قراءات نقدية
طارق الحلفي: "حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء" (1)
كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع الخمس الأولى:
القسم الأول: متعة القراءة..
الديباجة:
(1)
" قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ
مِن ألْفِ بابٍ، كُلُّ بابٍ ألْفُ لَوحٍ
هل قرأتَ؟
سمعْتُ عنهُ وجئْتُ أصعَدُ
كيْفَ تَصْعَدُ، لا سَلالِمَ؟
عُدْ إلى (اللوحِ الكتابْ)
وأينَ ذاكَ؟
عليكَ وحدَكَ أنتَ أنْ تَجِدَ الجوابْ"
** يكشف هذا المقطع الشعري عن عمق فلسفي ورمزية كثيفة تجعل منه نصًا يتجاوز المعنى الظاهري ليغوص في مجاهل الفكر والوجود. فالقصيدة تنطلق من استعارة مهيبة تتجلى في "اللوح الكتاب"، حيث تتداخل المفاهيم الصوفية والمعرفية ضمن نسيج لغوي محكم. إنّ استخدام "ديباجة اللوح الكتاب" يلمّح إلى فكرة الأزلية والمقدّس، وكأنّ الشاعر يستدعي معنى اللوح المحفوظ أو سفر المعرفة الكبرى الذي يضم أسرار الكون.
يبدأ النص بتوكيد أنّ هذا "اللوح الكتاب" يتفرّع إلى "ألف باب"، وكلّ باب يحوي "ألف لوح"، مما يكرّس مفهوم اللانهائية في المعرفة، إذ لا حدّ للبحث ولا نهاية للسؤال. وهنا نلمح بعدًا فلسفيًا وجوديًا، فالإنسان كائن تائه في مسارات لا متناهية من الإدراك، وعليه أن يواصل التسلق رغم انعدام السلالم، أي دون أدوات جاهزة أو طرق ممهّدة، وهذا انعكاس لمعاناة البحث عن الحقيقة في عالم غامض.
"كيف تصعد، لا سلالم؟"
يأتي هذا التساؤل ليؤكد استحالة بلوغ الحقيقة عبر الوسائل التقليدية، فالحقيقة ليست شيئًا يُمنح، بل هي معراج داخلي، ومسيرة ذاتية على الباحث أن يخوضها بنفسه. وهذا يبرز البعد الإنساني العميق في النص، إذ يشير إلى التجربة الفردية في السعي نحو المعرفة، حيث لا دليل ولا مرشد، بل على الإنسان وحده أن يجد طريقه.
ثم يأتي ختام المقطع بعبارة توجيهية أشبه بتحدٍ وجودي:
"عليك وحدك أنت أن تجد الجواب"
إنّ هذا المقطع يعكس فلسفة الحرية والمسؤولية الفردية في اكتشاف الحقيقة، وكأنّ الشاعر يضع القارئ أمام مرآة ذاته، حيث لا يوجد جواب مُعطى، بل على الإنسان أن يحفر في وعيه، ويتبع نداءه الداخلي في رحلة لا تنتهي.
النص يوظّف الرمزية بذكاء، فاللوح يمثل المعرفة، والسلالم تمثل الوسائل، وانعدامها يرمز إلى صعوبة الوصول إلى جوهر المعنى، وهذا يحمل أبعادًا دينية وصوفية، إذ يذكّرنا بتجارب العرفاء الذين وجدوا أن الحقيقة ليست في الكتب بل في المجاهدة الروحية. كما أنّ الأسلوب الحواري يمنح النص بُعدًا دراميًا، إذ يتجلى الصراع بين الحائر والسائل، بين من يبحث ومن يواجه الفراغ.
ان هذا المقطع ليس مجرد تأمل شعري، بل هي دعوة لرحلة فكرية وروحية، تضع الإنسان في قلب تجربة البحث، بلا دليل سوى ذاته، وبلا خارطة سوى وعيه المتنامي.
البرج والشاعر:
(2)
"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ
مِن كتابِ اللوحِ
قالَ: البُرجُ بُرْجي
صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً
وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ
فانتَحَلَ القصيدهْ
وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى
طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"
** ينبثق هذا النص من عمق فكري يجمع بين البعد الرمزي والطرح الفلسفي، في تجلٍّ شعري ينحت المعاني بأسلوب مكثف، يعكس صراع المبدع مع السلطة، والمعرفة مع الطغيان، والحقيقة مع التزييف.
"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ / مِن كتابِ اللوحِ"
يستهل الشاعر بمشهد يوحي بالرصانة الهندسية والصرح المعماري المتقن، حيث يمتزج البناء المادي مع البناء الفكري، فالقرميد يرمز للصلابة والثبات، فيما "كتاب اللوح" يلمّح إلى المعرفة المطلقة، وكأنّنا أمام نص مقدّس أو دستور للوجود.
"قالَ: البُرجُ بُرْجي / صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً"
هنا تتجلى الذات الإبداعية، حيث يعبر الشاعر عن اعتزازه برؤيته الخاصة التي تتخذ شكل برج شاهق، بفضل خياله وتطلعاته.، او رمزًا للمعرفة والطموح الإبداعي. فالبناء هنا ليس حجريًا فقط، بل هو بناء فكري تتجسد فيه قمة الفكر والإبداع، وكأنّ الشاعر ينحت وجوده في فضاء لا محدود.
"وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ / فانتَحَلَ القصيدهْ"
يتحول المشهد من البناء إلى الصراع، حيث يظهر "النمرود"، الرمز الأسطوري للطغيان، ليغتصب القصيدة، أي الفكر والإبداع. هنا يستحضر الشاعر إشكالية سرقة الفكر، حيث يستولي المستبد على إنجازات المبدعين وينسبها لنفسه، تمامًا كما استحوذ الطغاة عبر التاريخ على منجزات الحضارات وألحقوها بأسمائهم.
"وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى / طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"
هنا يصل النص إلى ذروته الرمزية، حيث تُمحى هوية الشاعر الحقيقي، ولا يبقى من أثره إلا ما سمح به الطاغية، أي ما يتوافق مع شخصه وسلطته. وهذه صورة بليغة عن تشويه الحقائق عبر التاريخ، حيث يُمحى الأصل ويُستبدل بظل السلطان. ولكن، وبلمسة رؤيوية حصيفة يزيح الشاعر/ جمال مصطفى هذا الادعاء، ليرفع المهندس/ المعمار فوق النسيان. فـ " طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه" هي بصمة يد المعمار، الفطنة والمبدعة، التي حفرت روحها في كل لبنة ونقش، فـ (الهاء في اصبعه تعود على المبدع).. صحيح الطغاة يسرقون الأسماء، لكن الصحيح أيضا انهم يعجزون عن سرقة الإبداع، يطمسون الحروف، لكنهم لا يملكون محو البصيرة. هكذا يبقى الفن شاهداً على صاحبه، عصياً على الطمس، منتصراً على كل ادّعاء.
النص يحمل أبعادًا إنسانية وفكرية ورمزية عميقة.. يعكس مأساة الفكر الحر أمام السلطة المستبدة، كما يمثل، ضمنيًا، نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا.. يعكس معاناة الفكر الأصيل الذي يُنتزع ليصبح جزءًا من قوى الهيمنة، حيث يتقاطع مفهوم "النمرود" مع طغاة التاريخ الذين واجهوا النور بالظلام. إنه نص مكثف، يمزج الفلسفة بالتاريخ، والرؤية الفردية بالهمّ الإنساني، ليترك القارئ أمام تساؤل وجودي: هل تبقى الحقيقة شامخة رغم محاولات الطمس؟
القصيدة كالبرج
(3)
"ومِنَ القصيدةِ:
حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ
أجملُ الحُجُراتِ
في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ
بَلْ تُسَمّى
ومِن القصيدةِ:
إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ
وَلَمّا"
** يستبطن هذا المقطع الشعري بعدًا فلسفيًا وجماليًا عميقًا، حيث تتداخل الصور الرمزية لتُشكّل رؤية متكاملة حول الزمن والإبداع والاكتمال. يتماهى "البرج" مع "القصيدة"، فيصبح البناء المعماري كيانًا حيًّا، لا يتجلى في صلابة الجدران فحسب، بل في مرونة المعنى وانفتاح الدلالة.
"حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ"
يفتتح النص بحوار يضفي بُعدًا دراميًا، حيث يدعو "قرميدو" إلى التريث أثناء الصعود. وكأنّ الشاعر هنا يرسم فلسفة التأمل والتروي في السعي نحو القمم، ليؤكد أن الوصول ليس مجرد حركة مادية، بل تجربة وجودية تحتاج إلى وعي وانتباه.
"أجملُ الحُجُراتِ / في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ / بَلْ تُسَمّى"
هنا تتخذ اللغة بعدًا صوفيًا، إذ إنّ الحُجرات الأجمل ليست مُرقّمة، أي أنّها ليست خاضعة للنظام الصارم أو القواعد الجامدة، بل تحمل أسماء، مما يمنحها بُعدًا إنسانيًا وتاريخيًا. وكأنّ الشاعر يشير إلى أن الجمال يكمن في التفرد، لا في التصنيف، وأن الإبداع لا يُختزل في أرقام، بل في هوية وذاكرة حيّة.
"إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ / وَلَمّا"
هنا تبرز ذروة الرمزية، حيث يشبه البرج بالقصيدة، في إشارة إلى أن كلاهما عملية ديناميكية تتأرجح بين الاكتمال واللاتمام. فكأنّ القصيدة لا تكتمل أبدًا، لأن المعنى يبقى مفتوحًا، وكذلك البرج، إذ لا ينتهي بناؤه طالما أنّ الوعي يتجدد.
النص يفيض بجمالية لغوية أخّاذة، حيث يتناغم البناء المادي (البرج) مع البناء المعنوي (القصيدة)، ليجعل منهما صورة واحدة للحياة والتجربة الإنسانية. إنه نص يطرح أسئلة أكثر مما يمنح إجابات، ويدعو القارئ إلى رؤية الجمال في اللامتناهي، وفي المساحات التي لا تُقاس بالأرقام بل بالأسماء والذكريات.
قَرْميدو وإقصيدو
(4)
"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟
سيّانِ
قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ
مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"
** ينسج هذا المقطع الشعري فضاءً فكريًا تتماهى فيه المعمارية بالشعر، ليقدّم رؤية فلسفية حول طبيعة الإبداع والاكتمال. يتلاعب الشاعر بالمفاهيم ليجعل البرج والقصيدة وجهين لحقيقة واحدة، مما يفتح المجال أمام تأويلات متعددة حول ماهية الجمال وبنية الخلق.
"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟ / سيّانِ"
يستهل الشاعر بسؤال جوهري، لكنه سرعان ما يلغيه بالمساواة بين البرج والقصيدة، وكأنّه يؤكد أن البناء المادي (البرج) والبناء اللغوي (القصيدة) ينبثقان من الروح ذاتها، كلاهما فعل إبداعي يحمل طابعًا هندسيًا في ترتيبه وتنظيمه. فالمهندس والشاعر صانعان للحضارة، والأثر الذي يتركانه يتجاوز حدود الزمن.
"قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ / مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"
هنا تتجلى لعبة الأسماء، إذ يمنح الشاعر "قرميدو" وإقصيدو" دلالة رمزية عميقة، حيث يدمج عالم الهندسة (قرميدو من القرميد، رمز البناء) بعالم الشعر (إقصيدو من القصيدة) ، في صورة تمزج بين المادة والروح، الواقع والتجريد. كما أن استخدام "الألقاب الحسنى" يحيل إلى بعد صوفي، حيث تتعدّد تجليات المبدع مثلما تتعدد أسماء الجمال المطلق.
هذا المقطع القصير يُكثّف فيضًا من التأملات حول جوهر الإبداع، إذ يرى في الفن المعماري والشعر عملية خلق متكاملة، لا فرق بين حجر يُشاد وكلمة تُبنى، فكلاهما يمنح الإنسان معنى للوجود، وكلاهما يعبر عن توق الإنسان نحو الخلود.
القصيدة كقميص
(5)
"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ:
البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ
وَهْيَ تَمْشي عاريَةْ
.......................
البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ
قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ
لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ
إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"
** يمثل هذا المقطع الشعري تأملًا عميقًا في العلاقة الجدلية بين المادة والروح، بين البناء الفيزيائي والتجريد الشعري، حيث تندمج الصورة المكانية (البرج) بالصورة اللغوية (القصيدة) لتصوغ رؤية فلسفية حول الإبداع والصراع بين الثبات والتحول.
"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ: / البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ / وِهْيَ تَمْشي عاريَةْ"
في هذه الصورة المدهشة، نجد إسقاطًا مجازيًا بديعًا، إذ يُشبَّه البرج بالقُمصان التي تُلبس القصيدة، وكأنّ البناء يحاول أن يمنح للكلمة شكلًا ماديًا، أن يكسوها بملامح محسوسة، لكنّ القصيدة بطبيعتها كيان متحرر، لا تقبل التقيد، فتمشي "عارية"، أي خالصة في تجريدها، بلا أثقال الزمن ولا قيود الجدران. هنا تتبدّى فلسفة التجريد والجمال المطلق، حيث تكمن قوة الشعر في هشاشته، تمامًا كما تكمن متانة المعمار في صلابته.
"البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ / قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ"
هنا تنعكس العلاقة بين الكيانين، فبينما كان البرج يمنح القصيدة لباسًا، نجد القصيدة الآن تهدد البرج، وكأنّ الفن المجرد يمكن أن يفتك بالمادة، أن يزلزل الثبات، أن يجعل الصرح المعماري بلا روح، فيموت رغم صلابته. هذه ثنائية عميقة تُذكّر بصراع الإنسان مع الخلود، حيث يبقى الإبداع متجاوزًا للحجر، لأن الكلمة تدوم حيث ينهار البناء.
"لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ / إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"
هنا يصل النص إلى ذروته الفلسفية، حيث يؤكد إقصيدو أن النزول ليس مجرد هبوط، بل هو هاوية، إنه ليس عودة إلى الأرض، بل سقوط إلى العدم. وكأنّ الصعود، سواء كان ماديًا أو فكريًا، هو السبيل الوحيد للنجاة من الفناء. هذا المعنى يكتنز بعدًا صوفيًا، حيث يصبح الارتقاء رمزًا للبحث عن الحقيقة المطلقة، فيما يُصبح التراجع انحدارًا نحو النسيان والضياع.
هذا النص يفيض بالدلالات الرمزية، حيث يتجلى الصراع الأزلي بين الثبات والتغير، بين الملموس والمجرد، بين البناء والهدم، في لغة مكثفة عميقة، تجعل من البرج والقصيدة كائنين يتصارعان في فضاء الوجود، وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة، لا تكتمل إلا بصراعهما الأبدي.
***
طارق الحلفي – شاعر وناقد
.................................
* [قيل، أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه: «إدعوا لي أخي» فدعي.. ثم دعي.. ثم دعي.. ثم دعي علي بن أبي طالب، فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده، قيل له: ما قال؟ قال:» علمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب».]
* يشير جمال مصطفى في أحد تعليقاته على انه " حاول جعل الأسماء على وزن إنكيدو صديق جلجامش "
* رابط المدخل
www.almothaqaf.com/readings-5/979452
* رابط القصيدة
www.almothaqaf.com/nesos/971491