قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مملكة العماء المسرودة بين الشمولية والآنية المتواترة (3)

توطئة: لعل فعل المتابعة القرائية للفصول اللاحقة من أفعال المسرود الروائي في دﻻﻻت رواية (العمى) يرشدنا إلى جملة بنيات ممتلئة بالقواسم المسرودة وحدود الميل إلى مركزية (الاصوات المتمحورة) إستكماﻻ إرساليا - تناوبيا وتفويضيا - الى مهام السارد العليم في بث مجتزءات العوامل المسرودة بالتفصيل التحليلي الذي بات يتحرى جزيئات وكليات الملخصات في زمن المقابلات الحدوثية المحسومة من قبل عرض المسرود، كوسيلة لإحياء وظائف مديدة ومتماهية بالكشف واللاكشف عن مديات العوامل الشخوصية عبر متابعاتها وتعاقباتها (الشمولية - الآنية) في مجمل مساحة متينة متواصلة ما بين (اللحظة الإجمالية) وتلك الأوضاع التي أختارتها الأحداث في الكشف عن جزيئات (آنية) متراوحة ما بين (صوت السارد = الإشارات اللامتناهية) خلوصا بالاحداث نحو مغامرات تسيرها مسكونية (الماضي - الآتي) دون كمولية الإحساس بأن ما يحدث ما هو إلا (الدال المضاد ؟) لأوضاع وجهات حكومية غير معبر عنها عبر السرد والمسرود إلا بتلك الإشارات المتكونة من ثنائية (الشمولية = الآنية) إذ أن النوع الاول يتلخص اساسا في حاﻻت إدراكية مجملة لابعاد مرمزة، فيما تتلخص غائية أفعال العناصر المتكونة من (صوت السارد = أصوات الشخوص المسرودة) في القيمة الادنى من الكشف عن أحوال ما يحدث وما جرى عليه حال تراجيديا العماء في مواطن المتقلين في مشفى الأمراض العقلية المحوط بمواقع حصينة من افراد العساكر القتلة.

- المتن الحكائي ومسرحة الصراع الشخوصي:

أن الملاحظ في مشاهد الفصول الروائية الصاعدة من النص، ثمة بروز لمستوى مهيمنة مغامراتية تنقسم بين أوضاع الشخوص المحتجزين في ذلك المشفى وكيفية مقتضى عملية نجاتهم المسلبة من قبل حصون ذلك المشفى الكابوسي. في الحقيقة كما علمنا أن أحد الجنود المكلفين بالحراسة المشددة على ذلك المشفى قد تم اطلاق بعض من العيارات النارية على أحد ممن قامت الجهات المسؤولة بأحتجازه،وهو ذلك الفرد الذي قام بسرقة سيارة الرجل الذي اصابته الجانحة الاولى من العماء في بداية الرواية،الامر الذي غدا يكشف لنا عن مدى مظلومية هذا القتيل في حدود سياق الواقعة الحديثة من المسرود،لاظهاره لنا كونه فردا راح ضحية ذلك العدوان الذي تحرك آلياته كفة السلطة الباطشة في مستوى معين من الصورة الشمولية للحكومات :(كانت زوجة الطبيب هي الوحيدة التي تعرف الحالة البشعة لجثة الرجل المتوفى، كان الوجه والجمجمة قد تحطمها وأصبحا كسرا بفعل طلقات البندقية. / ص113 الرواية) طبعا من المعروف في الأحداث الروائية أن موجهات الموضوعة تنصب في آفاق من الثيمات التي يمكن لنا تسميتها (البراءة من الذنب - الاشباع بالذنب) فلعل هذه الزوجة للطبيب في موقع يؤجل عنها ذلك الداء النفسي المسمى ب (العمى القلبي) ذلك لأسبابا لم تطرحها الرواية ولو في الاجزاء المضمرة من مرجحاتها الشهودية الخاصة، لذا صرنا نعلم أن كل المصابين بهذا الداء النفسي،هم من اصحاب الرذائل، ذلك لبيان ما قامت به مرتبطات الأحداث الروائية في سيرورة كل حالة شخوصية مصابة بهذا العمى، إذن هذا العمى لا يتركز في ظاهرة فساد السلطة تحديدا، بل أنه مؤشرا معادلا على فساد الضمائر لدى الأوضاع الخاصة من الأفراد سيكولوجيا مما جعلنا ننظر إلى أولئك المصابين على أنهم حاﻻت آنية طرحتها مؤسسة السواد الشمولية في الآلية الحكومية. ان دراسة رواية (العمى) عبر علاقاتها مستوياتها السايكولوجية طافحة بظواهر نفسية مضطربة، مما جعلها تؤشر في مداليلها عن مدى الاحراج الذي وضعتهم فيه المؤسسة الحكومية من تفشي فساد الضمائر ومؤشرات دخائل النفس التي ما زالت قائمة بانفعاﻻتها مع الغرائز وحب المال والجشع في الحصول على ادنى علامات اللاشعور بالحرج من فعل الرذائل.على هذا النحو وجدنا رواية (العمى) تركز ملامح افرادها الفيزيولجية عبر مكونات بعيدة وقريبة من دﻻلة (العمى) الشمولي والآني، ابرازا كبيرا إلى مصدر الخيوط الناسجة لهذا العمى الذي تفشى في إرادات مزيفة من الفواعل الشخوصية: (إذ كيف يمكن أن نقارن بين سرقة سيارة وحياة الرجل الذي سرقها، وبخاصة إذا اخذنا بنظر الاعتبار الحالة المزرية لجثته. / ص117 الرواية) أن القسط الاوفر من مسرود موضوعة وفكرة الرواية، تتلخص في حدود معادﻻت نفسية خاصة، لذا نراها رواية بالمستوى الامثل والأخير من معالجة (الصراعات التطهيرية) للفرد والافراد، فضلا عن الإشارات إلى مدى انحدارية ما عليه حال السلطة الحكومية من مشروعية نفعية ونرجسية تستعرض مكوناتها وتمفصلاتها المؤسساتية ليس لغاية عميقة في بناء الفرد، إنما لانتزاعه من موضعه الطبيعي، وجه في مهاترات لا نهاية لها من العوائق.

تعليق القراءة

إن القارىء والدارس لروايتي(العمى -انقطاعات الموت) لربما يعاين حجم وفرادة أطروحة التجربة للصنعة الروائية خصوصا في رواية (انقطاعات الموت) ورواية (العمى) كما  إن الفردية والخصوصية الأدائية في أدوات وخيال هذا الروائي الفذ، عكست ذاتها في جميع أعماله المكثفة ذات الأغراض الدﻻلية التي تتطلب من الناقد بعدا ﻻ تتوافر فيه أدنى مثالب الاسقاطية والعابرية في قراءة وتمحيص المنجز.. لذا فإننا من خلال دراستنا لعوالم ساراماغو وجدنا تفردية ابعاد التصور والاختلاف في تشكيل مؤثثات الرواية عبر كافة مستوياتها الجمالية والدﻻلية والتقانية والتكنيكية المتماسة مع أعلى مستويات الصياغة الروائية ل (مملكة المسرود) الضامنة ل (الشمولية) و(الآنية) المتواترة عبر مسارات من الصلات بالمجتمع والفرد والسلطات المملوكية في كيانها الترابطي مع انقطاعات الموت وتضادات مفارقة العمى في  الحدود الملموسة واللاملموسة في نقاط رمزية وإحالية وانزياحية في الطابع والتطبع وخلوصية مقاصد المعنى المضمر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

في المثقف اليوم