفصل عن الواقع، ولا يُسلّم له، بل يُحاكمه ويُعرّيه، ويُحاول استشراف مخرجٍ ممكن من تيه الذات والواقع، عبر قوّة الفن والكلمة.
رواية قوّة الأشياء هي رواية تيه الوعي في الواقع العربي والفلسطيني الموبوء؛ حيث تضيع الحدود بين القيم والأضداد، ويتماهى القاتل بالضحية، كما تتشابه مفردات الشرف والعار، ويضيع الوعي بين سطوة الرغبة والتشبّث بالمبادئ، فيقع البطلُ فريسةً لأوهامٍ ناتجةٍ عن القهر والإذلال والخذلان من قبل الأقرباء قبل الغرباء.
وما يميّز هذه الرواية أنّها تسير وفق منطق الحفر النفسي العميق في دواخل الإنسان الفلسطيني، الذي وجد نفسه مسلوب الذاكرة والهوية والكرامة والأرض والانتماء. وقد أسعف الكاتبَ في ذلك بنيةٌ لغويةٌ مُحكَمة، رشيقة، مستمدّة من الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي، متقاطعة مع ما يمكن تسميته بالأنا الفلسطينية الجمعية، التي باتت تمثل الذات الكبرى، وسط تراجيديا عربية قاسية.
يستخدم الروائي تكنيكات روائية فنية متعددة، كـ: تقنية الراوي المشارك، وتعدد الأصوات، وتقنية الحلم، والرسائل، والاسترجاع الزمني (Flashback)، وتيار الوعي.
وقد وظّف هذه التقنيات بشكل بارع، دون أن يسقط في المباشرة أو التقريرية أو الخطابية. كما يُلاحظ في الرواية اختزال الزمن وتكثيفه في مراحل حاسمة ومفتاحية، بما يجعل كل تفصيل في الرواية يخدم الحبكة ولا يذهب سدى.
المرأة في رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد تفصيل عابر، بل هي الذات والوطن والحبيبة والأم. إنها الحضور المهيمن، سواء كأملٍ أو كوجع، كمخلّص أو كقاتل. فـ عذاب، التي أحبّها عمر حبًّا طاهرًا، كانت تمثّل الوطن الجميل الحنون، لكنها اغتُصبت وقُتلت، تمامًا كما اغتُصبت فلسطين. أما الأم فهي الغائبة الكبرى، الغياب الذي شكّل جذر التيه في الرواية كلّها.
وبالرغم من الألم الذي يسكن النص، لا تخلو الرواية من بؤر ضوء وأمل، حيث نجد شخصية العم صالح، الذي مثّل رمز الحكمة والتعقّل، والمرأة المسنّة التي احتضنت عمر في لحظة انهيار، ليبدو أن الشعب الفلسطيني، رغم مآسيه، لا يزال يمتلك خزّانًا من الطيبة والصبر والمقاومة.
لقد استطاع الروائي الفلسطيني عارف الأغا في هذه الرواية أن:
يخلق نصّاً مفتوحًا على التأويلات. ويقدّم بطلًا إشكاليًّا يعاني من تيه وجودي وقيمي، كما نجح في تعرية البنية الاجتماعية والسياسية العربية، دون خطابة.
إنّ البنية الأسلوبية للرواية تنوس بين السرد العادي والتدفق الشعري، في توازنٍ نادر، تُسنده لغة تصويرية قوية، موحية، ذات طابع شعري خفي، يتداخل مع لغة الواقع اليومية، مما يُنتج نغمةً سرديةً خاصة، ممهورة بختم الروائي عارف الأغا.
***
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين