قراءات نقدية

محمد الصبان: توظيف التراث في مسرح الطفل عند "المسكيني الصغير"

من الأسئلة المهمة التي واجهت الدراميين العرب وهم بصدد البحث عن صيغة مسرحية عربية سؤال التراث، سواء باعتباره ثقافة عالمة أو أشكالا ثقافية شعبية مختلفة، ومنها الأشكال الماقبل مسرحية. فأية علاقة لمسرح الطفل بالتراث؟ وكيف تعامل المسكيني الصغير مع التراث في كتابة نصه المسرحي الموجه إلى هذه الفئة العمرية ؟ وما هي رؤيته لمسرح الطفل ؟ ولكن قبل ذلك أية علاقة للتراث بالفن المسرحي عموما؟

المسرح والتراث

2- 1إن علاقة التراث بالمسرح ليست علاقة مفترضة بل متحققة إبداعا وتنظيرا، سواء في المسرح اليوناني الذي نشأ في كنف الأساطير الإغريقية، وهي تراث استند عليه أغلب كتاب الدراما الإغريقية لصوغ رؤاهم والتعبير عن الانشغالات الفلسفية والوجودية والسياسية لمجتمعهم، أو في المسرح الكلاسي الذي استند مع كورنيه وراسين وغيرهما على تراث المسرح اليوناني، أو في المسرح الحديث الذي يتعامل مع التراث برؤية تحديثية مغايرة للرؤية الكلاسيةّ، بحيث نجد أن أكثر التيارات المسرحية ثورة على المعايير الفنية الموروثة تحافظ على بعض الصلات مع ذاكرة المسرح الغربي، إذ تسعى إلى تجاوز القوالب المبتذلة والمعيقة للإبداع، من غير أن تقطع أواصر العلاقة مع رحم الإبداع المسرحي، بحيث أنها تحقق مسعاها استنادا إلى قاعدتي التراكم والتجاوز، بمعنى أنها تحرر إبداعها من قيود التنويع على الأصل، لكي تكون أكثر وفاء للأصل، وأكثر انسجاما مع روح الإبداع.

إن "أنتونان أرتو" مثلا، وهو واحد من أكبر دعاة الثورة على المسرح الغربي حاول إرجاع المسرح إلى منابعه الصافية وتطهيره من "الدنس " الذي أصابه فتحول إلى مظهر من مظاهر التسلية. لقد اعتبر المسرح شكلا من أشكال الطقوس الدينية، التي تعبر عن صفاء العاطفة الإنسانية، بعيدا عن مظاهر " الثقافة" التي جعلت المسرح يرتدي أقنعة الزيف، فاختفت ملامحه، لذلك ينبغي أن يعود إلى كينونته الفطرية لأنه كان في بدايته الوسيلة التي عبر الناس من خلالها عن أحاسيسهم المنطق اللاشعورية – عن ماهية وجودهم الغامضة التي لا تخضع للعقل أو المنطق[1] .

2-2 وينبغي الانتباه إلى أن مسرح الطفل هو فرع من أصل الفن المسرحي عموما، ومن هنا فإن علاقته بالتراث لا تخرج عن هذا الإطار. و"كما في المسرح الموجه للكبار فإن مسرح الأطفال جعل من التراث الشعبي أحد المصادر التي استقى منها مؤلفو ومخرجو مسرح الطفل في العالم العربي مادتهم المسرحية[2]"، بل إن كاتب مسرح الطفل يجد في خزائن التراث كنوزا من الحكايات والنوادروالطرائف والسيروالأغاني والأزجال والحكم والعبر التي تلائم خيال الطفل، وتلبي حاجاته المعرفية والوجدانية المختلفة باختلاف المراحل العمرية للطفل . إن مسرح الطفل يتحول إلى ممارسة إبداعية فرجوية ذات أبعاد تربوية وتعليمية، تلتقط بعض اللحظات العابرة من التاريخ، أو القابعة في ذاكرة الشعوب، وتخرجها من دائرة العبورأو الظل، إلى دائرة الديمومة والحضور، بواسطة تعبير فني أدائي يعتمد على الكلمات والألوان والأضواء والأصوات والحركات والإيماءات، اعتمادا مشروطا بالخصائص المحددة لهذا النوع الفني، والمناسبة لنمو الطفل النفسي والجسمي والعقلي.

3- المسكيني الصغير ومسرح الطفل:

1- 3 يعد مفهوم مسرح الطفل من المفاهيم الإشكالية التي تتداخل في بنائه عدة عناصر تتعلق بالمجتمع والطفل والأدب وفنون العرض، فعلاقته بالطفل تتجلى في كونه مسرح يوجهه الأطفال للأطفال، أو للكبار، أو للجميع، أو مسرح يقدمه الكبار لجمهور الأطفال، أو مسرح يحمل مضامين تخص الأطفال بصرف النظر عمن يقدمه[3]. وتتجلى علاقته بالمجتمع في كونه يدخل في البنية العامة لثقافة المجتمع، نظرا لما يتضمنه من قيم ثقافية وحضارية تجعله وسيلة من وسائل التنشئة والإدماج الاجتماعيين [4]. وتتجلى علاقته بالأدب في كونه جنسا أدبيا له مكوناته ومرتكزاته الأدبية كباقي الأجناس الأدبية الأخرى من قصة ورواية وشعر ..أما علاقته بفنون العرض فتتجلى في ارتكازه على التمثيل وتوظيف كل العناصر المرئية والسمعية التي تستخدم في بناء العرض المسرحي.

ومن هنا يفترض أن يستحضر مسرح الطفل كل هذه العناصر المتداخلة دون أن يطغى عنصر على آخر، بمعنى أن التركيز على وظيفة التنشئة الاجتماعية لا ينبغي أن يؤدي إلى إهمال البعد الفني والوظيفة الفرجوية الترفيهية، فالنص المسرحي الموجه للأطفال يلتحم داخل نسيجه رهان الشكل الفني ورهان المحتوى الفكري المناسب للطفل المتلقي، بحيث أن الشكل والمحتوى الملائمين للطفل في الطفولة المبكرة، يختلف عن الشكل والمحتوى المناسبين للطفل في المرحلة المتوسطة أو المتأخرة. ويمكن القول إن مسرح الطفل يختلف باختلاف الفئة العمرية المستهدفة، فلكل مرحلة من مراحل النمو لدى الطفل طبيعتها وسماتها الخاصة، فالطفولة المبكرة تتميز بالتركيز على التقليد، والمرحلة الوسطى تتميز بالبحث عن الذات عاطفيا واجتماعيا، ومرحلة الطفولة المتأخرة بالدقة والتركيز والتسامح والتعبير عن إحساسات الطفل الداخلية، فيما تتميز مرحلة المراهقة بالبطولة والمغامرة[5].

وإجمالا يمكن القول إن مسرح الطفل هو مسرح موجه لجمهور الأطفال يتميز بسلاسة أسلوبه ووضوح حواره، يصور حكاية أو قصة مستمدة من التراث أو التاريخ في نص مسرحي قصير من أجل التسلية والتثقيف، وتربية الذوق الفني، ومساعدة الطفل على تنمية شخصيته وتحفيزه على اكتساب سلوكات نبيلة.

3-2 وإذا انتقلنا إلى المسكيني الصغير فإننا نجده يدرك إدراكا تاما أن الكتابة للطفل مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنها تتطلب امتلاك مهارات تمكن الكاتب من الفهم العميق للوظائف التربوية والفنية لأدب الأطفال.

وينبغي التذكير هنا أن المسكيني الصغير يحدد رؤيته لمسرح الطفل في انسجام مع تصور جماعة " المسرح الثالث " وفق معطيات الواقع الزماينة والمكانية والتاريخية، بحيث أن المسرح الثالث " يرى أن تعامله مع الزمان والمكان والتاريخ، نصا وإخراجا، ينطلق من عملية تحليلية وتركيبه في إطار البحث عن الزمان والمكان والتاريخ، انطلاقا من تصور النص في إطار تعامله مع الواقع الذي يرتبط بالمتفرج، وبالتالي يرتبط بطموحاته، بحريته وجودا، بثورته على القديم السلبي[6]"

إن المسرح في رأيه يفترض وجود حياة حضرية مستقرة وحضور " أشخاص .. جماعة..أمة وليس أفرادا معدودين يكتبون المعلقات"[7]. وبما أن العرب لم ينعموا بمثل هذه الحياة، ولم يعرفوا أساطير محبوكة البناء، ولا آلهة متصارعة، ظلوا مخلصين للتقنية الشعرية، مبهورين بألفاظها وأوصافها، بعيدين عن الحوار الذي يمكن اعتباره ركيزة الفن المسرحي. ومن هنا لا يرى المسكيني الصغير أي عائق يمكن أن يمنع من الاستفادة من المسرح الغربي، ومن شكله الجاهز الذي يمكن أن يكون قابلا للتطوير ومناسبا للتعبير عن وجداننا، فإذا كان " الجهاز التقني العالمي، لا يمكن نفيه، فمن حق المسرح العربي تطويره وتعريبه"[8]. فالأشكال الأدبية الغربية، في رأيه، ومجمل إنتاجات هذه الحضارة إنتاج إنساني، يحق للإنسانية جمعاء أن تستفيد منه، وتغنيه بالمساهمة في منجزاته، والإضافة إلى تراكماته، ليغدو أكثر تطورا ونضجا. وينطبق على الشكل المسرحي ما ينطبق على غيره من إنتاجات الغرب.

وإذا كان المسكيني ينفي وجود شكل مسرحي عربي، فإن ذلك لم يمنعه من الاستفادة من التراث العربي وتضمينه في أعماله المسرحية، ويمكن أن نشير، في هذا الصدد، إلى شخصيات من التراث العربي وظفها الكاتب في نصوصه المسرحية، مثل أبي العلاء المعري والخليفة المنصور بالله في مسرحية " الخروج من معرة النعمان " وشخصية عمر الخيام في مسرحية " عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية ". إن الكاتب وإن كان ينفي وجود تراث مسرحي عربي، فإنه يعي أهمية التراث الروحي والمادي في تشكيل الوجدان الجماعي، ومن هنا فهو يهتم بالفرد في هذه اللحظة التاريخية (الجمهور)، ويبحث عن كل ما يجسر العلاقة معه، خصوصا المادة التراثية التي يراهن عليها لمخاطبة متلقي نصوصه المسرحية(الجمهور)، وهوعنصر أساسي لا يمكن أن تتحقق الفرجة المسرحية بدونه. ولعل هذا الرهان هوالذي دفعه إلى الاستفادة من التراث العالمي (الشكل المسرحي الغربي)، والتراث العربي الإسلامي بشخصياته وحكاياته العربية التي وظفها المسكيني في نصوصه المسرحية، وبذلك انفتح على كل ما يمكن أن يحقق له إبداعا مسرحيا أصيلا، يخاطب عقل الجمهور ويعبر عن وجدانه .

3- 3 وانطلاقا من حرصه الكبير على مخاطبة جمهور خاص هو "جمهورالأطفال"، لجأ المسكيني إلى الكتابة للطفل مسلحا بتجربة غنية في التأليف المسرحي، ومستحضرا الأبعاد التربوية والرهانات المستقبلية والخصوصيات المشهدية لمسرح الطفل، بحيث أنه يعتبر الكتابة للطفل بمثابة رهان على المستقبل، لأن إهمال الدراما الخاصة بهذه الفئة العمرية سيؤدي إلى إهمال الطفل ومستقبل المسرح معا، ويُفقد المسرح المغربي في المستقبل "متلقيا متشبعا بإيواليات المسرح وجمالياته وتواصله كفن راق يختصر الحياة"[9].

ومن الواضح أن الأبعاد التربوية حاضرة عنده في مسرح الطفل، ويتجسد احترام هذا البعد في تقديم المضامين التعليمية والتربوية في نصوصه الدرامية بطريقة فنية، تحترم ذكاء الطفل وذائقته الفنية، بعيدا عن الخطابية الفجة والتلقينات الجافة المباشرة.

يقول المسكيني: " لن يتحقق اللقاء المسرحي المتميز إلا إذا ابتعد عن المفردات الكبيرة والجمل المقحمة، والتوجيهات المباشرة، والنصائح الباردة، والحكم المغلقة التي لا تثيراهتمام الطفل ..[i]وهذا ما يتطلب نهج أسلوب كتابة يراعي نمو الطفل من النواحي النفسية واللغوية، باعتماد السلاسة والوضوح والتنوع البعيد عن الرتابة والافتعال"[10].

ولتحقيق هذه الغاية لجأ المسكيني إلى التراث لأنه يدرك تأثيراته البالغة في بناء الشخصية والحفاظ على الذاكرة، بحيث تصبح شخصية الطفل بوثقة تلتقي فيها روافد الماضي (التراث) مع آفاق المستقبل (الطفل)ـ، لأن التراث في إحدى التعريفات هو انتقال الإرث الحضاري أو الثقافي للمجتمع من جيل إلى جيل، وكلمة التراث تعني لغة الميراث، أي كل ما يورث .

4- توظيف التراث في مسرحية "الطبل":

1-4: نجد في نص "الطبل" اهتماما واضحا بالتراث ليس بوصفه أحداثا أو حكايات مشوقة، يستند عليها الكاتب لبناء حكاية النص الدرامي فحسب، ولكن بوصفه رؤية توجه اختياراته الفكرية والجمالية.

إن حبكة هذا النص الدرامي تنسج خيوطها من الصراع بين الأصوات المحافظة على أصالة التراث، والأصوات التي تقع في شباك الاستلاب بالابتعاد عن القيم الإيجابية والنقط المضيئة في التراث الإنساني، وكأن الكاتب من خلال هذا العمل يوجه رسالة إلى الطفولة بطريقة فنية تتوسل إلى تقنيات التعبير المسرحي.

2- 4: يتكون النص من ثلاث لوحات متماسكة في بنائها تقدم حكايتها في صورة محكمة التشكيل، وفق منطق البناء الدرامي المتدرج: بداية ووسط ونهاية. في اللوحة الأولى نتعرف على الشخصية الحيوانية المحورية "ديكان"، وهو يعرض سلعته المستوردة "الطبل" الذي أقلق به راحة سكان "قرية الزيتون"، وأثار غضب زوجته "أم فرخون " المتذمرة من سلوكه بسبب نسيان صوته وإهمال مهمته السامية في مراقبة حركات الأفلاك والنجوم و الكواكب، لمعرفة دورة المواقيت والأزمان. كما نتعرف إلى شخصية "أرنبوط" المتميزة بقوة الإصغاء والانتباه والحذر وهي تؤنب "ديكان" على اهتمامه بالطبل وإهماله للصياح، وتحذره من أن يكون طبله سببا في الحروب، وتعرض القرية للغزو وأطماع الغرباء .

وفي نهاية اللوحة الأولى يتدخل حكيم القرية "ديكون " لتنبيه "ديكان" إلى خطورة الطبل التي تلقاه هدية من "ذئبان " وهي آلة دخيلة تهدد بالقضاء على تراث القرية ونضوب موهبة الصياح ونسيان العلم بالأوقات:

" ديكون: كان عليك أن تعرف بأن كل ثرثار وطنان أجوف لا قيمة له فوق الأرض ..إن سر النجاح في العمل هو الاعتزاز، بتراث القرية.

ديكان " سيدي ديكون .

ديكون: (يقاطعه) أنصحك، يا ديكان بإعادة هذه الهدية المسمومة إلى صاحبها .

ديكان: رحل...

ديكون: أحرقها إذن، قبل انتشار العدوى، وقبلما تفسد آذان القرية وعاداتها الجميلة..وتنسى علمك بالوقت والأيام.

ديكان: لا أستطيع يا معلمنا الكبير.

ديكون: أبلغك قرار أهل القرية، ستبقى وحدك إذا احتفظت به. لا أحد يحترمك ويقدر علمك.[11]"

لكن ديكون رفض قرار القرية وتشبت بالطبل مما أدى إلى تعقد مسار الحكاية وتوتر أحداثها.

وفي اللوحة الثانية نتعرف على شخصية "ذئبان" التاجر المحتال الذي عاد إلى القرية بعدما نجاحه في إخراس صياح "ديكان"، وأفقد الديكة القدرة على التمييز بين الأوقات من أجل السطو على ممتلكات أهل القرية، لكن حذر "أرنبوط" وقوة حاسة السمع لديها ستعمل على إفساد خطته، فتستنجد بسكان القرية الذين اكتشفوا سرقة عقود أرض"حيصون".

وفي اللوحة الثالثة يدرك "ديكان" أنه وقع في شرك "ذئبان" الذي أغراه بالطبل فنسي صوته الجميل ومهمته النبيلة، وعندماعاد "ذئبان" إلى القرية بقناع تاجر استغل "ديكان" فرصة عودته، فاحتال عليه وأعلم سكان القرية بحضوره باستعمال آلة الطبل نفسها:

ديكان: (يداعب طبله) كم كنت مشتاقا إلى رؤيتك حتى أسمعك عزفي، وأريك مهارتي.

ذئبان: لا تحاول .. فالوقت متأخر .. وقد نزعجهم.

ديكان: (للجمهور) هو الآخر يزعجه قرع الطبل، الآن عرفت معنى الطبل (يخاطبه) ولكن مهمتي ياصديقي هي الإخبار بالوقت، وبالضيوف الوافدين، ألست طبالا، حان وقت العمل !؟ (يضرب طبله)

ذئبان: (يوقفه) لا لا تفعل ..

ديكان: (يتابع ضرب الطبل بعشوائية)

(في هذه الأثناء يدخل ديكون، أرنبوط، فرخون أم فرخون، وحيصون .. حاملين هراوات)

جميعا: (بصوت واحد) السيد ذئبان، يلبس قناع تاجر هذه المرة !! "[12]

وهكذا تمت محاصرته، وقام فرخون بإخراج العقود المسروقة من كيسه، فكشفت مؤامرته ضد القرية التي كان يسعى إلى تدجين ديكتها وإخراس صياحهم الجميل. . و نجحت القرية في تحصين معارفها وحماية مواهبها باستثمار حكمة ديكون وحذر أرنبوط وتضامن جميع أهل القرية، واستمر صوت الديكة في الصياح، وبدأ فرخون رمز المستقبل في تعلم الصياح مستلما المشعل من الأصوات التي سبقته .

3-4: إن أحداث المسرحية تكشف عن الصراع بين الدخيل الذي يرمزإليه ب "ذئبان" المحتال وآلة الطبل الجوفاء من جهة، والأصيل الذي يرمز إليه بصياح صوت الديكة وحكمة "ديكون" من جهة أخرى. فإذا كان الأول يرمي إلى إخراس صوت الأصالة والإجهاز على عذوبته، فإن الثاني يرمي إلى الحفاظ على قيم الجمال والعلم والحكمة المتأصلة في قرية " الزيتون". وقد استفاد الكاتب في تشخيص هذه الرموز المجردة في نسيج النص من تقنية أقنعة الحيوانات التي تشرع أمام الطفل عوالم الخيال الممتعة.

إن الكاتب في هذا النص يعلن عن الانتصار لقيم النبل والجمال في التراث بصياغة درامية مشوقة تحفل بالمتعة والفرجة، وتبتعد عن الخطابية والمنبرية التي تجهل أو تتجاهل خصوصية التلقي المسرحي لدى الأطفال.

ويكشف هذا النص عن إخلاص الكاتب لرؤيته في الكتابة المسرحية في إطار جماعة المسرح الثالث التي تسعى إلى التوفيق بين الاستفادة من الشكل المسرحي الغربي واستلهام التراث العربي في صياغة مضمون النص المسرحي. إن الشكل الذي اختاره الكاتب يتوافق مع شكل المسرحي الغربي الخاضع في مجمله للضوابط الأرسطية سواء فيما يتعلق ببناء الشخصية، أو في تصوير الصراع الدرامي بين سكان قرية "الزيتون" و"ذئبان"، وفي اعتماد الفعل المركب القائم على التحول والتعرف، بحيث أن تحول "ديكان" من التشبث بالطبل إلى نقيضه كان نتيجة كشفه لحقيقة المحتال "ذئبان". كما أن مضمون النص جاء متوافقا مع واقع المتفرج " الطفل "، وملائما لما يحتاجه من ترسيخ لقيم التضامن والاجتهاد، وإعمال العقل وتقدير العلم والموهبة، ومن ثم لم تكن الحكاية الخرافية ذات مضمون سلبي شأن الكثير من الحكايات التراثية التي تتضمن قيما سلبية تؤشر على أن التعامل مع المادة التراثية تعاملا محفوفا بالمخاطر، وإلى هذا المعنى تحديدا يشير علاء جابر بكشفه عن المضامين السلبية لبعض الحكايات الشعبية مثل حكاية شهرزاد وشهريارالتي تقوم على عنصري الخيانة الزوجية، والسادية المتمثلة بالقتل اليومي، وحكاية علي بابا والأربعين حرامي التي تقوم على السرقة وخيانة الأخ لأخيه، وحكاية علاء الدين والمصباح السحري: التي تروج للسحر باعتباره الوسيلة المثلى لحل المشاكل والارتقاء الاجتاعي، وحكاية الشاطر حسن التي تعلي من قيمة الفردانية واستبدال الظلم بالسذاجة والغباء .[13]

إن الحكاية التي اختارها المسكيني الصغير لنصه تختلف عن هذه الحكايات، نظرا لتركيزها على مجموعة من القيم المناسبة لمدارك الطفل واحتياجاته، بحيث أنها تنتصر لقيم الجمال (جمال صوت الديك) والتضامن (تضامن أهل القرية لدرء خطر ذئبان) وتقدير العلم والموهبة (" ديكان" الفلكي الخبير بحركة النجوم و"أرنبوط" ذات الموهبة الفذة في اكتشاف الأخطار بواسطة حاسة السمع) وإعمال العقل (شخصية ديكون الحكيم)...

ومن دون شك أن المسكيني يبرهن من خلال هذا النص على إدراكه الواعي لشروط الكتابة للطفل، وما تتطلبه من مجهودات تراعي تفتح الطفل الجسمي والعاطفي والذهني، وتستشعر خطورة المهمة التي تستوجب التقديرالجيد لشروط التعامل مع المادة التراثية، لصياغة نص مسرحي يوفر الفرجة والمتعة والمعرفة، من غير أن يسقط في شباك المنبرية الفجة والخطابية المنفرة.

***

الدكتور محمد الصبان

كاتب وباحث في الصورة

..................

[1] جورج ولورث: مسرح الاحتجاج والتناقض . ترجمة عبد المنعم إسماعيل. المركز العربي للثقافة والعلوم بيروت ب ت ص: 39

[2] علاء الجابر: إشكالية توظيف التراث العربي في مسرح الطفل .انظر موقع ديوان العرب على الرابط:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?article15346l;ru

[3] مبارك ربيع، المسرح والتربية، أعمال الندوة الدولية المنظمة في شهر نونبر 88 كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني، ص:83/84 . نقلا عن بوشعيب لبنين المسرح والتربية مجلة آفاق تربوية العدد10 /1995 ص: 135

[4] سالم اكويندي، مسرح الطفل والثقافة المؤسسية (مسرح الطفل بين التدريس والتلقي)، مجلة آفاق تربوية لعدد10 /1995 ص: 135

[5] العربي بنجلون، مسرح الطفل بالمغرب الجذور والتأسيس / مجلة آفاق تربوية العدد5_6/ 1992. ص:195

[6] حول مفهوم المسرح الثالث.بيان . مجلة المدينة .العدد:6. ص: 82

[7] المسكيني الصغير. المسرح الاحتفالي ميزة المتفرج المغربي.مجلة المدينة .العدد:1 ص: 33

[8] المسكيني الصغير.المسرح الهاوي بالمغرب والخطاب الفكري.مجلة المدينة.عدد:6 .ص:29

[9] المسكيني الصغير . مقدمة ثلاث مسرحيات .منشورات المسرح الثالث للدراسات والأبحاث الدرامية.الطبعة الأولى 2003. ص: 5

[10] نفسه.ص:3

[11] نفسه. ص: 53_54

[12] نفسه .ص: 61

[13] علاء الجابر: إشكالية توظيف التراث العربي في مسرح الطفل .انظر موقع ديوان العرب. مرجع مذكور

في المثقف اليوم