قراءات نقدية
نورالدين حنيف: ثلاثية الماء والكتابة والألوان في ديوان (أحرقتُ مراكبي)
للشاعر "أبوفراس جابر الصنهاجي"
1 - أقدّمُ الديوانَ بمفرداته:
يحرقُ الشاعر أبوفراس جابر الصنهاجي مراكبَهُ في أربعٍ وعشرينَ ساحلاً انزياحياً يبدأ بالربيعِ ينقشُ أحلامَهُ على جدار معتقلٍ، وينتهي بمكر الوشمِ ينرسمُ على خدّ راقصة. وبين النقشِ والرقص تنثالُ القصائدُ تباعاً، تغْرِفُ من نونِ الكتابةِ حروفَ الطينِ، مُزْوَرَّةً عنِ سراب الْمِياه، مبْتَهِلَةً في عبير وردة، منشّفَةً شموعَها في صمت الجراحِ، موقِّعةً على سوادِ الليلِ نغماتها الحزينة، ترجو فيها عطف القمر، خشية الضياعِ في أزمنةِ التّيه.
2 - أختارُ تيمةً واحدة:
هي واحدةٌ في صيغة المتعدد. وأقصد بذلك ثلاثية الماء والكتابة والألوان. وفي لغةٍ إجرائية بعيدة عن التناول العائم أقول:
قد مارستُ على الديوان قراءة إحصائية لا تتغيّى شيئاً سوى رصد المفردات في صورتها المورفولوجية. وبعد ذلك صنّفتُها في خانة الدلالة، فوجدتُ القصائد تتحرّك في كثيرٍ من التيمات أو الموضوعات. ولكن اللافِتَ فيها بقوة سيميائية ثلاثةٌ هي:
- دلالة الماء: 81 تردّداً
- دلالة الكتابة: 70 تردّداً
- دلالة اللون: 51 تردّداً
و لم نحص في هذه الحقول الدلالية مفرداتها داخل الجذر اللغوي الصافي فقط، بل حرصنا أيضاً على تتبع الكلمة في اصلها وفي اشتقاقاتها وفي ظلالها. ونمثّل لذلك بكلمة (الكتابة) التي أحصينا فيها مايلي: فعل كتب ومشتقاته، وسجلنا أيضا متعلقات الكتابة مثل القلم والخط والشعر والخطاب والحبر وكل ما يتعلق بهذا الحقل من قريب أو من بعيد دون ليِّ أعناق المفردة كي نراكمَ حصيلتها في فراغٍ دلاليّ. والأمر ينطبق على كل الحقول مثل الماء استدعينا فيه مفردات البحر والموج والسحاب والعطش وغيرها ... وفي حقل اللون استدعينا الأبيض والأحمر والأخضر ومتعلقات اللون مثل الثلج والغراب والليل والدم و...
هكذا اشتغلنا حتى نوسّع من أفق تداولنا لمعاني الديوان ولفائض معانيه ولظلال معانيه. في تصورٍ نقدي يتبنّى الحقّ في التأويل المشروط بالقرائن المعجمية والسياقية والثقافية.
3 - أبحث عن أولِ تجلٍّ:
و أوّل التجلي لعنصر الماء واللون والكتابة يتبدّى في العتبة (أحرقتُ مراكبي):
- الكتابة - صوغُ العنوان مارسه شاعرٌ يكتب
- الماء - المراكب تحيلُ منطقياً على الماء الذي تمخُرُ عُبابه
- اللون - الإحراق يشي بلون السواد
وحالما ينفتح القارئ على الديوان تواجهه أول قصيدة بعنوان (ربيعٌ على جدار المعتقل) وهو تجلٍّ واضحٌ لطقس الكتابة والماء واللون، بادرتْ به القصيدة وهي تمسك بالعتبة في قبضة التأويل واحتمال التأويل. فالربيع لا يكون إلّا نتيجة الماء، والمعتقلُ هو في الأصل اعتقالٌ لفكرة الماء قبل اعتقاله للإنسان، والربيع لون أخضر، لا يُقحمُ ذاتَه قسراً وتعسّفا، بقدر ما ينساب في نسغ العتبة متخفيّاً في التلميح، رافضاً سطحيةَ التصريح.
4 - أفكِّرُ في اطِّراحِ الشاعر لمقولة الكتابة:
و الكتابة تفيد في الديوان أكثر من معاني التسطير والتدبيج والتحبير والتعبير... إلى الدلالة على الوجود الذاتي والموضوعي للمقولات المتعددة منها مقولة الإنسان (الذات مثلا) ومقولة التاريخ (الأندلس مثلا) وغيرهما من المقولات التي تستحق وحدها وقفة قِرائية كاشفة.
و في مثالٍ نستخلصه من القصيدة الثانية وتحديداً في عنوانها (نون الكتابة) نشيرُ إلى أن الشاعر أسند فعل الكتابة إلى مفردة النون، وهو إسناد يبحث عن شرعية الكتابة الشعرية ويبحث عن مصداقية الجمالية الصوغية من مرجعية علوية. قال تعالي (نون والقلم وما يسطرون)1.
من هنا استيعابنا لربط الشاعر فعل الكتابة بمفردة النون، باعتبارها حرفاً مقدساً يتمتّع بخاصية صواتية تتميز عن غيرها داخل الصواتة العربية. فهو يتميز بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)2. ناهيكَ عن شكله المعبّر عن نسقٍ دائريٍّ تتوسّطه نقطة، تدفع بالصورة إلى دلالة الاحتواء والضم وفعل الاحتضان والتسوير الجليل.
وينزل الشاعر من سموق المرجعية إلى مخيال الذاتية، ليشخصِنَ في هذا النزول مفهوم الكتابة، داخل منظور يبتعد عن التنظير والتفكير لأن المقام مقام شعر، ولأن الشاعر بصدد الهيولى لا العلم، وبصدد الزئبقية المنفلتة لا الدقة المحددة في صرامة التعريفات. إنه يحاول أن ينكتب، وداخل انكتابه نظفر نحن معشر القراء بشيءٍ من وجهة نظر خاصة حول مقولة الكتابة.
5 - أمارس التأويل على الثلاثية:
- الشعرُ ليس وثيقة:
ولا يفوتُنا تسجيل فكرة التبئير لمقولة الماء والكتابة واللون داخل عتبة العنوان الّتي تجاوزتْ محطّة التأشير على الديوان إلى التعبير عن الديوان في أبعاديتِه الدلالية. وهنا بالتحديد بدا الشاعر ماكراً مكراً أدبياً يتبنّى فكرة التاريخ داخل المتخيّل، لا فكرة المتخيّل داخل التاريخ. الشاعر ليس مؤرّخاً كي نطلب منه الحديث عن المراكب، وعن إحراقِها، وعن تماهيها بلحظة زمانية أسّسها علَمٌ بارزٌ في تاريخ هذه الأمة الإسلامية هو طارق بن زياد، أو أن ننتظر من الشاعر تغطية هذه اللحظة بدقّة العالِمِ المتخصّص ... الشاعر يدركُ دور الفنّان في حدود لا يشطُّ فيها بمخياله فوق الحدث ولا ينزل بمخياله أسفل الحدث. والأمر غير متعلّقٍ البتّةَ بوثيقة تاريخية محضة، بقدر ما الأمر متعلّق بتصوّر فنّيٍّ متأتٍّ من ذاتٍ مبدعة في مجال القول، همّها الأول تقديمُ متنٍ شعرِيٍّ متعالٍ عن الواقعِ ومحتضنٌ له في آن، لكنْ بطريقةٍ يتحولُ فيها الكاتب لهذه الإضمامة إلى هيولى إنسانية مسكونة بالخيال، بعيْنيْنِ: واحدةٌ تمكر بالإبداع الشعري في أبعادٍ ثلاثيةٍ تستحضر الماء (البحر) واللون (الدم والجهاد) والكتابة (التخييل لا التسجيل). وأما الثانية فعينٌ تمكرُ بالصياغة الشعرية القادمة من برزخ البيانِ والانزياح وتقدّمُ متناً شعرياً يقول كلمته في الذات والموضوع والتاريخ دون أن يكون هذا المتن متواطئاً مع الحيادية الانهزامية التي تلخصها مقولة (قل كلمتك وامْضِ).
- الكمُّ لا يعني:
عندما تحدّث الشاعر في العتبة عن المراكب وعملية الإحراق، ظننَّا من زاوية القارئ السّاذج أن الشاعر سيُغْرِقُ الديوانَ بمفردات المراكب. فإذا بالعكس تجلّى صحيحاً. فلم يتعدّ منسوب ملفوظ المراكب عدد أصابع اليد، ومن ثمّة فقد كسّر الشاعر مفهوم الهيمنة وحوّلهُ من ثراء التردد المعجمي إلى ثراء الحضور الرمزي الدالّ. وهذا نوعٌ جديدٌ من الصوغِ الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفي هذا التوجّه إدراكٌ طيّبٌ من الذاتِ المتكلمة أن يحظى المتلقي لديها بقدرٍ من الحضور الجمالي الذي يبدو فيه مشارِكاً ذكيّاً لا يستدعي من المبدعِ أن يُراكِمَ لديهِ مفهومَ الكمّ، ويقصّ من أجنحة تحليقه في التخيّل بتوجيهه اللامباشر بوضعِ كثيرٍ من المحطّات المعجمية، وكأنها علامات التشوير في الطريق... يتركُ الشاعر للمتلقي مساحة واسعة من حقّ التخييل لممارسة حقّ التأويل. ولأن المبدعَ مؤمنٌ بتناسل النص وتوالده خارج ذاتِهِ. فقد جنح إلى جمالية التلقي التي ترحّب بفكرة التفاعل المُهرّب للقراءة من سلطة النصّ و" فيتيشية " المؤلّف إلى الانفتاح على تعددية القراءات والتأويلات واحتمالات المعنى. ذلك أن (الإبدالَ لجديد الذي تقترحه جمالية التلقي هو الاهتمام بأثر النص في القارئ، لا بالأدب في حد ذاته أو في حد مرجعيته وحمولته الفكرية وتاريخيته، ولا من حيث ماديته الشكلية واللغوية. الإبدالُ هو ما وقعُ النص في القارئ؟)3.
- بلاغة الماضي:
تسكنُ الأندلس في العنوان عبر تحويل الإسناد من معترك الذاتِ (أحرقتُ مراكبي) حيثُ التاء المرفوعةُ على الفاعلية وحيث النسبة المتكلمة في ياءِ المراكب، إلى معترك الموضوع، أو التاريخ إن شئنا التعبير المباشر. وفيه يستدعي الشاعر المتلقي في بوّابتَيْ بيانِ التصريح ومخيال التلميح. فالمراكب كانت على الساحل في اتجاه الآخر حيث الأندلس تنتظر المنقد. وهذا لم يتكلم عنه الشاعر من باب أنه ليس مؤرخا، ولكن المتلقي قارئٌ ومنتج جديد يقوم بالتأويل. وحتّى التصريح بمفردات الأندلس كان شاعرياً بامتياز ومنه دلف الشاعر وأدلفَ معه المتلقي لاجتناء القطاف الشعري في هذا المقطع:
رائعةٌ حينَ تكتُبِين
و في بوحك جنونٌ كسّر القيود
في نبضك ربيعٌ وتغريد
شلال شوقٍ وحنين
بستان عشق بأندلس
يحكي لوعة ابن زيدون
واشتياق ولّادة
وبسمتك عابرة للأقفال
همسات تغرّد في كياني4
و تسكن الأندلس في الديوان دون أن تثير غبار المعجم، لأن الشاعر يؤمن بأنّ كثيرا من الحقائق تدخل في مقولة الآمدي (إن من الأشياء ما تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة). والمعرفة هنا غير متحيّزة في المكان، بقدر ما تنسرب في عموم المكان، ونقصد بذلك المكان العربي الذي تبدو فيه ذاتُ الشاعر لا تفرّق بين أندلس وعراق ومصر ومغرب... قال الشاعر في ديوانه:
هل جفّ النيل في صعيدنا
وأغرق الفرات مراكبه
وبلع النمل المياه قبل الحصاد
ما بال دجلة سقط مغشياً عليه5
شعرية الزمان تلتقي مع شعرية المكان معجونتيْنِ في تجربة الماضي الّذي تستثمرهُ ذائقة الشاعر في مخيال هادفٍ لا يشطُّ في رومنسية الخطاب الحالم، بقدر ما يندفع سائلاً ومتسائلاً في نسق الاعتبار، محقّقاً بذلك انسجاماً جمالياً داخل تشعّبٍ أكثر جمالية.
6 - سيمياء اللون في الثلاثية الدلالية:
تقوم شعرية اللون أو الألوان في ديوان (أحرقتُ مراكبي) على تشكيل اللغة لتعيد تشكيل عالمٍ بديلٍ عن العالم الواقعي، داخل منظور تخييلي لا يكسر الرابط المعنوي والدلالي القائم بين الأشياء في وجودها المرئي وبين الأشياء كعلامات تلج مخيال الشاعر لتخرج منه كائناتٍ زئبقية طافحة بالأبعاد.
و في ذلك المسار يلعب الشاعر لعبة الألوان:
و نقصد به توظيف دلالات الألوان في تناغم بين الصورة الذهنية للون وبين الصورة البيانية الكاشفة لهذا اللون أو ذاك . والصورة هنا تستنجد بالانزياحات الغائرة كي تلقيَ باللون الفيزيائي خارج التمثل الحسّيّ لتنقل المتلقي إلى اللعبة الشعرية المتوسلة سيمياء التأويل المشروط.
ومنها تجانس اللون في ماهية اللون (أبيض) مع الماهية في جسدٍ يحمل دلالة هذا اللون (الثلج)، أي أن الشاعر يمارس لعبة التجانس بين المحمول، أي البياض، والحامل، أي الثلج... أنظر الصفحة 10 من الديوان مثلا. وفيه يخرجُ الشاعربالتعبير من بداهات المعجم إلى معانقة الأشياء في تجليّاتها السيميائية الخازنة لمجموعة من الدلالات. فالبياضُ هنا لا يستثمره الشاعر باعتباره لوناً فيزيائياً بليدا تقف معانيه عند حدود الأصباغ، بقدر ما هو إشارة علاماتية تفضح في سمتٍ بلاغيٍّ ساخر هوية الموصوف. ونجد مصداقاً لذلك في مثالٍ من القصيدة الأولى حيث يصف الشاعر الأحلام التي ماتت بقوله (يحرسها غرابٌ أبيضُ كالثّلج) أنظر الديوان ص 10.
و إذا استمدت العلاقة بين البياض والثلج مصداقيتها من مقولة المشابهة البائنة من خلال كاف التشبيه، فإنها في سياق آخر استمدت علاقتها من تجانس النقيضين (البياض والغراب). وحيث إن الأحلام ماتت فهي تنتظر درسَ الدفن التاريخي النازح من القصص القرآني، فيكون الغرابُ معادلاً موضوعيا يقتحم الصورة ليؤثّت بنياتِها البيانية بمزيدٍ من الضوء. اللون الأسود الدال على الموت نقيض اللون الأبيض الدال على الحياة،و في هذا التجانس يرقد عمق الانزياح، إذ الشاعر يكشف لنا في غير تكرار للتاريخ أن الغراب هنا غير حاضر ليعلّمنا طقوس الدفنِ وإن كانت الفكرةُ واردةً في بعض التأويل، ولكنه فضلاً عن ذلك هو حاضر لا ككائن حيواني بجناحيْنِ ومنقار، ولا كصورة مكرّرة لفعل الدفن، ولكنه حاضر كسوادٍ دلاليٍّ وبؤَرِيٍّ يقصّ من تحليق أحلامنا بسواده الغريب. قال الشاعر في نفس سياق حديثه عن الأحلام (حين تطل أحلامنا من القبور – يصعقها صوت الغراب ص 10). وإمعاناً في النكاية بهذه الأحلام يضيف الشاعر إلى كينونة الغراب وإلى سوادِه مكوّناً آخر هو صوتُ الغراب المرتبط بالصعاق. وفيه ما فيه من دلالة السلب والخواء والنفي والخراب...
و منها تجانس المحمول والحامل في مفردتيِ الحمرة والدم، وهذه الثنائية حاضرة في الديوان بشكل ملفت، نستدل على حضورها بالتمثيل لا بالحصر ونقف هنيهة عند القصيدة السادسة (سيد الشهداء) حيث اللون الأحمر حاضرٌ في صيغٍ متعددة منها (الدماء – بالدماء مدرجة أيدينا – الدماء الزكية - في عروقنا – نصلي بدون نزيف – نصلي والدماء جارية - ... ص 31 – ص 36) وسياق القصيدة يعضد مذهبنا في التخريج. الحمرة في هذا السياق متوارية تترك لتداعياتها ومتعلقاتها شرف البيان. قال الشاعر (نصلّي بدون نزيف ص 36) معتمداً ظلال الإشارة بدل أجساد العبارة، في علاقة (تقوم على المجاورة فتكون العلاقة هنا سببية منطقية)*6 بين المحمول، أي الحمرة والحامل أي النزيف. ومثل ذلك التركيب كثيرٌ في الديوان بفصح عن دراية شعرية من لدن الشاعر الذي تأبى ذائقته الإمساك بالمعاني داخل شرنقات التقليد البلاغي، وتفضل التحليق في مخيال الانزياحات الذكية القابضة على المعنى لتتجاوزه إلى فائض المعنى ... وهكذا الشعر.
إن عبارة (نصلي بدون نزيف) عبارة ممتدة في عالم البلاغة الجديدة المبنية على اختيارات دقيقة لمنسوب التخييل، ذلك أن الصلاة تستدعي وضوءا وماء، والدمُ هنا معادل بلاغي غائب يستحضر الشاعر بعض تداعياته ألا وهو النزيف، لترتسم الصورة أمامنا بالغة في الوخز، حيث الدم سيد الموقف في سياق القصيدة الماتحة ألوانها من تيمة الشهادة، وهي تيمة تعجّ بالحمرة والدم، فيأتي قرار الشاعر بإيقاف هذا المشهد الأحمر توصيفاً للحياة البديلة عن قهر التيمم بقنافد الحظيرة... هكذا تتمازج في عرف الثلاثية صبغةُ الماءِ في مقولة الوضوء المتخفية، بصبغة اللون في الحمرة المتوارية بصبغةِ الكتابة الواعية بلحظة المفارقة والخلاص. قال الشاعر في محور الكتابة (العريس في مرقده يتلو الكتاب ص 34) والتلاوةُ هنا قرار ربّاني يعشق نهاية الشهادة في حرير الجنة وزعفرانها ومسكها كما لمّح إلى ذلك الشاعر (ص 35)
7 - أكتشف لعبةَ الكتابة في الديوان:
أعتبر الانزياح اسلوباً بليغاً وماكراً في بلاغته وهو ينقل إلينا دلالات الثلاثية (الماء واللون والكتابة) نقلاً أيقونياً وإشارياً وزمزياً، في انتقالٍ بديعٍ بالعلاقة بين الدال والمدلول، من مقبرة المعنى إلى حدائق اللامعنى، وأقصد بذلك فائض المعنى في أبعاده الدلالية وفي دلالاته البعيدة والمحلقة في عوالم التخييل المحترمة لجمالية التقلي كنسق إبداعي، ولحضور المتلقي كطاقة قارئة ومؤوّلة. وفي هذا الصدد سنختار بعض المقاطع من بين كثير، وهي كلها تميط اللثام عن منظورات الشاعر لفعل الكتابة باعتبارها آلية لا تقف عند حدود الصوغ الشعري وإنما تتجاوزه إلى آفاق الصوغ الوجودي لمختلف الماهيات المتناثرة هنا وهناك في غضون الديوان:
القصيدة الشاهد الصفحة
1 - على جدار المعتقل كتبنا- صفحة 12
2 - اكتبيني رواية - ص 14
4 - وحروف فقد لغتها - ص 24
4 - أشعاري تحررت من القافية - ص 30
6 - العريس في مرقده يتلو الكتاب - ص 34
7 - ولا القراءات المتواترة - ص38
9 - نكتب الأسماء كلها من جديد - ص 46
14 - قلمي كان واعياً بكلمات - ص 63
17 - تعطلت لغة الخطاب - ص74
22 - يغازل القرطاس والمحبرة - ص 94
23 - يراجع الفرزدق قصائده - ص 98
24 - ركبنا صهوة الحرف - ص 100
اخترنا هذا الغيض من ذاك الفيض تقريباً للقراءة من الأفهام، وليس إحاطة شاملة. فذاك أمر موكولٌ إلى أفق آخر يدرس الديوان في كلياته الممكنة.
الكتابة جزءٌ من موضوعةٍ كبيرةٍ في الديوان، هي ثلاثية الماء والكتابة والألوان. ومن منظوري الخاص، هي تداخل ذكيٌّ من الشاعر يبني به فلسفته في الفنّ والحياة.
و حديثنا عن كل طرف في هذه التيمة على حدة هو مجرد إجراء تفكيكي لتقريب المسافة بين الديوان والقارئ. أما حقيقة الأمر فلا إمكان للفصل في تصور الشاعر بين الماء والكتابة والألوان. فهي أشكالٌ متداخلة ومنسجمة أشدّ الانسجام في إطار النسق الثقافي لهذا المبدع، على الرغم من تشعّباتها الماهياتية، إذ الماءُ مفارقٌ للكتابة وللون، ولكنّ هذيْنِ الأخيريْنِ متعلقان بالأول في ثقافتنا الإسلامية من باب المرجعية والمصدرية (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ). ومما يعزّز طرحنا أن حقل الماء مهيمنٌ درجاتٍ قصوى في الحضور مقارنةً بالكتابة والألوان.
الشاعر لا يكتب إلّا من زاوية الوعي بفن الشعر:
أفتّش في قشّ أدواتي عن أثر لك
عن أوراق سقطت منّي ذات خريف
قلمي كان واعياً بكلماتي حتّى النّخاع
قبل أن يخطّها على الورق يسائلني
يعتذر عن بعضها ... ويأبى التدوين. ص 63
و هو في وعيه بمادّة الشعر لا يسقط في صرامة الحدّ العلمي، بقدر ما يحرص على العومِ في كيمياء التخييل، حتى لا يسقط في شعر الفكرة الّتي لا يتبنّاها الديوان ولا يغازلها حتى مغازلة. والكتابة الشعريةُ في آخر المطاف ماءٌ يجري في نسغِ الإنسان، وعوضَ أن ينساب رقراقاً بعذبِ الزلال، نجده ينساب رقراقاً ببليغ الألوان. فيضمّخ وجودنا بالأبيض والأحمر والخضرة واللون الفضي والذهبي وغيره من الألوان ليقول لنا في صمتِ الشعر:
أنا الشاعر أبوفراس جابر لا أدقّ مسامير الواقع في تسجيلية الحرف البليدة، وإنما أصنع من المعتقل أفقاً مفتوحا على البياض الجميل، وأشقّ جداراته بعنف الخضرة الآتية من قلب الشهيد، وأحوّل الحمرة في تاريخ الأندلس إلى رؤية فضية تلهج بالضوء، وأصبغ مياه دجلة والفرات والنيل بعبق الانسياب الرقراق الحامل للشعور بالمكان والتاريخ في امتدادهما خارج شرنقات التحقيب، وأدلفُ بمعية عشقي الخاص إلى بساتين الماء واللون لأكتب أجمل قصيدة أحبّ فيها إنسانٌ إنساناً يستحق أن يكونَ نجمةً في سماء العاشق.
8 - ختمٌ:
لا أقول إنني قرأت الديوانَ في شموليته وفي مستوياتِ تعبيره، وفي بنياته التركيبية والبلاغية والدلالية وغيرها... فهذا ضربٌ من الادّعاء. كل ما فعلتُهُ أنني شاكستُ بعضاً منه في أفق واحد تلتقي فيه عينُ الشاعر وعيني على مفترق ثلاثية الماء واللون والكتابة بهما وعنهما، في احتشامٍ شديدٍ لأن الديوان مفتوحٌ جدّاً على شساعةِ التأويل وقوة الاحتمال، فيما أناختْ قراءتي القاصرة عند عتبةِ جزءٍ من هذا الاحتمال الّذي أقول فيه: اجتهدتُ وفي نفسي كثيرٌ من " لوْ " ...
***
بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة
...........................
إحالات:
1 – الآية 1، سورة القلم
2 - محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40
3 – هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي من أجل تأويل جديد... ترجمة رشيد بنحدو، منشورات ضفاف، الرباط، ط 1، 216، ص 109
4 – أبوفراس جابر الصنهاجي، أحرقتُ مراكبي، مطبعة وراقة بلال، فاس، ط 1، 2022، ص 18
5 – نفس المرجع، ص 31 و32
6 – جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، العدد الثالث، مجلد 52، يناير- مارس 1997، ص 86