قراءات نقدية

ماهر عبد المحسن: الصباح رباح.. دروس شعرية في فعل الانتقام!

في ديوانه الجديد "الصباح رباح"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في ٢٠٢٤، يواصل الشاعر إبراهيم محمد ابراهيم رحلته، التي بدأها في أعمال سابقة، في البحث عن ذاته، الضائعة في عالم عبثي يخلو من المعنى. وفي هذا السياق، يأتي هذا الديوان ليعكس علاقات الشاعر المأزومة، مع النفس، ومع الآخرين، ومع العالم.

يتأكد ذلك منذ الإهداء الذي يتصدر صفحات الديوان:

"عمرو ناجي

أنت النقاء الذي تمنيته....."

وعمرو ناجي هو صديقه الصدوق، الشاعر الموهوب الذي هجر الشعر لأسباب غير معروفة حتى الآن! ربما لأنه لم يعش المعاناة نفسها التي عاشها إبراهيم، وربما لأنه خشي أن يتورط مع شيطان الشعر في أعمال منافية لقناعاته، خاصة أن العالم المارق الذي نحيا فيه لم يعد في حاجة إلى فاوست جديد.

إن شاعرنا يبحث عن البراءة في الناس والعالم، أمنيته التي لم تتحقق، بعد أن جرفه التيار، ولم يعد يملك خيار الرجوع. فالعلاقة هنا مع الذات بالرغم من كونها تتحدث عن الآخر، وترى فيه حلمها الضائع!

وفي عبارة تالية، معبّرة، يكتب ابراهيم:

"اسمح لي أيها السوط أن أتألم..."

يعبّر الشاعر هنا عن علاقة مأزومة مع العالم. فعندما يستدعي السوط، أداة تعذيبه، ويطلب منه أن يسمح له بأن يتألم، في مفارقة صارخة، إنما يستدعي العالم كله بأشيائه وسلطاته وجلّادينه، في محاولة يائسة لاكتساب ميزة التعبير عن الألم!

ولا يخفى أن قصيدة الشاعر هي صرخته، وأداته الوحيدة للتعبير عن آلامه. لذلك لا يمكننا أن نفهم هذه العبارة إلا باعتبارها نوعا من الاستئذان، أو الاعتذار الخفي المسبق لما سوف يقدمه من قصائد في الديوان ربما تجرح الجلاد، أو  تثير حفيظة صاحب السلطة الذي يدير العالم بنحو كارثي، دون أن يعبأ بالضحايا!

 وفي عبارة استهلالية أخرى يقول:

"العتبة محروم كلّت كفاه الطرق

فخر صريعا تحت الباب..."

وبالرغم من أن العتبة هي شيء من أشياء العالم، غير أن أنسنة الشاعر لهذا الشيء ومنحه خاصية الشعور بالحرمان، والإحساس بالألم، يجعلنا نفهم العبارة بنحو رمزي يشير إلى الشاعر الذي تعب كثيرا في رحلة الحياة، ثم انهار أخيرا بعد أن تجمدت أحلامه وسُدت أمامه أبواب الأمل!

فهل أنهار الشاعر فعلا، وفقد كل قدرة على الفعل؟

في روايته السابقة "موت مواطن شريف" كان الشاعر فاعلا بقوة، لكن في اتجاه التشفي والانتقام، وكانت كلمته هي أداته للثأر ممن تسببوا في قهره ومعاناته، حتى أننا عبّرنا في دراسة سابقة عن هذا الموقف الوجودي الفريد بأنه نوع من "الانتقام الجمالي". فهل أستمر شاعرنا في مسلسل الانتقام في هذا الديوان أم نجح في التصالح مع العالم الذي غدر به ذات مرة؟ للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي علينا التطرق لعلاقته ليس بالعالم فحسب، ولكن بالذات والآخرين كذلك.

علاقة الذات بنفسها:

علاقة الذات الشاعرة بنفسها لا تأتي عند شاعرنا إلا في شكل من أشكال التقمص الوجداني الذي يعتمد في حضوره على التماهي مع أشياء العالم، بالرغم من التنافر الظاهري بين الأنا ومفردات العالم. يتضح ذلك من قصيدته القصيرة "وحيد"، عندما يقول:

"وحيد...

كرغيف يابس،

كعود ثقاب مبتل،

كعانس تحل ضفائرها قبيل مطلع الفجر،

كقطة دهسها باص ببطء..

كإله لا ينفض الفأس عن رقبته بين آلهة متناثرة،

كإبراهيم!"(ص١٠).

فالشاعر يضع ذاته على نفس مستوى الموجودات التي فقدت معناها وجدواها في الحياة، لأنها فقدت هويتها، وباتت محض تجليات شائهة للوجود. يجد إبراهيم نفسه هناك منعكسا دائما فوق مرايا العدم، بدءا من الرغيف اليابس وعود الثقاب المبتل حتى الآلهة الحجرية التي حطمها النبي ابراهيم وعجزت عن الدفاع عن نفسها!

لا يدّعي إبراهيم النبوة أو الألوهية ولا يبشر بعالم يوتوبي جديد، لكنه يحيا كناسك في محراب الشعر، ولا يجد لذته إلا في وحدته، التي جعلها قاسما مشتركا لكل كائن تمرد على هويته وصار شيئا آخر.

في قصيدة "حيلة" يكشف إبراهيم عن كينونته الحقيقية بوصفه ساحرا عصاته الكلمة، يهش بها على أحلامه ونزواته دون أن يكون له فيها مآرب أخرى! فيقول:

"حين يجرفني الحنين إلى الذين ماتوا

أعيد لعبة قديمة

أتنكر مثلا على هيئة سلة مهملات

على درج متسخ

لم أمتلئ بأكياس سوداء كما توقعت

تمر سنوات وأظل سلة فارغة مائلة على حائط صدئ

تسكنني الآن قطة نحيلة

لم يشعر الجيران برائحتها التي فاحت

قبل أن تزحف لتصير عتبة مكسورة"(ص١٤).

فما زالت الذات الشاعرة تلعب أدوارا أخرى عدا أن تكون نفسها، أو قل إنها لا تجد نفسها إلا في التماهي مع كينونات أخرى تحيا وجودا عبثيا. وتظل الحيلة الفنية هي أداة الشاعر السحرية للدخول في عوالم مختلفة، والتنكر خلف أقنعة لا تشبهه على الحقيقة، لكن تمنحه القدرة على تأمل العالم، ورصد تفاصيل مأساة الحياة عن قرب.

غير أن الملاحظ أن الشاعر يضع نفسه دائما في حالة من التوحد مع الشيئي والإلهي دون الإنساني، فيقول في موضع من قصيدة "Application  ":

"أنا كائن قديم،

كأنه بيت وُضع في خطة إزالة"(ص١٨).

ويقول في موضع آخر من القصيدة نفسها:

"وأتضاءل في النهار

كإله سابق يذوب في حقل من غياب"(ص١٨)

ويذكرنا هذا التوحد بين الشيئي والإلهي بوضعية الإنسان عند نيتشة بوصفه "وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى" ، أي الإنسان العادي الذي يتفوق على الحيوان، لكنه لا يصل إلى مرتبة السوبرمان. وإبراهيم لا يحلم بهذا التفوق الميتافيزيقي الخارق للطبيعة، حتى عندما يتوحد مع الإلهي، لكنه فقط يلقي ضوءا كاشفا على كل ما هو عبثي في الحياة، لأن الإنسان عند شاعرنا ضائع في زحمة من اللاجدوى واللامعنى. لذلك لا يذكر نفسه كإنسان إلا مقترنا بالهزال والضعف والانسحاق، وفي هذا المعنى يقول:

"المؤهل

إنسان سابق بتقدير هزيل جدا

العنوان

جسد مهجور آيل للسقوط..."(ص١٧).

علاقة الأنا بالآخر:

لا يميل إبراهيم، بطبعه، إلى التفلسف ولا يحرص على أن يضمّن  قصائده قضايا ميتافيزيقية أو معان كبرى، لذلك يغيب التساؤل الفلسفي عن تجربته الشعرية، لكن يحضر تساؤل إنساني، ذو مسحة عاطفية، من نوع خاص. تساؤل يحاول الشاعر أن يخترق به وعي الآخر المختبئ خلف تفاصيل يومية كثيفة. يتبدى ذلك في قصيدة "زينب" التي جعل منها ابراهيم موضوعا لتأمله وتأويله، بحيث يطرح السؤال ويقدم الإجابة في آن!

فعلاقة الشاعر بزينب محددة مسبقا، في خياله على الأقل، والتساؤل لا يبدو سوى خدعة فنية، أو مناسبة لتفسير وقائع تبدو في غير حاجة إلى تفسير، فيقول:

"ما الذي في البال يا زينب؟

سوى عتمة تتسكع على مرمى حجر

هواجس ترتدي جلبابا مسترخيا

وثقب يلهث في قميص من صداع

كأنه نبي

احتمى بشجرة

أو منشار لا ينثني لتوسلات الرداء"(ص٢٠).

ويتساءل في موضع آخر من القصيدة:

"ما الذي تقصدينه حين تركت ظلك مبللا بالخوف على مقعد الحديقة

الحديقة التي انكمشت كبصقة عامل القمامة

وهو يفض مظاهرة الياسمين

ولا يعترف بعقد عرفي بين الشجر وحطاب أكل فأسه

فصار جسرا لا يصل لشيء"(ص٢١).

التساؤل عند الشاعر في علاقته بالآخر الأنثوي، لا يصل إلى يقين، والإجابة لا تشفي الغليل، لذلك يستمر في التساؤل إلى ما لا نهاية بالرغم من سطحية التجربة التي لا تجاوز روتين الحياة اليومي، والتي من شأنها أن تطفئ جذوة الدهشة الملغزة، حتى أن التساؤل نفسه يتحول إلى مسلك روتيني يكرر نفسه دون رغبة في الإجابة! فيقول في خاتمة القصيدة:

"يا زينب

ما الذي في البال وأنت تلفين المدى كسجادة

وتعلقين السماء على حائط مائل

ثم تغسلين المواعين وأنت تغنين؟

ما الذي كان في البال يا زينب..."(ص٢٣).

التساؤل حول الآخر، لدى الشاعر، لا يعني حضور الآخر بالرغم من استخدام ضمير المخاطب، لأن إبراهيم لا يتحدث إلا إلى نفسه في غيبة الآخر وحضور العالم، الذي هو مجموعة الآثار التي تركها الغائب كشفرة سرية وجب على شاعرنا أن يحلها. والحق أنه يجيد فك هذا اللون من الشفرات، لأنها تمس ألغازا تتعلق بعلاقته بالعالم، وتجربته الخاصة في الحياة.

لذلك يمكنك أن تعثر في قصائد إبراهيم على مزيج مدهش من عناصر الكون، ومن طبقات الوجود. ففيها يختلط الأرضي بالسماوي والإنساني بالملائكي بالإلهي، والاجتماعي بالفردي بالسياسي. كل ذلك في سياق ذات مشتعلة بالرغبة والأسى، لا تملك إزاء أحلامها المجهضة واحباطاتها المتتالية سوى سلاح السخرية المريرة الذي تشهره في وجه الظلم الطاغي والمصير المحتوم.

تمتلئ قصيدة "الحزينة" بالكثير من الصور التي تعبّر عن هذه المعاني، خاصة في سطورها الأولى التي يقول فيها الشاعر:

"ما الذي تريده الحزينة هذا المساء؟

سحابة Brand 

أو مقلدة في علبة من قطيفة؟

إلها خجولا يقدم الشاي على صينية نظفها للتو؟

شاعرا على هيئة إسورة بمول تجاري؟

أخبريني أولا عن صداع يشبه رأسك

حين اتخذ شكل طيور تجوب المدينة في وردية ليل

تلون ريشها بلون الثورات والرتب العسكرية

وعن منديلك الذي يشبه المساء"(ص٥٠).

والغياب هو كلمة السر في علاقة الشاعر بالآخر، لأنه فيما يبدو، لا يملك شجاعة المواجهة، أو ربما صار اللقاء ترفا بات زاهدا فيه. يتأكد ذلك من فكرة الغياب المركب، أو المزدوج الذي عبّر عنه إبراهيم بصورة شعرية مدهشة، تذكرنا بغيابات محمود درويش، عندما كتب في ختام قصيدة "سكرات جثة قديمة":

"أحببت أن أغيب عشرين عاما عن "مقهى البستان"

كي أفاجئك هذه الليلة بغيابي أيضا

غيابي الذي ينتصب أمامك على كرسي وحيد

لماذا لم تأت

كي تلاحظ هذا الغياب"(ص٥٦).

وكما يغيب الآخر في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، مسجلا حضورا مجازيا على مستوى اللغة، يغيب أيضا عن الوجود كلية في وقائع غامضة من الموت الملغز. الموت الذي يتشبث بنمط من الحياة الخادعة التي تراوغ وعيا غافلا، يأبى إلا أن يعيش الأكذوبة، فيمارس طقسا أبديا من التهكم الفاضح على أحوال العالم. يتضح ذلك في قصيدة "الإباحي" القصيرة، فنقرأ:

"يصعد وحده

تسبقه كائناته التي لا يراها

ولا تراه

كائناته التي تقلده حين يسعل

أو يحفر على "الدرابزين" كلمة إباحية

أمام شقة جارته

جارته التي لا تفتح أبدا

كلما دق الباب بعد الواحدة صباحا

وحين اكتشف فجأة أنها ماتت منذ سبعة عشر عاما

رسم بجوار كلماته البذيئة

نهدين

وقمرا مشتعلا..."(ص٥٨).

ونعثر على نفس خبرة الفقد، المنطوية على شكل آخر من أشكال الاحتجاج الفاضح في قصيدة "صورة" التي تجسد حالة العالم بعد رحيل الأب. الأب الذي يمثل معضلة وجودية في حياة الشاعر، فيذكره في أكثر من قصيده، ويبقى منه على مسافة تخلو من التعاطف، غير أنه هنا، ربما للمرة الأولى، يتوحد معه ويجعل منه أداة للثأر المعنوي من العالم الذي لم يحفل به يوما أو بأبيه، فيقول:

"أنا ابنه الوحيد

ألملم ظله بعد أن أنفض عنه أحذية العابرين

أدسه في دولابه مع أوراق ميلادي

وبرواز بشريطة سوداء جانبية

وصليب مستعمل

أفك الآن سرواله الذي يرتديني

كي أبول خلف شجرة

يخدش حياء النهار الذي أعطاني ظهره هكذا..."(ص ص٦٣-٦٤).

 وفي جدلية مدهشة تذكرنا برائعة نيكول كيدمان السينمائية "الآخرون"The Others   يدخلنا الشاعر في لعبة تبادل الأدوار بين الأموات والأحياء، بحيث يصير الحضور غيابا والغياب حضورا. فالأحباب الذين ظننا  أنهم رحلوا عن دنيانا وحاولنا الاتصال بهم دون جدوى هم الأحياء على الحقيقة، ونحن الموتى الذين لا نرد على رسائلهم!

ولا يخفى الإسقاط العدمي الذي يجلبه الشاعر للوعي، بحيث تذوب الحدود بين الحياة والموت، ما من شأنه أن يربك الحواس، ويفقد الشاعر فرحته باكتشاف حياة الآخرين أمام حزنه المؤرق حين اكتشاف موت الأنا! نلمح ذلك في قصيدة "وفاء" عندما نقرأ السطور التالية:

"الأحياء الذين رحلوا..

لن أمحو ارقامهم من هاتفي

عسى أن ينسوا أنهم ماتوا حين أرن عليهم

يرسلون رسالة سريعة:

(نحن مشغولون مع أصدقاء

لهم نفس صورنا)

فنتأكد أننا الذين ماتوا

وأنهم أبقوا على أرقامنا

عسى أن نقرأ رسائلهم اللحوحة

التي لا نرد عليه أبدا..."(ص٦٠).

وفي كل الأحوال، نجد أننا إزاء أنانية من نوع خاص  فالشاعر لا يحفل بالآخرين قدر احتفاله بذاته المنكفأة على نفسها، ولا يستدعيهم إلا باعتبارهم وسائل مساعدة لإعادة اكتشاف معاناة الأنا في ظل علاقات شائهة، وتجارب لم تضف للذات كثيرا قدر ما أخذت منها.

علاقة الأنا بالعالم:

العالم عند الشاعر ليس هو الكون الفسيح، لكن عالم الحياة اليومية الذي يعج بالتفاصيل الصغيرة. إنه يقترب كثيرا من أشياء العالم، ومن خلال رؤية مجهرية ينجح في رصد الكثير من التحولات المتشابكة والعلاقات الدقيقة التي لا تلتقطها النظرة العابرة. والعلاقة بين الأنا والعالم تأتي على مستويين، أحدهما معرفي والآخر وجودي، الأول يقف فيه الشاعر على مسافة من الأشياء والآخر يدخل فيه في علاقة مع الأشياء تصل إلى حد التوحد!

يتبدى المستوى المعرفي في الكثير من القصائد، منها قصيدة "فضول" التي يراقب فيها الشاعر حياة الجيران عبر نافذته المقابلة، فنقرأ:

"أقف على أطراف أصابعي

كي أعرف نوع الفاكهة المهملة

على مائدة من خشب تآكل

تحت مفرش أبيض باهت"(ص١١).

وهي معرفة تأتي بدافع من فضول الشاعر بالرغم من أنه يصف الجيران الذين يتلصص عليهم بالفضوليين. غير أنه يصفهم بذلك كنوع من التهكم، لأنهم بالرغم من كونهم كذلك منعهم روتينهم اليومي العتيق من رؤيته وهو يسقط من نافذته المقابلة لهم. إننا أمام معادل شعري لبصرية هيتشكوك في فيلم "النافذة الخلفية" التي تستدعي بدورها فكرة التلصص عند سارتر، وهي فكرة يمكن أن تكون مفتاحا تأويليا لفهم علاقة الشاعر بالعالم، فيقول:

"جيراننا الفضوليون

الذين لم يكلفوا أنفسهم ليعرفوا مصدر الضوضاء

حين سقط جسدي من نافذة مقابلة

لا يلملمون حكايات معادة من براويز معلقة على حائط

متوجة بشرائط مائلة سوداء(ص١١).

تتبدى فكرة التلصص بنحو واضح في قصيدة "مشهد جانبي لسفارة أجنبية" عندما يرقب الشاعر تفاصيل صغيرة لأشياء زائلة ومغامرات ليلية لا يلحظها أحد، فنقرأ:

"نشيد منسي

تردده الأشجار آخر الليل

حين يتكئ إليها شرطي

أنهكه الوقوف أمام السفارة

دخان يعانق ضوءا خافتا

يتشبث بزجاج نافذة خجلى

حين هم الشرطي بقضاء حاجته

أمام السور"(ص١٢).

وفي قصيدة "أشياء صغيرة" تسري روح آلان روب جرييه الوصفية الخالصة، التي تكتفي بوصف الأشياء كما تتبدى في الواقع دون أن تمنحها فرصة البوح بأي مكنون يمكن أن تحمله في باطنها. يفعل إبراهيم الأمر نفسه حين يرقب تفاصيل حياته المتناهية في الصغر بنحو ينزع عنها أي معنى أو دلالة يمكن أن تثير دهشة القارئ أو تستفز فيه شيئا من التأمل أو التفكير، لكنها، بالرغم من ذلك تنبئ عن أن شيئا ما خفيا في سبيله إلى الظهور، ميلاد جديد، أو إبداع شحيح يحرك شيئا من السكون، فيكتب:

"أنين صرصور الليل

إيقاعات هبوط وصعود على درج قابع تحت إحداثيات الفجر

بقعة شاي على ورقة بيضاء

وقلم ملفوف بشريط لاصق أبيض

تنعس احتمالات على حافة المائدة

في انتظار أشياء صغيرة"(ص١٥).

تتحول لعبة الاحتمالات إلى سردية كبرى في قصيدة "ورقة مكرمشة"، عندما ينطلق الشاعر من تفصيلة صغيرة، ورقة مكرمشة في جيب جاكت، ليقص علينا أساطير يومية ضبابية من وحي خيال يعيش اللحظات الهاربة دون يقين ثابت عدا السخرية من كل شيء.

وبهذا المعنى لا يتورط إبراهيم في العالم ولا يتعرف عليه من بعد كعادته، لكنه فقط يسعد باللعب معه على وتر الاحتمالات، فيقول عن الورقة المكرمشة:

"ربما كان جوابا غراميا لابنة صديقة أمي

أو ربما لصديقة أمي نفسها

ربما استقالة لم تجرؤ أن ترسلها لمدير

تشبهه قللٌ من الجبس في بلكونات المدارس

ربما تقمصت الورقة منديلا ورقيا

مسحت به أنفي في لحظة "إتيكيت" نادرة

ومبتكرة

كان سيشمئز منها موكيت ولية الأمر البدينة

وهي تضع صينية الشاي"(ص ص٣٤).

على المستوى الوجودي يدخل الشاعر في علاقة مباشرة مع العالم، وتكون هذه العلاقة على أشكال عدة. ففي قصيدة "كوب شاي" يتوحد الشاعر مع كوب شاي على مستوى الشعور. فبالرغم من أن كوب الشاي جماد لا يحس، إلا أنه نجح في أن يبث فيه الحياة والأسى الذي يشعر به، فكلاهما يعاني على طريقته وكلاهما يحيا تجربة وجودية أعمق مما يبدو على السطح، وهنا تتبدى براعة شاعرنا في المزج بين الذات وأشياء العالم عندما يكتب بإيجاز يختصر عالم الشعور كله:

"كان كوب الشاي صامتا

وشاردا

ربما بعد محاولة يائسة أن يستفزني للبوح

كان عليه أن يدرك إنني لست أقل منه حسرة

رغم ما به من سكر

إلا أنه مثلي

يشعر بمرارة الأشياء..."(ص٥٧).

بنفس المنطق يقرأ الشاعر تفاصيل حجرة العائلة، التي تحيا في وحدة، وتعاني جدلية أبدية بين صباح عاجز يجلس على كرسي متحرك وليل جبان يختبئ، كفأرة مذعورة، تحت طاولة طعام هجرتها العائلة. إنها حياة الشاعر نفسه موزعة بين تفاصيل مشهد سيريالي، أو لوحة ما بعد حداثية تتصدرها طبيعة صامتة لا تملك جرأة الشاعر على البوح عندما يقول:

"صباح على كرسي متحرك

ينتظر ليلا يدفعه خطوتين

فيما يتربص الليل تحت طاولة عائلةٍ

كي يفر كفأرة مذعورة خطفت قطعة خبز يابسةٍ

 أنا تلك الطاولة

وأنا العائلة التي اختُزلت في شخص وحيد

وحياتي تلك اليابسة التي سقطت

أسفل الكرسي..."(الصباح رباح، ص٦٥).

وفي كل الأحوال، يمضي الديوان على الوتيرة نفسها التي غلفت الأعمال الأخرى لشاعرنا، بحيث جاء معبّرا عن أزمة الأنا مع الآخر، ومع العالم. تلك الأزمة النفسية ذات الطابع الوجودي، التي فجّرت السخرية، كقنبلة موقوتة، في وجه العبث الذي يأبى إلا أن يجعل من إبراهيم ضحية مسلوبة الإرادة!

لكنه لم يكن هكذا دائما، فقد نجح في تحويل قصائده إلى سهام حادة تصيب العالم المتحجر في مقتل. لم يكن إبراهيم سوى نسخة معاصرة من الكونت دي مونت كريستو أو أمير الانتقام الذي كان يبث الرعب في أوصال ضحاياه قبل أن يكشف لهم عن وجهه المخيف.

إن شاعرنا، الذي يعمل بالتدريس، لا يكتب بدافع من الرغبة في تقديم دروس في الحب أو الشعر أو البلاغة، لكن في إماطة اللثام عن الوجه القبيح للعالم. ولعل أقوى ما في انتقامه هو سخريته، وأقوي ما في سخريته هدوءه الذي يشبه الموت!

***

د. ماهر عبد المحسن

في المثقف اليوم