قراءات نقدية

عبد الباقي قربوعه: قراءة في عنوان "رؤوس ممسوخة" لغراب مسعود

في عرف سينما الرعب والإثارة يركز الكاتب على إتلاف واجهة الكائن الحي خصوصا الإنسان، أو يبتدع مخلوقا جديدا غير مألوف بين البشر، حيث يبدأ الشعور بالرعب انطلاقا من مفردات العنوان أو من كلمة مباشرة أو غير مباشرة واحدة مرتبطة بمتن أو موضوع الكتاب، عادة ما ينجذب المشاهد أو القارىء بمجرد ذكر فيلم رعب، حتى صار يكفي ذكر الرعب كدلالة ولا يهم بعد ذلك العنوان الرسمي الذي اختاره الكاتب للفيلم.

النفس البشرية لا تستأنس إلّا بما هو مألوف، وانطلاقا من هذه الظاهر النفسية على الكاتب أن يكون ذكيا ويلعب على خارج المألوف. فالبقرة مثلا حتى وإن رأت الإنسان ممسوخا فلا تلقي له بالا، أكيد ستعتبره مخلوقا مختلفا وكفى، حتى نحن البشر قد لا تشكل في أنفسها عملية إتلاف المخلوقات الأخرى أي رعب يُذكر، فقد نعتبرها نحن أيضا مخلوقات غريبة وربما نشك في وجوها كالمخلوقات الفضائية المزعومة، لكن الرعب هي تلك التعديلات السيئة التي يدخلها المخرج على السمات المألوفة على وجه الإنسان بالأخص، كتجمع بشري يحقق الأمن والطمأنينة والهدوء والاستئناس كلما تكاثر في ملامحه المشتركة المعهودة، هنا تحدث الإثارة بما أجاده مخرج فيلم الأموات الأحياء، مع أنه لم يمسخ الرؤوس بل ظهرت جماجم البشر في شكلها العادي، أمّا غير العادي فيها فهو أنها تتحرك فارغة من لحمها، وأحيانا مهدور متناثر ربما لأن بعضهم حديثي الدفن، وأحيان رؤوس بمحيطها الهندسية المعتاد يتقاطع من وجوهها الدم واللحم الحي، ويقصد المخلوقات البشرية التي أصيبت بالعدوى. الرأس كلمة عامة، نقول رأس الجبل، رؤوس الأصابع، رأس الخيط.. وكما عهدنا أن لكل شيء رأس، وهو ما يعلو الشيء بعكس القدمين في الكائنات الحية أو القاعدة عند الزواحف أو الجبل وكل المواضيع الجامدة.

قبل أن نبحث عن الدلالة العميقة للمسخ في الأدب العربي والأجنبي، وفي النصوص المقدسة: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)1. حتى في المواضيع والصور التي اعتادت أبصارنا على استقامتها واستواء مناظرها وأشكالها، دعنا نقف عند "رؤوس ممسوخة" كعنوان بحده هو ذاته ممسوخا لأنه لم يحقق الدلالة المرجوة منه، فلأن من الشائع أن نقول وجوه ممسوخة حتى نثير السؤال لماذا مُسخت هذه الوجوه وبُدلت عن سليقتها، مثلا لو أن الله غير من شكل هذه الفرقة المعاقبة مع الإبقاء على ملامح الإنسان في وجه القرد فهل كانت ستتحقق الإثارة ثم يظهر أثر العقاب بمعناه الكلي؟ أكيد يبدو السؤال حول تبدّل شكل الرأس مسألة مدهشة ولا هي مثيرة للرعب أيضا، وكموضوع منظور أكيد سيتغير الوضع النفسي لمن شدّوا على كراسيهم انتظارا للمفروض أنه فيلم أو قصة رعب، كما يقول الدكتور ".. كثيراً ما كانت المفردة ملتصقة بما يحتويه الكتاب من موضوعات، بحيث يكون العنوان مرآة لهذا الكتاب، وأعتقد بأن هناك كانت أسس قد تم الاتفاق عليها بين المؤلفين، وهي عدم خروج العنوان على متن الكتاب.."2.

لأن الرأس وإن عبثنا بشكله ومسخناه فلن يذهب بعيدا عن الأشكال الهندسية المألوفة، كأن نحوله من الشكل المستدير إلى مربع أو مستطيل مثلا، وهذا ما يشاهده الأطفال يوميا في أفلام الكارتون حيث لا يثير فيهم ذلك أي فزع بل تراهم يتابعون حلقاته بمتعة لا متناهية، كالشخصية الشهيرة بينهم المعنونة بـ"سبنج بوب" مثلا، مع أن واجهته مربعة ومحيطه مكعب، لكن الذي حافظ على استقرار وضعهم النفسي مع أنهم أسرع إلى الرعب هي ملامح "سبنج بوب" الطبيعية، ولو توفر عنصر العرب فيها لصادرتها منظمة حقوق الطفل، لكنه توافق مع ما يصفها كثير من النقادة والدارسين كتأثير بصري للعنوان من حيث هو دلالة على شكل هندسي أو معنى لغوي بسيط.

لكن الموضوع الأكثر عمقا الذي نطرحه في هذه القراءة هو التناول الحسّي المبدئي لمفردات العنوان كبوابة آخذة بالذهن إلى مضمون مرتبط بمحتوى النص القصصي أو الروائي، فالعنوان تترتب عنه شراهة لقراءة المضمون، فإن لم يفلح الكاتب في توفير هذه الميزة فأكيد سيحتم على القارئ التدخل بإمّا البحث عن مضمون آخر منساب للعنوان، أو التفكير في عنوان آخر مناسب للقصة أو الرواية أو البحث أو الكتاب ككل، وربما يحصره في دائرة من فساد المزاج ليهمل النص أو الكتاب بمجمله، فالقارئ مدعو دائما إلى الاستمتاع وليس للتفكير مع الكاتب لمراجعة ما قرر من عنوان ومضمون.

يبدو أن صاحب العنوان لم يكلف نفسه كثيرا من العناء بحثا عن عتبة أكثر دقة، سوى إسقاط كلمة رؤوس على وجوه التي اعتبرها مكرسة في أفلام وقصص مشابهة، فعتّب بها الكتاب لزوم الاختلاف الذي اعتقد أنه رحمة، ولا يدري أنه قضى فنّيا على العنوان بتجاهله إدارة فنون وأجناس المجاز في اللغة، وفنية التعامل مع المرئي سواء كان صورة متحركة أو صورة جامدة، الفكرة التي تطرحها نظرية الاليغوريا في إبراز بلاغة الصورة أو الفكرة: "صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي على معنى ظاهر وآخر خفي، كونها من المجاز السردي3"، بالمعنى الذي أشار إليه الباحث والمستشار في التسويق الرقمي الدكتور حسام جندل، ورغم أنه غير متخصص في الأدب إلّا أن المقولة أعجبتني لأتخذ منها مرجعية بخصوص جاذبية العنوان للدلالة على موضوع تجاري أو أدبي أو حساب أو موقع رقمي مما يتعلق بالحسابات والمدونات والصفحات الشخصية، لأن المعنى ينطبق كذلك على الكتاب حيث يقول: " إن الكلمات القوية هي مصطلحات تثير استجابة عاطفية ويمكن أن تجعل عناوينك أكثر إقناعًا. تستهدف هذه الكلمات مشاعر القراء، مما يدفعهم إلى النقر على محتواك بدافع الفضول أو الإثارة أو الخوف من فوات الأشياء (FOMO) أو محفزات عاطفية أخرى."

فكلمة رؤوس جعلت المعنى مشتتا وغير دقيق، فكل المخلوقات الحيّة على وجه الأرض، وكل المواضيع الموجودة في الكون وسائر الأشياء لها رؤوس، واختلاف أشكالها ومواضع حواسها من جماليات الكون وفسيفسائه، فهذا المعنى الكامن في أذهاننا هو الذي نسخ ما يمكن أن يتضمنه (رؤوس ممسوخة) من معنى، (إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ) يونس (6).

لاحظ أن ما ورد للإشارة إلى أنه تنوع عادي، فاختلاف جزئيات مكونات الكون حالة تجعلنا نستمتع، فالهندسة تثبت أن اختلاف أشكال المخلوقات مظهر جمالي، كما هو الحال في مظهر الخضر والفواكه، ففاكهة الموز مثلا ليست ممسوخة مقارنة بالتفاح، ورأس الحصان ليس ممسوخا كذلك الحال إذا ما قارناه برأس الأسد، وبناء على ما ورد في الآيات من معنى فإن الليل ليس ممسوخا مقارنة بالنهار الذي نحبه عادة في تعلّقنا المسطح به، فقط لأن أجدادنا أقنعونا بأنه مخيف حتى لا نتجرأ فنخر ونحن صغار فيفقدوننا، وربما من سوء حظ الليل حين اختاره اللصوص للتخفي والمخادعة، فماذا نقول عنه اليوم حين عرفنا أنه يصلح للسهر والمسامرة ولخوض الأعمال الشاقة تفاديا لحر الشمس، وأن اللصوص تخلوا عن ظلام الليل وصاروا ينفذون خططهم في وضح النهار، وكذلك لم يعد النهار وحده يساعدنا على قضاء حوائجنا الكثيرة، حيث كان الإنسان يظن أنه لا يمكن أن يدركها ويراها ويصل إليها في الظلام، إذن لا جديد ولا مدهش ولا مثير في العنوان "رؤوس ممسوخة"، والأصح وجوه ممسوخة لأن هذا المسخ هو الذي يوفر ويُراكم الغرابة والدهشة في مشاعر الآخر بناء على المقارنة التي تحدث سريعا داخل النفس، فإلى ماذا تريد الوصول وأنت تمسخ الرأس الذي عهدناه كرويا أإلى شكل مكعب مثلا، ما هو إذن المجهود المبذول في طرح عنوان يتمتع بوظيفة فنية مكتملة الخصائص والدلالات؟

كثير من البشر خلقوا برؤوس غير سوية، ولأن مساحة وجوههم مألوفة بيننا، ومواضع حواسهم متمركزة في أمكنتها الطبيعية لم نشعر اتجاههم بأي رعب، أو حتى حساسية معينة تجعلنا نراهم ممسوخين على رأي صاحب العنوان، الرسامون الكبار يعتبرون الأشكال الهندسية تأسيسا فنّيا للوصول إلى رسم رأس الإنسان، فيعتبرون رأس الطفل مثلا مستديرا بينما رأس الرجل مستطيل، وبعض الوجوه تأتي مثلثة، وهكذا ينصحون المبتدئين بالانطلاق من هذه الأشكال.

***

الكاتب الجزائري عبد الباقي قربوعه

..................

1- البقرة الآية: 65.

2- مجلة فرقد الإبداعية عدد: 01 أغسطس 2023م

3- الاليغوريا، ادارة دار التنوير العمانية تأريخ النشر: 26 /2/2019.

 

في المثقف اليوم