قراءات نقدية

سعاد الراعي: الخيانة إثم حضاري قاتل.. قراءة لقصيدة "لا تصلبوا زيداً غباءً مرتين"

أهمية العنوان ودلالاته

يحمل عنوان القصيدة "لا تصلبوا زيداً غباءً مرتين" للشاعر د. مصطفى علي، بُعدًا احتجاجيًا قويًا، يتجاوز الإطار الزمني إلى فضاء الوعي الجمعي للأمة. "زيد ابن علي زين العابدين" هنا ليس مجرد شخصية تاريخية دينية، بل هو رمز للنضال والاستشهاد، مُمثلًا بذلك، كل من يخوض المعارك ضد الظلم. العنوان يعبّر عن رفض الخيانة المتكررة للمبادئ، ويوحي بأن تكرار الخطأ في خذلان القادة والمجاهدين هو بمثابة إثم حضاري قاتل.

تنبض القصيدة بجزالة اللفظ وتكثيف الصور الشعرية العميقة، فالشاعر يعزف على أوتار الرمز والتأويل، ليحوّل النص إلى منظومة متكاملة من الاستعارات والتشابيه التي تعبر عن الأوضاع السياسية والاجتماعية للعالم العربي واليمن بشكل خاص. فالأبيات الشعرية تتسم بإيقاع قوي يستند إلى توظيف بحر كامل رصين يتناسب مع طبيعة النص الاحتجاجي، كما أن التكرار في الصياغات يزيد من التأكيد على المعاني.

تمتاز القصيدة بانسيابية سلسة بين محاورها، حيث يبدأ الشاعر بوصف المشهد البطولي لأنصار زيد، ثم ينتقل إلى خيانة العرب، ومنها إلى واقع اليمن وغزة، ليتوج النص بدعوة لاستعادة الوعي والنهوض. هذا الانتقال غير المتكلف يجعل القارئ يعيش التجربة وكأنها وحدة متكاملة، دون أن يشعر بالانقطاع أو الفجوة بين المعاني.

ان حضور "هدهد سليمان" و"نبأ بلقيس" في القصيدة، يبرز قوة التلميحات التاريخية من اجل اعادة إنتاج أحداث الماضي في سياق معاصر وجديد. فالقصيدة تُسقط رمزية الهدهد الذي كان ناقلًا للنبأ اليقيني على الواقع المعاصر، حيث يتم تبادل الرسائل بين الحق والباطل، بين المخلصين والخونة، وبين من يبني الحضارة ومن يهدمها. كما أن استحضار بلقيس يُشير إلى حالة الحصار والخذلان الذي تتعرض له اليمن، حيث تستعيد القصيدة ما حلّ بسبأ من انقسامات وتخاذل في وجه الأخطار المحدقة.

فَهَداهِدي حَمَلتْ لنا نَبَأَ التي

قَدَحَتْ أَواراً في دمي وَأُواما

*

سَبَأٌ بِها بَلْقيسُ حاصَرَها العِدى

وَقبائلٌ من قومِها تَتَعامى

القصيدة تسلط الضوء على التباينات السياسية بين شمال اليمن وجنوبه، مشيرة إلى معضلة التثاقل في النفير والتخاذل في الدفاع عن المبادئ. هذه الإشارة لا تأتي بمعزل عن القضية الفلسطينية، إذ أن غزة هنا تصبح مرآة تعكس واقع اليمن الممزّق بفعل الصراعات والخيانة الداخلية. ويظهر بوضوح التقابل بين "أنصار الإمام" الذين يقفون مع غزة وبين "الأعاريب" الذين يتحالفون مع الغزاة لإعدام غزاة، في استعادة دقيقة للواقع السياسي العربي المتهالك.

يا ساكناً يَمَنَ الجنوبِ، كتابُنا

وَصَفَ التثاقلَ في النفيرِ حَراما

*

يا نارُ أعداءِ الطُفولَةِ والصِبا

كوني على يَمَنِ الأُباةِ سَلاما

*

أسفاً سُليْمى لا عُروبَةَ إنّما

عربٌ وَصاروا عالةً ورُكاما

*

عَرَبٌ أطاعوا رومَهم فَمَليكُهم

عبداً يصيرُ أمامَهمْ وَغُلاما

تتجلى فلسفة القصيدة العميقة في مقاربة الحياة بوصفها "رسالة وشهادة"، حيث يبرز مفهوم التضحية في سبيل القيم السامية، ويصبح الزهد والتقشف عنصرين متلازمين مع الصمود والكفاح. كما يعكس الشاعر سخطه تجاه الحكّام المتخاذلين الذين "زرعوا الوَنا بشعوبهم فتنامى"، وهو تصوير دقيق لكيفية تسلل الوهن إلى جسد الأمة، نتيجة الخيانة والخنوع. أما على الصعيد الإنساني، فإن القصيدة تصوّر وجع الجياع الذين "يُسكتون نيامًا" في مقابل بذخ المترفين، مما يجعلها صرخة مدوية ضد الظلم الاجتماعي.

وأرى جياعَ الشعبِ راقدةً على

ألَمِ الطِوى كي يُسْكِتوهُ نِياما

*

أيَسُرُّ سُكّانُ الخليجِ إذا رَأوْا

مُدُنَ الجوارِ خرائباً وَحُطاما

تنبض القصيدة بالرموز التي تعكس أبعادًا متعددة، إذ أن "زيد" ليس فردًا بل فكرة، و"صنعاء" ليست مدينة فقط بل وجدانًا للهوية المقاومة. كما أن "حرائر" و"أيامى" تُجسدان مأساة الأمة المغتصبة، في حين أن "الأعاريب" هنا ليسوا سوى أداة للتواطؤ مع المستعمر. هذه الرموز تخلق شبكة من المعاني التي تجعل القصيدة نصًا مفتوحًا على التأويل.

وأرى أعاريبَ الفلاةِ وراءهم

مُتَسوّرينَ مع الغُزاةِ خِياما

*

عرباً تثاقلَ ركْبُها عن نُصرةٍ

فَسَبى الدخيلُ حرائراً وأيامى

*

يمكن القول إن الشاعر يروم من خلال هذه القصيدة استنهاض الوعي العربي والإسلامي، وفضح التخاذل والخيانة، والتحذير من تكرار أخطاء الماضي. إنه نصّ يرفض الاستسلام، ويؤكد على أن التضحية تظلّ جوهر الرسالة النضالية، وأن "زيد"، رمز الفداء، يجب أن يُنصر لا أن يُخذل.

أَوَ نَصْلِبَنْ زيداً ونخذله كما

كُنّا مع الجَدِّ الأصيلِ لِئاما

*

أنَخونُ زيدَ الخيلِ ثانيةً بها

وَنَخطُّ شاهدةَ السعيدِ خِتاما؟

*

لا تصلبوا زيدًا غباءً مرتين" ليست مجرد قصيدة، بل هي شهادة على العصر، تحمل بين أبياتها وجع أمة، وتُجسد في رموزها صراع الحق مع الباطل، والخذلان مع الوفاء. إنها صرخة احتجاج ضد التخاذل العربي، ودعوة للنهوض من سبات الخنوع، لتعيد للأمة مجدها المفقود.

يحقق الشاعر هذا كله بلغة جزلة، صوفية الدلالات، تتلاعب بالألفاظ كما تتلاعب الأمواج بصخور الشاطئ، في قصيدة تقف شامخة كالنخيل في وجه العواصف.

**

سعاد الراعي

في المثقف اليوم