قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لقصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين"

للشاعر الفلسطيني سعيد خلايلي

القصيدة كوثيقة وجدانية وكينونة رمزية

تنهضُ قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" للشاعر سعيد خلايلي على بُنية وجدانية كثيفة تتشابك فيها الدلالة السياسية بالرؤية النفسية، والرمز بالواقع، والمجاز بالمرارة. وتبدو القصيدة في مجملها نشيداً داخليّاً موشوماً بالأسى، فيه يتحول الوطن من جغرافيا إلى ذات، ومن أرض إلى معنى وجودي. تمثل هذه القصيدة مثالًا عالياً على الشعر المقاوم الذي لا يكتفي بالصراخ، بل يتوسل الأسلوبية الرفيعة، والإيقاع الموسيقي، والصور الكثيفة، لإيصال صوت الجرح الجمعي.

وإذ نقرأ هذا النص من منطلق أسلوبي ونفسي ورمزي وهيرمينوطيقي، فإننا نجد أنفسنا أمام تجربة شعرية تتجاوز الانفعال السياسي إلى تأملٍ فلسفي في العلاقة بين الإنسان وموطنه، بين الجسد والأرض، بين اللغة والجراح.

- في مجال التحليل الأسلوبي – البناء، الإيقاع، اللغة

1. البنية الإيقاعية والوزنية:

جاءت القصيدة موزونة على البحر الكامل أو الطويل (في الغالب بتفعيلات الكامل: متفاعلن متفاعلن متفاعلن)، مع حفاظ واضح على موسيقى داخلية نابضة تستند إلى التكرار الصوتي، والتوازي التركيبي، والقافية الغنائية التي تعزز الانفعالات العاطفية يقول:

"يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي"

يظهر من المطلع هذا التوازن الصوتي بين "فلسطين" و"السنا"، وكذلك التناغم في نبرة الشوق والصعود الروحي نحو الوطن، مما يرسّخ النغمة التأملية ويُدخل المتلقي في مناخ وجداني صوفي.

2. الأسلوب البلاغي:

القصيدة تتوسل بتقنيات التكرار (كُلّ جرحٍ فيكِ، يا وطني، فلسطينُ)، والنداء الشعري، والاستفهام التقريري، والتضاد بين النور والظلمة، الحياة والموت، الرجاء والفناء. هذه الأدوات تُحدث تأثيراً شعورياً مضاعفاً، حيث تصير كل كلمة طقساً لغوياً يحتفي بالألم، يقول:

"فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ"

هنا نجد توازياً أسلوبياً بين "لذة البقاء" و"فقد الرجاء"، ما يعكس المفارقة المأساوية التي تعيشها الذات الفلسطينية.

- في مجال التحليل الرمزي – الوطن كرمز للأم، للذات، للقداسة

1. رمزية الوطن/الأم:

القصيدة تُحوّل "فلسطين" من مفهوم سياسي إلى صورة أمومية مقدّسة. فالوطن هو "يا أمَّ آهاتي" و"يا نخلةً في جرحها تتجلدي"، أي أنه يتحمل الألم بصبر الأم، ويتحول إلى مركز تعزية وعزاء في آنٍ معاً، يقول الشاعر خلايلي:

"يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي"

هذه الأم ليست فقط رمزا للأرض، بل للخصب والكرامة والتجلّد أمام الموت. وهنا تكمن القيمة الرمزية للنخلة في الثقافة العربية كعلامة على الثبات.

2. رمزية الجراح والدماء:

"الجُرح"، "الدم"، "السهر"، "الدمع"، "القاني المسفوح" هي إشارات متكررة تحوّل الجسد الإنساني إلى جسدٍ وطني. الجرح ليس خاصاً، بل هو جرحٌ كليّ/جمعي؛ وما يصيب الوطن يصيب الذات مباشرة.

"كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى"

هذه الرمزية تجعل من الشعر فعل مشاركة في الألم الوطني، وتعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والجماعة.

- في مجال التحليل النفسي – القصيدة كمرآة داخلية للأنا المقهورة.

1. أنا الشاعر بوصفها كائنًا منفيًّا داخليًّا:

القصيدة مليئة بصور الانفصال والاغتراب، لكن دون تسليم، بل بإصرار على العودة والتشبث رغم النفي. فالشاعر يقول:

"أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي"

إن الذات تتماهى مع الوطن حتى تغدو جثة "مُسجّاة"، لكنها في الوقت نفسه تحمل وعياً يقظاً وعاطفةً متقدة.

2. القصيدة كعملية تفريغ شعوري/وجداني:

الكتابة هنا فعل مقاومة نفسية ضد الانهيار. الشاعر يتلو، ينتحب، يتهجّى الدعاء في الليل، ويستعين بالصور العاطفية للتعبير عن التوترات الداخلية، يقول:

"وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي"

الشاعر هنا في حوار داخلي مع ليله الخاص، والليل رمز وجودي للضياع والأمل في آنٍ، مما يمنح النص طابعًا تأمليًا يتقاطع مع النفس الإنسانية المتعبة.

- في مجال التحليل الهيرمينوطيقي – تأويل فلسفي للمعنى العا

1. فلسطين بوصفها سؤالًا وجوديّاً:

في الخاتمة، تتحوّل فلسطين إلى "السؤال المطلق اللامنتهي". هذا التحول يمنح القصيدة بُعداً تأويليّاً جديداً، إذ لم تعد فلسطين فقط مأساةً سياسية أو وطناً محتلًّا، بل صارت سؤالًا كونيّاً حول المعنى والهوية والحضور، يقول:

"أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ"

هذا البيت يعكس وعياً عميقاً بالزمن الوجودي. فلسطين ليست فقط المكان، بل هي شرط وجود، والغياب الصاخب الذي يُعرّي كل العالم من معناه إذا غابت.

2. من الجرح إلى البعث:

في البيت الختامي، يقول الشاعر خلايلي:

"نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ"

نرى صورة "الماء" الذي يتسلل من الجراح – وهذا تأويل مدهش للتحول من الألم إلى الأمل. فالماء، رمز الحياة، يخرج من الجرح، رمز الموت، بما يؤسس لرؤية مستقبلية خلاقة وسط الأنقاض.

- في مجال الصور الشعرية والتشابيه والاستعارات

القصيدة غنية بالصور المحسوسة والرمزية معًا، مثل:

"الدمعُ فوق وسادتي" → صورة حميمية للحزن الممتد من العام إلى الخاص.

"يدينا نخلةٌ تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ" → تشبيه مركب يُبرز المأساة والخصوبة في آنٍ.

"غنّتْ صباياكِ… لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوت" → مفارقة قاتلة بين الجمال والموت.

هذه الصور تُشكّل طيفاً رمزياً يتنقل بين الحسي والتأويلي، بين المباشر والمجرد، بأسلوب بلاغي راقٍ.

خاتمة: القصيدة كأغنيةٍ للهوية وجراحاتها، تمثل قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" تجربة شعرية ناضجة تتجاوز خطاب المظلومية إلى بناء كينونة شعرية ناطقة بالحضور والمقاومة والمعنى. القصيدة تُزاوج بين الحنين والاحتراق، بين الحب والفقد، بين الذات والرمز، لتقدم فلسطين لا كأرض موعودة فقط، بل كوعدٍ شعري وجودي يظلّ معلقاً في فضاء الضمير واللغة والتاريخ.

إنها ليست فقط نشيداً لفلسطين، بل اعترافٌ كونيّ بأنّ هذا الجرح ليس سياسياً فحسب، بل هو انكسار في الروح الإنسانية كلما تجاهلت المأساة أو اعتادت مشاهد الذبح دون تأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي

أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي

*

كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى

كلُّ قرحٍ مسَّ شبرًا منكَ، وانطفأتْ

شمسي، وكانَ القَلبُ فيكَ مُوْقَدا

*

يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي

الثكلى دمي، واليتامى أضلعي

والروحُ بُسطتْ كي يناموا في يدي

*

وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي

وأُقايضُ النجمَ الدعاءَ لأجلِهمْ

وأقولُ: يا ربّاهُ! بَوِّبْ مولدي

*

والقانيُ المسفوحُ فوقَ ترابِنا

قد كان دمي، والروحُ زُفّتْ للسُّدى

فلِمَ استحللتِ الذُّبُوحَ لمُهجتي؟

فلِمَ الزهورُ تذوبُ فيكَ وتنطوي؟

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ الهوى

ربّما كنّا قُساةً في الهوى

فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ

*

عطشى نُموتُ، وفي يدينا نخلةٌ

تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ

وحزانى نحنُ، والأهلينَ فينا

رُمحٌ، وسيفٌ… في مَدى الأعداءِ

*

أيُّ قُبحٍ شوَّهَ القدسَ التي

كانتْ تُطرِّزُ بالضياءِ دُموعَنا؟

وغزةُ الزهراءِ، أينَ ضياءُها؟

والخيلُ تسأل: من يُعيدُ شُعاعَنا؟

*

والخليلُ الحُرُّ… أيُّ مدائنٍ

نامتْ على أوجاعِها ما بانَها؟

قولي فلسطينُ، مَن حطّمَ الوَدى؟

من بدّدَ الأناشيدَ في أفواهِنا؟

*

كُلُّ وضّاءٍ، كأنّ الروحَ فيهِ

مصلوبُ شوقٍ، أو شهيدٌ فُتِّتا

كُلُّ من ذابَ اشتياقًا في ثراكِ

كانَ النقاءَ… وكانَ فينا أنبَلَا

*

غنّتْ صباياكِ الجميلاتُ الهوى

لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوتِ يا

يا قدسُ، صبحنَا على شوقٍ دمي

هل يطلعُ الفجرُ المضمّخُ بالدُّجا؟

*

أنا عندَ بابِكِ، في يدي أناشيدُكِ

أهديكِ حُبّي، واشتياقي، ومُقلتي

أنا ذلكَ العاشقُ الذي لم ينثني

عنكِ… وإنْ ذبُلتْ يدي أو قامتي

*

يا وطني الأغلى فلسطينُ الهُدى

كلُّ جُرحٍ فيكِ… جُرحي وأُغنيتي!

وطنيَ المصلوبَ فينا كلَّ يومٍ

لم تَمتْ… بل في ضمائرِنا سَكنتْ

أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ

*

فيكَ انكشفتْ وجوهُنا المسروقةُ

فيكَ استبانَ خريفُنا وتَجدَّدَ النبتُ

أنتَ البقاءُ لكلِّ معنىً خالدٍ

أنتَ البدايةُ… حينَ لا يبقى لنا وقتُ

*

نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ

ونُعيدُ ترتيبَ الوجودِ بأسرِهِ

كي يستقيمَ الحُبُّ فيكَ… على أحدِ

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ البُكا

والمُلْهِمُ الأبقى… وسِرُّ الخالد

 

في المثقف اليوم