قراءات نقدية

كمال الساكري: قراءة نقدية في رواية ابن العاقر للكاتبة زهرة الحواشي

(إن الكتابة لم تعد كتابة مغامرة وإنما صارت مغامرة كتابية).. جان ريكاردو(1932-2016):منظر الرواية الجديدة

يبدو لي أن أفضل مدخل لمقاربة رواية الاديبة والكاتبة والشاعرة باللغتين والترجمان زهرة حواشي  هي زاوية الخطاب في روايتها ابن العاقر. كيف حكت لنا قصة هذه العاقر؟ هل كانت مجرد سارد يروي مغامرة بإمكان أي إنسان أن يرويها ولا تميز إلا للمغامرة  أم أن الأديبة واعية بمغامرة الكتابة الروائية وما تقتضيه من إبداع يستلزم الإلمام بشرائط الحكي من خلال مسرحة الاحداث وعرضها لا قولها وسردها.

أولا: التقديم المادي والمعنوي

1: التقديم المادي

ابن العاقر رواية للكاتبة زهرة الحواشي. تقع في مائة وتسع وثلاثين صفحة. الطبعة الأولى بمطبعة الثقافية المنستير/ تونس.

2: التقديم المعنوي

أ- منطق الرواية:

جمعت ابن العاقر بين اسم الرواية وخصائصها من حيث موضوع عقر امرأة اسمها ربح وولادتها بعد تزوجها ثانية وما اكتنف مغامرة ربح الاجتماعية والوجودية حتى حبلت وولدت من جهة وشكل المسرحية وفصولها وهي بعدد خمسة هنا وعروضها من جهة أخرى.

إن العقرمشكلة اجتماعية صحية نفسية يمكن أن تكون رمزا للجفاف والجدب والمحل وكيف يمكن التغلب عليها بالصبر والحب والتسامح ذلك أن العقر ليس هو العقم...

ب- الشخصيات وعلاقة بعضها ببعض:

تزدحم الرواية بالشخصيات ويمكن تقسيمها حسب وظائفها حسب نماذج فلاديمير بروب والتي اختصرها غريماس (الجيرداس) في ثلاث علاقات الرغبة بين الذات والموضوع والتواصل بين المرسل والمرسل إليه والصراع بين المساعد والمعارض.

* الرغبة: رغبة ربح بنت الضاوي في الإنجاب من ابن عمها زوجها وحبيبها  لكن تلك الرغبة  منيت بالفشل. فكان تطليق زوجها لها. ثم تعلق ربح بالإنجاب دفعها إلى المغامرة بزواج ثان وتربية ربيب لها رضيع أحبته حبا جما وتمنت الحمل فكان لها ما أرادت.

* الصراع: لربح أحباء كثيرون أبوها الضاوي وأمها فاطمة وأخواتها زمردة وتبر وابن عمها زوجها الأول وعلي بلخمري زوجها الثاني والناجي ربيبها من أمينة زوج بلخمري الثانية وعمر ابن بلخمري من زوجته الأولى...ولربح باعتبارها الشخصية المحورية أعداء قليلون جدا أولهما العقر وثانيهما زوجة عمها أم طليقها التي يبدو أن لها يدا في عدم إنجاب ربح. ولم يكن الصراع قويا ولا متجسدا بل كان صراعا خفيا يدور في النفوس والأذهان أكثر منه متبلورا في الواقع والعيان.

* التواصل حوار بين ربح وأبيها وأمها وأخواتها ثم زوجها علي بلخمري وهو حوار تفاهم وتعاون وإمتاع ومؤانسة. فكثيرا ما كان الضاوي يغني لربح وكثيرا ما كانت ربح تغني للناجي وكثيرا ما غنت ربح في الأعراس وأمتعت وشتفت..

لكن الحوار يكاد يختفي بين ربح وحماتها زوجة عمها وبينها وبين ربح وطليقها حتى أن أسماءهما لم يذكرا فكان التواصل تسمية للشخوص وتكنية للوجود واستمتاعا بالحياة من ناحية وكان عدم التواصل ذكر لبعض السمات أو الصفات وسكوت عن الكلام المباح وإعدام لذكر ذوات من ناحية أخرى.

تبدو القصة المغامرة قصة عادية لا أهمية كبرى لها فليس فيها مخاطرات ولا أخطار ولا غرائب تشيب لها الولدان ولا عجائب تسحر الوجدان بل حكاية تكاد تكون عادية هذه الأيام ولكن ما الذي قد يجعلها رواية إبداعية ذات خصال وشأن؟

ثانيا: الخطاب الروائي

ونعني به الطريقة التي بواسطتها يجعلنا الراوي او الراوية نتعرف على أحداث القصة المغامرة.

وينقسم إلى مستويين المستوى التركيبي النحوي والمستوى الدلالي.

I. المستوى التركيبي النحوي

ويتكون من الزمن أي علاقة زمن القصة بزمن الخطاب وعلاقته ببناء النص ثم صيغ الخطاب أو السرد وتتحدث عن العلاقات بين الخطابات وكيفية اشتغالها( خطاب مسرود –معروض – منقول) وأخيرا الرؤية السردية أو التبئير أي الراوي وعلاقته بالسردي بوجه عام.

انبنى عنوان الرواية على المفارقة. فمن جهة ربح عاقر لما تنجب ومن جهة أخرى ابنها الناجي ربيبها الذي اتخذته ابنا ثم ابناها اللذان أنجبتهما من صلبها أي غير عاقر. فالقانون الذي يحكم هذه الرواية مبدئيا المفارقة والتباين وعدم الاتفاق أي الاختلاف. فهل ينطبق هذا القانون على بقية جسم الرواية؟ وما قيمته الفنية في تحقيق روائية الرواية وأدبيتها؟

1- الزمن:

لا توجد مطابقة بين الزمن التاريخي والزمن الروائي. فالرواية تنطلق أحداثها من فترة ما بعد طلاق ربح من ابن عمها وهي خمسينية . "ربح بنت الضاوي امرأة قمحية البشرة ...تلك الفتاة القادحة نشاطا ...تزوجت وكان عمرها ثلاثة وعشرين سنة من ابن عمها وعاشت معه ما يزيد عن عشر سنين  ولسوء حظها لم ينجبا..." (زهرة الحواشي، ابن العاقر(رواية) ، ط 1، مطبعة الثقافية بالمنستير، 2023، ص 7). ونضيف مدة الطلاق حوالي07 سنوات لتصبح مع انطلاق القصة خمسينية. بينما التسلسل التاريخي يفرض البداية من الولادة ثم النشأة والطفولة والشباب ثم الزواج والطلاق بسبب العقر ثم الزواج والإنجاب وخاتمة القصة.

لذلك اعتمدت الساردة التضمين والتسلسل والتناوب.

*التضمين: القصة الأم مغامرة ربح بنت الضاوي. تنطلق الرواية من حدث توقف ربح عند حالها وقد شارفت الخمسين وبدأت تيأس من الزواج والإنجاب فتتذكر صباها السعيد مع والديها ومعاناتها في زواجها الأول وطلاقها ومرارة عيشها اليوم تذكر الراوية:" بقيت ربح مع والديها واستمر بها كابوسها وقتا طويلا ثم تتكلم ربح " علاش مخاليق ربي الكل تولد من البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة...لا نفعت معاي قوابل لا عزامة...توة أيست وبرد قلبي على الصغار" (زهرة الحواشي، ابن العاقر، ص 12).

*التسلسل: تندفع الأحداث أحيانا متتابعة في الزمن متسلسلة تسلسل التاريخ. تنطلق الأحداث إلى الأمام متسلسلة منذ إخبار زمردة أختها ربح بوفاة أمينة زوجة علي بلخمري وحثها على قبوله زوجا إن تقدم لها لتبدأ قصة الزواج بين الرفض فالتمنع فالقبول مرضعة لابنه فزوجة فمنجبة. وطبعا تتخلل هذه القصة الاجتماعية فالعاطفية فالغرامية تضمينات لأحداث وتناوب لها.

* التناوب: تسرد الرواية سفر علي بلخمري وزوجته ربح وربيبها الناجي وأبيها الضاوي إلى العاصمة قصد متابعة العناية بربح في حملها بعد عقر مديد فتصف الطريق من السرس إلى تونس مرورا بالروحية ومكثر وسليانة وجبل برقو زمن الاستقلال في بداياته فينقطع وصف الطريق لينفتح القص على زمن الاستعمار حين يتذكر الضاوي سفراته إلى الفحص في شبابه ليتاجر مع رفاق له في بيع الدجاج " الداندان" للفرنسيين. يقول السارد:" كانت السكك الحديدية تحاذي طريقهم فتذكر الضاوي كيف كان يمر بتلك الربوع ...ثم يقول الضاوي: الثنية حتى للفحص مشيتها ميات المرات قبل الاستقلال...كنت نا وجماعة صحابي ..نربو الدندان ونهبطوه في أقفاص ...ونقصدو ربي للفحص . كانوا فيها الفرنسيس والمعمرين يحبوا لحم الدندان ياسر" ( ابن العاقر، ص ص 122 و123).

إن توفر هذه الأنواع الثلاثة من الأزمنة شائع في الرواية ولكن فضل بعضها على البعض بتخير الأزمنة في الخطاب بعيدا عن تسلسلها في الخبر وهو ما يعرف بتقنية التخطيب من جهة و بإتقان تنويع الأزمنة وإدماجها في المتن الحكائي فترد سلسة منسجمة لا تصنع فيها ولا إسقاط من جهة أخرى. وهنا نجحت الكاتبة في حسن تضمين الأحداث من خلال مركزتها في شخصية محورية هي ربح. واكتفت ربح بسرد ما تعيشه وتجاوزت التعاقب التاريخي غير الإبداعي في الرواية باستخدام التذكر والاسترجاع فتتحدث عن طفولتها المرحة وشبابها المنكسر وكهولتها المضطربة. ثم تتخلص من ربقة الماضي والحنين لتمني النفس بانبثاق صباح جديد عبر الحلم والمنام استباقا للحاضر المحبط. فتكسر سلاسل الحاضر وأغلال الماضي القريب منذ خيبة الزواج والعقر لتتطلع إلى المستقبل عبر الرؤيا. لطالما كانت تحلم وخاصة بالظفر بحصاة لؤلؤة في نهر. وكبر هذا الحلم لما انتقلت إلى منزل علي بلخمري لترضع له ابنه يتيم الأم. وتكرر ذلك الحلم ليلة أرضعت الناجي " ثم فتحت يدها وبقيت تتأمل الحصاة وتمسحها ...فيزداد بريقها حتى صارت لؤلؤة ..واستفاق بها الحلم على صياح الديكة فأخذت تبحث عن لؤلؤتها في صدرها لتجد الرضيع في حضنها ..." ( ابن العاقر، ص 48).

ولا يخفى هنا حبكة الراوية وحنكتها ومهارة الصنعة في التصريح والتلميح بين الحصاة التي تحولت لؤلؤة في المنام ولما أفاقت وجدت لؤلؤتها في حضنها. أي أن الحلم بدأ يقدم بشائره ولو عن طريق الرمز وعبور الحلم.

إن ارتباط كافة أحداث الرواية بربح وانبثاق كافة الأحداث من ربح وأهلها وعالمها يشد معمار الرواية إلى هيكل صلب ومنبع ثر وصانع ماهر في الحكاية والغناء وتقدم الأحداث وتناوبها كما تشد خيوط إلى النول وتتعرج وتتفرع وترتفع محكمة الصنع في يد امرأة صناع تذكرنا بإحكام السرد لدى شهرزاد سيدة الحكي وأميرة البيان.وهنا مظهر كبير من مظاهر الأدبية ربحت الكاتبة رهانه.

فكيف جاءت صيغ السرد ؟

2- صيغ السرد:

وفيها نتعرف الطريقة التي بها يقدم الراوي القصة أو يعرضها. وتنقسم عامة إلى السرد المحكي telling)  ) والعرض (showing) والنقل (Reported speech). وتنبع أدبية الخطاب هنا من بناء عالم سردي خيالي يوازي أحداث القصة فيكسبها جمالية تتجاوز المباشرة الفجة والواقعية المبتذلة تسمى اليوم الجمالية الواقعية.

احتوت رواية العاقر على الحكي والعرض ونقل السرد أي بين التقريري والوصفي و بين الحكاية في تحركها والمشهد المسرحي الثابت في عرضه. فكانت هذه مفارقة الجنس الفني الذي سمته الكاتبة رواية بالرغم من أنها مسرحية أيضا. أو لعلها مزيج بينهما. وهنا مفارقة التكنية. هل نحن أمام جنس أدبي محدد التصنيف  يدعى رواية أم نحن أمام شكل أدبي يجمع الرواية بالمسرح والغناء.

لذلك نجد أنواعا من الخطاب المسرود وأصنافا من الخطاب المعروض والمنقول.

وهي إجمالا 7 أصناف (صيغة المسرود الذاتي وينبني على الاسترجاع وتذكر الماضي وصيغة الخطاب المعروض وفيه يتكلم المتكلم مباشرة إلى متلق مباشر والخطاب المعروض غير المباشر وصيغة المعروض الذاتي ويتميز بمحاورة ذاته عن شيء يحدث في الحاضر أما المنقول فنوعان منقول مباشر عندما ينقل غير المتكلم كلام غيره كما هو والمنقول غير المباشر حينما ينقل الخطاب المسرود بتصرف).

وبالعودة إلى ابن العاقر فلا نكاد نجد الصنف الأول أي المسرود الذاتي والمعروض الذاتي  وعلى العكس من ذلك تحضر  بقية الأصناف الخمسة التي يهيمن فيها السرد المعروض والمنقول مباشرا وغير مباشر.

مثل ذلك ربح تتذكر طفولتها "عاشت ربح سنوات من السعادة مع حبيبها ولكن نكد عيشها عدم الإنجاب.." (ابن العاقر، ص 8). فالاسترجاع هنا لا يمر عبرذات ربح وصوتها بل عبر صوت الراوية . وكذا أغلب الاسترجاعات.

والرواية في معظمها خطاب معروض أو منقول يتمحور حول ربح. ولا شك في أن طغيان الخطاب المعروض والمنقول يعكس رؤيا الكاتبة وجهة النظر أو التبئير ورؤيتها العالم. فما هي خصائص الرؤية السردية في ابن العاقر؟

3- الرؤية السردية أو التبئير:

ويهتم التبئير بالراوي وعلاقته بالعمل السردي. ويعرف تنظيريا بوجهة النظر والرؤية ( تودروف مثلا) والبؤرة  والتبئير(جرار جنيت مثلا)...

وتتجسد الرؤية السردية عمليا في التقديم البانورامي (الراوي مطلق المعرفة ) والتقديم المشهدي (تغيب الأحداث وتقدم الأحداث مباشرة للمتلقي) واللوحات الفنية (تركز الأحداث على ذهن القارىء أو إحدى الشخصيات). وقد قدم تودروف أصنافية في الغرض تتكون من الراوي العليم أو الرؤية من الخلف والراوي الشخصية أو الرؤية مع والراوي الشخصية من الخارج أو المحدود.

وحينما نطبق على روايتنا نلحظ بيسر هيمنة الراوي العليم. فالتعريف بربح وبحياتها العائلية وبقريتها " دشرتها" وتجارب الزواج والطلاق بل وأحلامها وحنينها كلها تمر عبر الراوي العليم يعرف كل شيء ويتدخل في كل شيء حتى في المنام يرافق ربح ويحيط  بهواجسها وأحلامها وكوابيسها وقد يسمح في بعض المرات بابتعاده القصير لتتكلم أو تبلغ موقفا.

كما يحضر التقديم المشهدي منفلتا إلى حين لتقديم حدث أو موقف أو مشهد وخاصة عندما يكون المشهد أغنية شعبية أو موقفا ملحميا.

مثال ذلك إتاحة السارد لربح الغناء. وكان ذلك عن طريق استراق علي بلخمري صوتها وهي تغني

تقول الساردة "وكان علي بلخمري يطرب لصوتها فيبقى خلف الباب. وكم كان يتأثر عندما تغني ربح:

وحش الصرا وبرودة

يا ولفتي وحش الصرا وبرودة

يا من عزم شرف على قمودة...

وقد تلجأ الساردة لاستغلال فرصة الحديث عن الزلاج وسقوط شهداء في معركة الزلاج سنة 1912 وإعدام الشاذلي بن عمر القطاري والمنوبي بن علي الخضراوي المعروف بالجرجار تستغل هذه الذكرى لتعرف بالجرجار وتعرض الأغنية الملحمية التي ظهرت بعد الإعدام

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله...

ولا تعدم رواية ابن العاقر الرؤية المصاحبة لكنها قليلة جدا إذا ما قورنت بالرؤية العليمة. لكنها تكاد تعدم الرؤية من الخارج.

انطلاقا من أصناف الرؤى السائدة في الرواية  وهي الرؤية من الخلف أساسا والرؤية "مع" نادرا فإن التبئير باعتباره الموئل السردي المركزي يعكس هيمنة الراوي وإمبرياليته. وهذا الاستنتاج يطابق غياب السردي الذاتي في محور صيغ السرد ويفسر طغيان السرد  المعروض والمنقول ويقر عدم توفق الكاتبة إلى إبداع السرد الكاشف للذوات وما يعتمل في وجدانها وما يتطلبه من قوة الخيال وثراء اللغة ونضح الصنعة وما يتيحه من تعدد الأصوات وفرادتها. وهي نواقص تتجاوز بتعميق التجريب.

قصرت الكاتبة في زرد سرد متخيل ذاتي حر ينطق به الشخوص فيشعروننا أننا أمام كائنات حية تعيش وتحلم وتتألم وتتشوق وتعشق وتكره كأنها كائنات دموية تنضج بالحياة وليست دمى حبرية تحتاج أكسير الحياة . ومع ذلك وفقت الكاتبة في حبك الأزمنة وتوظيفه إبداعيا من خلال استخدام الحلم والذاكرة.

فكيف انعكس التميز في البناء الحكائي والضعف المسجل في صيغ السرد ورؤاه على البعد الدلالي في رواية ابن العاقر؟ أو كيف تنبني الدلالة ونستحصل المعنى أمام مفارقة الخصب والعقر؟

II. المستوى الدلالي التدلالي

ويشمل المكونات الأساسية في المتن الروائي من عنونة وعتبات وقضايا/ تيمات مصرح بها أومسكوت عنها والتي يسميها جيرار جنيت "المتعاليات النصية" في كتابه أطراس وكيفية تصويرها للمفارقات  وقيمتها الجمالية وميزتها الشعرية ، " أدبية الرواية"...

أولا: مفارقة العنوان

يقوم العنوان على مفارقة بين العقر والإنجاب. والمفترض في العنوان أن يكون وليد اختيار عميق هادف وليس عملا اعتباطيا. فالعنوان مرآة العمل الفني ووجهه وواجهته إن أحسنا اختياره أفلحنا وإن تعاملنا معه بسذاجة خبنا. ولذلك نشأ علم كامل في أروبا مؤخرا وتطور ليبلغ أوجه اليوم تحت اسم العنونة La titrologie) ).

يذهب في روع القارىء لعنوان ابن العاقر أن في الأمر تناقضا لا مفارقة. كيف للعاقر أن تنجب؟

غير أن بالعودة إلى المعجم أول درجات الكتابة والتفسير اللغوي سرعان ما تتبدد غيوم المقابلة لتتجلى مفارقة عجيبة لغوية ودلالية إذ تفرق اللغة العربية بين العاقر والعقيم. العقيم من العقم مدارهما على الجدب وعدم الخصوبة و عدم الإثمار والإمطار والإنجاب والموت بينما العقر من الجرح والقطع والذبح فنقول انعقر البعير بمعنى الجرح والذبح. ونقول اعقر الله رحم المرأة أصابها بداء في رحمها فلم تحمل. هنا نتبين الفرق الكبير بين العقم المؤذن بالجدب والهلاك وعدم الإنجاب والموت والعقر الدال على عقم جزئي بل عرضي يمكن تجاوزه والنجاة والحياة بالمداواة والرعاية...

فهل قصدت الكاتبة من خلال روايتها ابن العاقر حال السرس موطن الحكاية وتونس الإطار الأكبر

للسرس بعد الاستقلال وما أصابها من الجراحات والخيبات والقطائع مع التاريخ الوطني النضالي والأصالة التاريخية والثقافية والحضارية مثلت كلها مأزقا أودى بها إلى عقر كدنا نعتبره عقما لولا أن الكاتبة استدركت بأن قلبت الميم أولى حروف الموت راء أولى حروف الرواء والحياة فانتقلنا من ظلمات الجدب والممات إلى ممكنات الخصب والإنجاب والحياة إلى أغاني الحياة...

قد يكون. اعتنت الكاتبة بعتبات النص فوصفت ابن العاقر بالرواية. وهو تنصيص توجيهي قد لا ينطبق بالضبط على نصها ابن العاقر.. فحتى المعيار الكمي تعد ابن العاقر 139 صفحة لايعد محددا حاسما فبإمكان القصة أن تقارب هذا الكم وقد تتجاوزه. وقسمت نصها إلى خمسة فصول. وهو تقسيم أنسب إلى المسرحية. وجمعت ابن العاقر بين السرد والمشاهد المسرحية والمواقف الغنائية والملحمية. فهي قصة غنائية هجينة ليست بالرواية ولا بالمسرحية. وهي رواية بالاتفاق. لكن هذا التنوع الأجناسي في رواية ابن العاقر وتعدد الأصوات لتعدد المتكلمين أخصب الرواية وأغناها لتزاحم النصوص المتعالية صلبها.

ثانيا: مفارقة الجدب والخصب والموت والحياة

لاحظنا في بنية الرواية جمعها بين الرواية والمسرحية بين الحكي والإخبار وبين العرض ونقل المواقف والأشعار وهي ثنائية السرد والعرض ثنائية الماضي والحاضر والميت والحي تنعكس دلاليا في نوعية الرواية خبرا وخطابا.

قصة ربح امراة خمسينية تزوجت ابن عمها عن حب ووفقا للتقاليد فابنة العم لابن عمها يحل له خطفها من الهودج إن زوجت لغيره كما استقر في التراث الشعبي. لكن عدم إنجاب ربح كان حاسما في تطليق ابن عمها الذي لم تسمه الراوية ولحماتها دور خطير في حصول الطلاق.

تأتي اختها زمردة لتعرض عليها الزواج من علي بلخمري الذي فقد زوجته بعد إنجابها الناجي الذي يحتاج إلى مرضعة.

بعد رفض وتمنع تقبل ربح المغامرة كمرضعة للناجي لا زوجة لأبيه لكن حسن معاشرة بلخمري من جهة وتحريض أختها زمردة على اغتنام ربح كهولتها ويسر زوجها دفعاها لإتمام الزواج.

تبدو الأحداث هنا عادية لكن تعلق ربح بالرضيع وإخلاصها له وعنايته الفائقة به وحبها الخرافي له جعلها تحن إلى الحمل والإنجاب والعلاج بعيدا عن دجل الدجالين ورقيات الأفاقين مثلما حصل لها في زواجها الأول. وما حصل كان عجبا عجابا كيف تقمصت ربح دور الحامل وعاشت الدور وتقلبت في الفراش تكور بطنها بأقمشة مذكرة إيانا بتقمصات أبطال كافكا في روايته الشهيرة المسخ مع فرق جوهري فإذ تحول فيه البطل الكافكي إلى حشرة صرار فإن تحول ربح من العقر القريب من العقم إلى حمل حقيقي بعد عقر وحمل كاذب..هنا دعوة قوية من الراوية إلى ضرورة مقاومة العقر والجدب بالحب والصبر والإرادة وصنع القدر لا انتظار السانحات...إذا الشعب يوما أراد الحياة ...فلا بد أن يستجيب القدر.

وتنجم مفارقة ثانية لصيقة بالأولى متصلة بمفارقة العلم والعمل والشعبذة والدجل. تصور الراوية ماساتها مع العقر خلال زواجها الأول من ابن عمها. وكيف كانت تجبر على التردد على المشعوذين الدجالين والمتطببين ليصفوا لها أدوية غيرنافعة ويعطوها حروزا بمثابة كتيبات شفاء غير مجدية. فكانت النتيجة الفشل في الإنجاب فالطلاق. تقول الساردة:" وقد أخذها زوجها عديد المرات إلى أحد العزامين المشهورين ...يسلمها مكاتيب صغيرة مكتوبة بماء الصمغ ... مع "حروز" تضعها تحت وسادتها أو تعلقها في ثيابها. لكن لم يجد كل ذلك نفعا" (ابن العاقر، ص 11).

بينما زواج ربح الثاني من بلخمري ورعايتها لابنه الناجي وتعلقها به كل ذلك شجعها على حب الإنجاب فسهرت من أجله وتعلقت همتها به وطلبته بتمثيل دور الحامل وحب بلخمري حتى أدركته

ولكن نجاح الحمل والولادة لم يتما إلا بتدخل الطبيب بتشخيص صعوبة الحمل لدى العاقر ربح ومعالجة المعيقات بالأدوية اللازمة جعلا قضية الإنجاب ممكنة. وهكذا زال عقر ربح بطلب الأسباب من رغبة فيه ومعاشرة لزوج أحبته بالمطاولة والتجريب واختارته بالعقل والتدبير على عكس زواجها بابن عمها على مقتضى التقليد ثم لما أرادت الإنجاب قصدت الطبيب رمز العلم لا المشعوذ رمز الجهل والتخلف فكان لها ما أرادت وغادرت العقر والعقم إلى الولادة والخصب.

ويتخذ الصراع بين العقر والإنجاب بعدا ثقافيا في مراوحة الكاتبة بين الفصحى والتي تستخدمها في الحكي والعامية التونسية الريفية الفلاحية من أعماق السرس والشمال الغربي وعموم تونس في الستينات والتي تستخدمها الكاتبة في نقل مواقف الشخصيات وحواراتهم الداخلية أو الخارجية.

فكأنما الفصحى للتاريخ والسرد أي البونوراما والعامية للحوار ونقل بواطن النفوس فهي لغة المسرحة والدراما. مثال ذلك: "كانت كثيرا ما تنظر إلى الحيوانات الصغيرة ويغلب عليها الحزن. "علاش مخاليق ربي الكل تولد م البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة حتى الخنافيس تولد ونا ما نولدش" ( ولد العاقر، ص 12).

ولقد تكررت هذه الخاصية في معظم الرواية. وهي ميزة إيجابية تقوي السمة الإبداعية للرواية فترتقي بها من سرد الكاتبة الأحداث إلى صنع الشخصيات بأنفسهم لها. وهذا ما كان نوه به الروائي الأمريكي هنري جيمس في دعوته "إلى ضرورة مسرحة الحدث وعرضه لا إلى قوله وسرده بمعنى أن على القصة أن تحكي ذاتها لا أن يحكيها المؤلف" .

ولكن السؤال هل تنجع المزاوجة بين الفصحى والعامية في تحقيق أعلى مراقي الإبداع؟ وهل تصلح الفصحى للسرد والعامية للمسرح والمسرحة دائما؟ بصفة أخرى كيف نوظف اللغة ودرجاتها في العمل الإبداعي؟  أعطت الكاتبة إجابة وهي الفصحى للقص والعامية للمسرحة. وهي إحدى المقاربات الممكنة ولكن ما خصائص اللغة الفصحى وميزات العامية المختارة؟ في الفصحى والعامية أبعاد جمالية إبداعية لكن تخير العبارات والكلمات ليس أمرا هينا فهو لا يقل قيمة عن تخير العناوين.

استمتعنا بنصوص في العربية الفصحى من إبداع الكاتبة حضر فيها الجهد الشخصي لزهرة الحواشي  وخصائص نصوص إبداعية مشهورة مسجلين ظاهرة التناص الأثيرة. مثال ذلك  حينما تتذكر طفولتها مع أبيها الضاوي: "وقد قضت معه طفولتها البسيطة والسعيدة بين المروج الخضر والجداول المنسابة حين كانت ترافقه للمرعى وتستمع إلى صوته البديع وهو يردد الأهازيج العذبة" ( ابن العاقر، ص9)

ثم " لكنها عادت منكسرة الجناحين" ( ابن العاقر، ص 10). طبعا نلحظ أسلوب الكاتبة ونصوص الشابي وحسين هيكل وجبران خليل جبران...

وشنفتنا الراوية بعرض قصائد من الشعر الشعبي الذي تتغنى به الأرياف والمدن في أغراض الغزل

والحب والحرب والملاحم البطولية. مثل " ياربح يا نجمة الصبح لو كان منك ياسر"

أو فاجعة إعدام القطاري والجرجار......

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله..

وهي قصائد شعبية كانت منتشرة في ربوع الشمال الغربي وربما في أغلب البلاد التونسية أحسنت الكاتبة استثمارها فأدرجتها في سياق وصف شخصية أو ذكر حدث وطني وذكرتنا بها حفظا للذاكرة الجماعية واعتزازا بالتراث الشعبي صنو التراث الفصيح.

وفي هذا الحرص على استذكار التراث الغنائي والملحمي تشبث بالهوية الخصبة لتنوع مكوناتها وأبعادها وتحذير من الجحود والتجاهل والقطيعة وهي كلها عبارات مرادفة للعقر إن استطال ولم يعالج أو تتوفر العزيمة للتغلب عليه استحال عقما.

وقد سجل تحاور النصوص العامية والفصحى والادبية والتاريخية والغنائية والملحمية  تناصا او " تفاعلا نصيا" على حد تعبير سيد يقطين في كتابه انفتاح النص الروائي يدلل على تميز النص الجامع أو الرواية وفرادتها.يقول جرار جنيت في مدخل على جامع النص:" ليس النص هو موضوع الشعرية بل جامع النص أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص...". حبلت رواية ابن العاقر بالنصوص المختلفة والمتنوعة شعرا ونثرا وتاريخا ومسرحا وملاحم ومشاهد واكتظت بالأصوات عامية وفصيحة عالمة وشعبية معاصرة وتاريخية عريقة. نلمح حضور تلك النصوص مجردة أو مضمنة أو مقتبسة ولكنها مغيبة بشكل ما. وهي حاضرة في غيابها. فلئن كان الغياب فقرا وعقرا ومحلا فإن شظاياها وأطيافها وشخوص بعضها يوثث مائدة زاخرة بالأطعمة والفواكه ووليمة دسمة تعلن عن الخصوبة والغنى وترسم سجادا مطرزا بشتى الأشكال والألوان وتغري الأنوف بأطايب العطور والعود والبخور.

ولقد اختارت الكاتبة نهاية طريفة لمثل هذه المفارقات والمنسلة للصراعات. لقد اختارت التسامح حلا ممكنا للأحقاد والنزاعات والكراهية الناجمة عن النزاع حول الميراث والثروات ولم تختر الحرب والسجال والقتل والثارات. وهي أمراض اجتماعية إن لم نوفق في معالجتها أهلكنا الضرع والنسل وحققنا العقر المؤدي حتما إلى العقم والمحل والهلاك.

فلقد اكتشفت ربح كيد عمر لأبيه وسرقته لأمواله وترصده لسرقة العقود للاستحواذ على الأرض والميراث دون إخوته من ربح. وعوض أن توغر ربح صدر زوجها بلخمري على ابنه عمر من زوجته الأولى وتؤجج الكراهية والحقد بسبب الإرث خاصة وقد ظلم الورثة وخاصة ابنه عمر  "وميز عنهم ربح اعترافا لها بجميلها مع الناجي" (ابن العاقر، ص 138) فإن ربح اختارت العدل والتسامح حلا وعنوانا للحياة. فطلبت من زوجها علي أن يعدل وينصف عمر رغم حقده على أبيه. خاطبته قائلة:" نعرف اللي أنت وعمر ولدك ماكمش متفاهمين لكن هو يتيم ووحداني ما كانش عنده خيوة ذكورة...نا ما ش نتنازل ليه على بايي في الأرض وغيرها. نهار آخر ما يلقو كان خوهم الكبير"

ولم يكن من الأب علي بلخمري إلا أن يصفح عن ابنه عمر" وأمام نبل مشاعر ربح ورجاحة عقلها ازدادت معزتها عند زوجها وصفح عن ذنب ابنه ...وقد استعاد علاقته مع أبيه وأسرته".

وهكذا توفق الكاتبة إلى حل أزمة العقر وما تشي به من عقم وتستبعد كافة حلول العنف والقوة والكراهية والحقد وتختار التسامح .

التسامح قلب يسع المفارقات ويتفهم الاختلافات ويتسامى عن الإساءات والتعديات ويدعو إلى التعايش والتكامل والتجاوز عن الصغائر من أجل هزم العقر والجدب والمحل والسعي المخلص إلى طي صفائح البغضاء القديمة وفتح صحائف أخلاق التسامح والقيم العليا ومجالات العلم والعمل والإرادة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة ضد كافة أشكال العدوان الأجنبي والهيمنة الاستعمارية والعنصرية في مجتمع حر وعالم متضامن مع الحق.

الــخــاتـمـــة

ابن العاقر للروائية والشاعرة والترجمان زهرة حواشي جنس بديع يجمع بين الرواية والمسرح والغناء فهي أقرب إلى رواية غنائية تصور ربوع تونس الخضراء بالشمال الغربي عامة والسرس والدهماني والروحية والكاف خاصة زمن الاستقلال وما قبله وما بعده بقليل. فترة تحول كبرى شهدتها تونس والمغرب العربي والوطن العربي والعالم. فترة الاستقلالات على حد تعبير المغربي علي أومليل والديكولونيالية حسب فرانز فانون (1925-1961) الفرنسي المارتينيكي وإيمي سيزار(1913-2008) أستاذ فانون ومواطنه. تروي قصة امراة كهلة عرفت العقر في زواجها الأول من ابن عمها فطلقها فتزوجت أحد جيرانها فأنجبت. هي حكاية عجيبة بعض الشيء لأنها تتحدث عن عقر امراة ثم إنجابها. ولكن العجيب حقا كيف حكت الراوية القصة؟ أي كيف جاء خطاب الرواية؟

تكون خطاب الرواية ككل رواية من مستوى تركيبي نحوي ومستوى دلالي تاويلي.

ويتفرع المستوى التركيبي النحوي إلى صيغ الزمن وصيغ السرد والتبئير.

تميزت الرواية بتخطيب الزمن (اختيار ازمنة بعينها وتوزيعها) في مخالفة للزمن التاريخي وربطه بالراوية العليمة مما سمح بالتلاعب بالأحداث والتصرف فيها وعرض لوحات غنائية ومشاهد درامية ومواقف بطولية تخلد الحركة الوطنية فسمعنا أصواتا متعددة لفاعلين كثيرين تسجل الحوارية الباختية وتجسد أشكالا من  المناص أو العتبات والتناص وألوانا من التسلسل والتناوب والتضمين في كف راوية عليمة تدير خذروف الحكي وتهيمن على الإخبار فتتجاور البانوراما والمشهدية وتتنافس القصة مع المسرح والماضي مع الحاضر وهو ما ينقلنا إلى المستوى الدلالي التدلالي الذي ينهض على متوالية من المفارقات أولها العنوان ابن العاقر ليتناسل في مفارقات الجدب والخصب والعلم والجهل والفصحى والعامية والثارات والتجاوز لتفصح الرواية عن تصوير مشكلة اجتماعية صحية نفسية ثقافية فكرية حضارية منطلقها ربح والشمال الغربي في تونس زمن الاستقلالات ومنتهاها تونس والعرب والعالم الثالث في صراعه بين عقره الناجم عن الماضي والاستعمار وتطلعه إلى الاستقلال الحضاري. وهنا قدمت الكاتبة زهرة التسامح والعلم والإرادة حلا للخلاص والتغلب على كافة أشكال العقر والعجز.

رواية ابن العاقر رواية غنائية اجتماعية واعدة نجحت في تشخيص المشكلة أي العقر وتقديم الحل أي العلم والتسامح ولكنها مطالبة بتعميق الجوانب الفنية لاسيما صيغ السرد وتحرير الشخصيات.

***

تقديم: د. كمال الساكري

في المثقف اليوم