قراءات نقدية
مراد غريبي: محنة الرواية الجريئة مع سلطة المعبد
شكلت الرواية المثال البارز لكيفية استيعاب الأدب العربي للأشكال والأنماط الأدبية العالمية وإعادة تشكيلها لتعكس الهوية والتجربة العربية. وهذا الاستيعاب يمثل عملية تحويلية عميقة تجاوزت الأشكال لتشمل الأساليب السردية والموضوعات الجوهرية، مما يكشف عن مخاض ثقافي عميق وغني..
لكن هل استطاعت الرواية في مجتمعاتنا العربية أن تتجاوز سطوة التمويه الثقافي والترويض الاجتماعي؟
البارز أن إنساننا العربي منذ طفولته يستقبل جرعات ثقافية من مجتمعه عبر إيحاءات في مسائل العقائد والأخلاق والأعراف من خلال خطاب الفقه المقدس... بحيث يكون موجها توجيها أيديولوجيا فلا يستطيع أن يرى الواقع أو يفكر إلا من خلال ما يراد له أن يتفاعل وفق مسطرته، هكذا عرف المجتمع العربي عدة غزوات ضد الرواية منذ القرن الماضي، وإلى يومنا هذا لا تزال الرواية في نظر الفكر الظلامي مهددا لعقائد الناس وهوياتهم الدينية وأخلاقهم لا لشيء إلا لكونها تنتج خارج صندوقه ...
لقد عانى نجيب محفوظ ويحي حقي وحيدر حيدر و طاهر وطار، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، وعلاء الأسواني، يوسف زيدان، من سياط وتسقيط وتكفير بوليس المعبد الذي لا يعترف أساسا بشيء اسمه الرواية، فضلا عن أن يبذل جهدا لقراءتها- والعياذ بالله- لكتابتها، الرواية ليست نسخا للحيل الفنية على شاكلة الحيل الشرعية، الرواية الجريئة المؤثرة والمجددة للوعي الثقافي العام هي تعبير عن الاختلالات العميقة في البيئة الاجتماعية، بل هدفها الأول والأخير كشف حقائق الواقع التي تمس حياة الناس بشكل كبير وعميق وجوهري، فالرواية في الأدب العربي تعد بمثابة نافذة عميقة على الذات والمجتمع والجزء المغموس العميق من الواقع، الذي تستمد منه المشاكل والأزمات والصراعات والنكسات والانحرافات قوتها وحيويتها المستدامة في مقابل حلم التنمية المستدامة... لقد سمحت الرواية بتجسيد تجارب شخصية وجماعية معقدة فكانت الرافعة لاستنطاق القضايا الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية المسكوت عنها أو المتغافل عنها ..
هذا على صعيد راهن الرواية العربية المميزة بواقعيتها وجديتها وجرأتها وصناعتها للوعي المدني والحضاري، وما يرتبط بالأفكار والتصورات في المشهد الثقافي العربي العام، ذلك كله ينسحب على كل شيء تقريباً في يومياتنا من طنجة إلى مسقط، وتحديدا عندما تصبح القراءة بالمشاعر والأحاسيس والعواطف؛ لا يمكن للرواية أن تمتد في جغرافية الثقافة العملية للمجتمع فعلياً، لأن الواقع تحت تأثير خطاب التخوين والتفسيق والتكفير الذي جعله يجهل سبيل الخلاص، فيقرأ وفق مسطرة المعبد وإلا يكون من المغضوب عليهم والضالين...
لا ريب أن رواية (هوارية) للكاتبة إنعام بيوض أصبحت مثار جدل مفتعل وصخب شعبوي لا يجيد سوى التطير والهرج والمرج، بل هي ضحية موجات عمى البصيرة كما عبر الروائي واسيني الأعرج، والجميع حتى من انتقدوا الرواية ومن ركبوا موجة التشهير والتسقيط لم يقرأوا الرواية إما تماما أو بكليتها بل اكتفوا بتوسيع دائرة التشهير والمحاكمة على الطريقة البيزنطية أو بتسليط الأضواء على نقاط سوداء بارعون في انتقائها من كل النتاجات الإبداعية الأدبية والفكرية والثقافية، والعجيب أن غالبيتهم لا علاقة له بالأدب والرواية ومقتضياتها بل همه اليومي الكتب الصفراء والتشنيع والتضليل الإعلامي والتنويم الثقافي، وكما هو متفق عليه العقل الفردي يغيب تماماً في العقل الجمعي ويذوب فيه، في مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً نلاحظ أنه يكفيك أن تطلق شائعة وتزينها بصورة أو فيديو مفبرك، حتى يأتيك سيل جارف من القبح الثقافي والاجتماعي الذي يتحدث عن الأخلاق ولا يحترم حريات الآخرين ويتحدث عن العفة وهو غارق في الرذيلة، وينصب نفسه فارس النقد المغوار و هو لا يتقن أبجديات القراءة والكتابة، بل هناك من هؤولاء القوم من لا يلتفت أو يتغابى باستخدامه لأكثر الأدوات والتعبيرات سذاجةً وقبحاً وظلماً للآخرين. على الأقل إن كنت فعلا ناقدا للرواية ومنصفا لذاتك ومجتمعك ودينك، لابد أن تكون منصفا في حجاجك، إلا أن هنا بالضبط تكمن خطورة الأمر؛ أن سيل الانتقاد لأي عمل أدبي أو فني أو فكري يمكن أن يكون مفيداً فهو كذلك قد يكون مميتاً وقاتلاً للإبداع وأصحابه وللسلام والتنمية والكرامة الإنسانية في نفس الوقت، بحسب أوعية وقنوات تصريف وتوجيه الثقافة في المجتمع..
الطبيعي والموضوعي والأخلاقي أنه من لم يقرأ رواية ما أو كتابا أو قصة أو مقالة أو عن موضوع ما، لا يحشر نفسه فيما لا يعنيه، ولا يركب بحرا عميقا لا يمكنه أن يصمد أمام موجاته الفكرية والثقافية، وصدق واسيني الأعرج حين كتب- كما ورد بموقع العربي الجديد- بحسابه على فيسبوك: اقرؤوا النصوص جيّداً قبل تسليط ساطور عمى البصيرة عليها..
أخيراً..
الأخلاق الحقيقية تبدأ من الصدق مع الذات ومعرفتها حق المعرفة والتحرر من أي ترويض ثقافي يكون الإنسان خاضعاً له في أدق تفاصيل حياته الخاصة والعامة ... والرواية الجريئة هي تحرير الوعي من سجون الاستعباد الثقافي والتجهيل الممنهج وتمويه حقائق الواقع تحت غطاء الوصاية الفكرية والدينية والثقافية الاجتماعية... قبل هذا وبعده الرواية ليست قرآنا، لها ما لها وعليها ما عليها، الأمثل أن تجادل بالتي هي أحسن وليس بخنق الحريات والإبداع...قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
***
بقلم: أ. مراد غريبي