قراءات نقدية

زكية خيرهم: الإصرار والشجاعة..

حكاية جعفر التميمي من بغداد إلى الجائزة الملكية

في عالم مليء بالتحديات والفرص، تبرز بعض الشخصيات التي تتمكن من تحويل تجارب الحياة الصعبة إلى قصص نجاح تلهم الآخرين. إحدى هذه الشخصيات هو جعفر التميمي، الذي حقق نجاحًا ملحوظًا في النرويج، بعد أن قدم إليها كلاجئ حرب من العراق. رحلته من ضابط بحرية في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج تمثل قصة ملهمة عن الإصرار، التفاني، والقدرة على التكيف مع تحديات الحياة. وُلد جعفر التميمي ونشأ في العاصمة العراقية بغداد، حيث كانت عائلته جزءًا من المجتمع العراقي الذي تأثر بشدة بالحروب والأزمات السياسية. جعفر، الذي كان يمتلك طموحًا كبيرًا، التحق بالبحرية العراقية وأصبح ضابطًا بحريًا، حيث تعلم الانضباط والعمل الجماعي والاستراتيجية. حصل على فرصة للتدريب والدراسة في إيطاليا، مما وسّع آفاقه وعزّز من مهاراته القيادية. ولكن تغيرت الظروف السياسية بشكل جذري عندما غزا النظام العراقي الكويت في أوائل التسعينيات، مما أدى إلى اندلاع حرب الخليج. جعفر التميمي وجد نفسه مجبرًا على العودة إلى ساحات القتال، ولكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا، حيث تدهورت الأوضاع بشكل كبير وأصبح البقاء في العراق أمرًا مستحيلاً. في عام 1993، وبعد مرور عامين في مخيمات اللاجئين في السعودية، وصل جعفر التميمي إلى النرويج كلاجئ حرب. كانت بداية جديدة في بلد بعيد عن وطنه وثقافته، ولكن جعفر لم يدع الظروف تتحكم في مسار حياته. بدأ بتعلم اللغة النرويجية وعمل في مختلف الوظائف، من عامل نظافة إلى نادل، وذلك ليصبح جزءًا من المجتمع الجديد. مع مرور الوقت، لم يكن هدف جعفر التميمي فقط الحصول على عمل، بل كان يسعى لتحقيق تأثير إيجابي في المجتمع النرويجي. استمر في تحسين مهاراته وأخذ دورات تدريبية في القيادة والإدارة، مما فتح له أبواباً جديدة في حياته المهنية. في النهاية، وصل إلى مناصب قيادية في قطاع السينما، حيث شغل منصب المدير التنفيذي لـ"Oslo Kino".

لكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد. في عام 2016، تم تعيينه كمدير تنفيذي لشركة "Viken KollektivTerminaler FKF" (VKT)، وهي شركة مسؤولة عن إدارة وتشغيل البنية التحتية للنقل الجماعي في منطقة فيكن. تحت قيادته، شهدت الشركة توسعاً كبيراً في مسؤولياتها، حيث ارتفع عدد المحطات والمرافق التي تديرها من 18 محطة إلى أكثر من 2300 محطة ومرفق. قيادة النقل الجماعي بلمسة من الانضباط العسكري. تعكس مسيرة جعفر التميمي في قطاع النقل الجماعي فلسفته المستمدة من خلفيته العسكرية. فهو يؤمن بالعمل الدؤوب، الانضباط، والتخطيط الاستراتيجي لتحقيق الأهداف. تمكن من تطبيق هذه المبادئ في تطوير البنية التحتية للنقل الجماعي في النرويج، مما أدى إلى تحسين الخدمات وزيادة رضا المستخدمين. كان له دور كبير في تحديث محطة الحافلات في أوسلو، وهي واحدة من أكثر المحطات ازدحامًا في النرويج، حيث ساهم في زيادة كفاءة استخدامها وتحسين جودتها. الجائزة الملكية: تقدير للإنجازات. تقديرًا لإنجازاته البارزة في مجال النقل الجماعي، حصل جعفر التميمي على جائزة ملكية، وهي واحدة من أعلى درجات التكريم في النرويج. هذه الجائزة لا تعكس فقط نجاحه المهني، بل تمثل أيضًا اعترافًا رسميًا بمساهماته الكبيرة في تحسين جودة الحياة العامة من خلال تطوير خدمات النقل الجماعي. التزامه بالمجتمع والمستقبل. إلى جانب نجاحه المهني، لم ينسَ جعفر التميمي دوره كعضو نشط في المجتمع. يشارك بانتظام في أنشطة تهدف إلى دعم اللاجئين الجدد ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع النرويجي. كما يسعى جاهداً لتعزيز مفهوم التنوع والشمولية في بيئات العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال التميمي مرتبطًا بوطنه الأم. في زياراته للعراق، يحاول أن ينقل تجربته ومعرفته للسلطات المحلية، مشجعاً إياهم على اعتماد النماذج الناجحة للنقل الجماعي من أجل تحسين البنية التحتية لمدن مثل بغداد. جعفر التميمي هو مثال حي على كيف يمكن للإصرار والشجاعة أن يحولا التحديات إلى فرص. من ضابط بحرية شاب في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج، تمكن من أن يصنع لنفسه مكانة مرموقة بفضل عمله الجاد وإيمانه بأهمية العطاء للمجتمع. حصوله على الجائزة الملكية هو تتويج لمسيرته الحافلة ويعد شهادة على تأثيره الإيجابي الكبير في النرويج وخارجها. قصته ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي شهادة على قدرة الإنسان على التغلب على الصعاب وتحقيق تأثير إيجابي في حياته وحياة الآخرين.

***

زكية خيرهم

في المثقف اليوم