قراءات نقدية
عباس محمد عمارة: التناص في تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو (2)

في هذه التقنية، لا نكتفي بسرد الأحلام كما هي، بل نقوم بإعادة تشكيلها جمالياً، حيث يستلهم الشاعر موضوعات وأفكار الأحلام التي تمثل تجارب متعددة الأبعاد: دينية، أدبية، اجتماعية، أو ثقافية. التحول هنا لا يتم فقط عبر توثيق الأحلام، بل من خلال التناص الذي يفتح فضاءً تأويليًا متعدد الطبقات، حيث تصبح الأحلام نصًا أدبيًا.
يتداخل التناص في هذه العملية بين ثلاثة مستويات أساسية:
1. الحالم الأول: وهو صاحب الحلم الأصلي، سواء أكان فردًا يحلم في الواقع أم حلمًا واردًا في نص.
2. الحالم الثاني: الشاعر الذي يعيد صياغة الحلم في شكل هايكو، ملتقطًا جوهره الآني.
3. الحالم الثالث: القارئ الذي يعيد اختبار الحلم عبر قراءة النص والتفاعل معه، مما يمنحه بُعدًا جديدًا في كل مرة.
كل مستوى يشكل حلقة وصل في بناء التجربة الجمالية للحلم، مما يجعل الهايكو أكثر من مجرد توثيق، بل إعادة إنتاج الحلم داخل فضاء تأويلي مفتوح. لا يقتصر التناص في هذه التقنية على مجرد الإشارة إلى نصوص الأحلام الأدبية أو الفلسفية أو الدينية، بل يتحول إلى طابع متجدد ومفتوح، حيث تصبح الإشارات المتناثرة جزءًا من بنية الهايكو ذاتها. الحلم بطبيعته غير خاضع لقواعد منطقية محددة، فهو تجربة قائمة على التدفق العاطفي والصوري. وعند تحويله إلى هايكو، يتم التركيز على التقاط لحظته الجوهرية دون الحاجة إلى ترتيب زمني أو تفسير مباشر. هذا يشبه تيار الوعي الشعري، حيث تتجسد اللحظات الشعورية في حالة مؤقتة، غامضة، لكنها مشحونة بالإيحاءات. يُنظر إلى الحلم في بعض النظريات النقدية على أنه نص ذاتي غير مكتمل، يتشكل داخل وعي الفرد لكنه مفتوح للتأويل بمجرد نقله إلى شكل مكتوب. في هذا السياق، يمكننا الاستفادة من مقاربات مثل: جاك دريدا ونظرية النص المفتوح، حيث يصبح الحلم نصًا متحولًا قابلًا لإعادة التفسير بلا نهاية. عبر هذا المنظور، فإن تحويل الحلم إلى هايكو إعادة بناء للصورة الحلمية ضمن سياق جديد يثريها بالتأويلات المتعددة. إضافة إلى الطرح الفلسفي السابق، فإن عملية تحويل الأحلام إلى هايكو لا تقتصر على إعادة بناء الصور الحلمية داخل النص، بل ترتبط كذلك بكيفية تأثير هذه الفلسفات على البنية اللغوية والصورة الشعرية. رغم أن الحلم تجربة شخصية، إلا أنه لا ينفصل عن تأثير السياقات الثقافية والاجتماعية. الرموز التي تظهر في الأحلام قد تكون متأثرة بـالميثولوجيا، التاريخ، الدين، والأساطير الشعبية، مما يجعل كل هايكو امتدادًا ثقافيًا لحلم فردي. هنا، يتحول التناص إلى نقطة تلاقٍ بين البنية الذاتية للحلم والموروث الجمعي الذي يتشكل داخله. لا يقتصر دور القارئ هنا على التلقي السلبي، بل يدخل في عالم الحلم ويبدأ في إعادة إنتاجه داخل وعيه الخاص. في كل قراءة جديدة، يتشكل الحلم من جديد، ويصبح الهايكو جسرًا بين التجربة الشخصية والتأويل الجماعي. هذه الطبيعة التفاعلية للهايكو الحلمي تمنحه قوة خاصة، حيث لا يبقى مجرد نص مغلق، بل يتحول إلى مساحة مشتركة بين الشاعر والقارئ والتجربة الحلمية ذاتها. كل قراءة هي إعادة خلق للحلم داخل وعي جديد، مما يجعل الهايكو تجربة غير نهائية، متجددة، وقابلة لإعادة المعايشة والتأويل.
***
عباس محمد عمارة