قراءات نقدية

مرشدة جاويش: جريمة الحب.. محاكمة الذات في زمن الغياب

قراءة تحليلية في نص (الجريمة والغياب) للشاعر والناقد العراقي القدير علاء الأديب

***

الجريمة والعقاب

أمشي في طريق الحبّ

كما يمشي المذنبُ نحو اعترافٍ مؤجَّل،

أخبّئ قلبي

في جيب معطفٍ ممزق،

أقول: لعلّ العابرين

يفهمون لغة الانحناء.

*

كلّ البدايات...

تشبه النورَ في زنازين الروح

رقيقةٌ.. مربكةٌ..

كضحكةٍ تسقط في بئر من البكاء.

*

هم أتوا

وفي حقائبهم ارتباكُ اللحظة الأولى..

وردٌ كثيرٌ لا يعيش أكثر من يوم..

دافئا كان صوتُهم ..

لكنّه لا يعرف الطريق

إذا طال المساء.

*

كنتُ أكتبُ رسائل لا تُرسل،

أُطعِم الغيابَ فُتاتَ الانتظار،

أرسم ظلّي

على حيطان مَنْ لم يلتفت.

*

كلّ اقترابٍ منهم

كان مصادفةً تُنكر نفسها،

نوبةَ احتياجٍ تتعلّق بأول جذع..

ثم تهرب حين تنبت لها أجنحة.

*

لم يحدث أن تخلى أحدهم عن يقينه

ليتقن مشيي المائل..

لم يقاسم أحدٌ رعشتي

أمام فكرة الرحيل.

*

لذا،

حين يُسأل عني الغياب،

سيجيب:

كان يُحبّ كأنّه يرتكبُ جريمة،

ولا أحد استحقّ

أن يُحاكمَ معه. فهو المجرم الوحيد

***

علاء الأديب

.....................

مدخل: صدى الروح في أروقة الحداثة

في فضاء الشعر العربي المعاصر حيث تتلاشى الحدود بين الذاتي والموضوعي وتتداخل أصوات الوعي مع صمت الوجود يبرز نص الشاعر علاء الأديب.

/ الجريمة والعقاب/ كصرخة مدوّية تعكس قلق الذات الحداثية وتوقها إلى فك شفرة تجاربها العميقة. ليس هذا النص مجرد قصيدة عن الحبّ أو الفقد بل هو محاولة جريئة لاستكشاف تضاريس الروح المعذبة والتي ترى في الحبّ /جريمة/ لا يشاركها فيها أحد ويصير فيها العقاب جزءاً أصيلًا من فعل الإحساس.

يتقاطع النص مع مفاهيم حداثوية كالعبثية وعزلة الفرد وتفكك السرديات الكبرى ليقدم لنا صورة للذات وهي تحاكم نفسها في محكمة الغياب، حيث لا قاضٍ ولا جلّاد سوى صدى الوعي المتذبذب

1- تحولات الوعي: الحبّ كـ / جريمة/ وعقاب /الوحيد/

يتجاوز النص الرؤية التقليدية للحبّ ليقدمه كتجربة وجودية معقدة تقارب في عنفها ووطأتها / لجريمة/ هذا التصور ليس مجرد مجاز شعري بل هو انعكاس لوعي حداثي يرى في العلاقات الإنسانية مصدراً للألم بقدر ما هي مصدر للسعادة وفي الانكشاف العاطفي نوعاً من المخاطرة الكبرى التي قد تؤدي إلى / عقاب/ الانفراد

اغتراب الذات وتصنيع /الجريمة

يفتتح الشاعر نصه بتشبيه المشي في طريق الحبّ بـ /المذنب نحو اعتراف مؤجل/ مما يضعنا مباشرة أمام مفهوم الذنب المتأصل في فعل الحبّ ذاته هنا الذنب ليس ناتجاً عن فعل خاطئ بالمعنى الأخلاقي بل هو شعور داخلي متأتٍ من هشاشة التجربة ووعي الذات بمسؤوليتها الكاملة عن مصيرها العاطفي إن / تخبئة القلب في جيب معطف ممزق/ هي محاولة بائسة لإخفاء هذا /الجرم/ أو ربما للتخفيف من وطأته لكنها تكشف في الوقت نفسه عن الانكسار والضعف.

/لغة الانحناء/ لا تُفهم من /العابرين/ مما يؤكد على عزلة الذات وعدم قدرة الآخر على اختراق عالمها الداخلي المعقد البدايات كـ / نور في زنازين الروح/: يقدم الشاعر صورة مضادة للبدايات الحداثية لا كفجر وواعد بل كـ /نور في زنازين الروح/ هذا التناقض الصارخ بين النور والسجن يشي بتجربة حبّ محاطة بالقيود الداخلية والشكوك /رقيقة مربكة كضحكة تسقط في بئر من البكاء/ هذه الاستعارة العميقة تجسد هشاشة اللحظات الأولى في مقابل حجم الألم الكامن. فالضحكة رمز الفرح لا تجد سبيلاً للبقاء سوى السقوط في بئر البكاء مما يعكس استحالة السعادة المطلقة في عالم الذات المعذبة

زيف الاقتراب وهشاشة الآخر:

تتجلى رؤية الشاعر للآخرين بوضوح في وصفه لهم بـ / ارتباك اللحظة الأولى/ و / ورد كثير لا يعيش أكثر من يوم/ هنا يتم نزع القدسية عن العلاقات الإنسانية فالآخرون لا يحملون سوى الوعود الزائفة والجمال المؤقت

/دافئاً كان صوتهم لكنّه لا يعرف الطريق إذا طال المساء/ هذه الجملة تكشف عن سطحية التواصل وعدم قدرة الآخر على تجاوز اللحظة الراهنة والانخراط في عمق التجربة الوجودية للذات خاصة عندما يمتد الألم أو / يطول المساء/

عبثية الانتظار وخطاب الغياب:

يعيش الشاعر حالة من العبثية الوجودية من خلال / كتابة رسائل لا ترسل/ و / إطعام الغياب فتات الانتظار/ هذه الأفعال تجسد غياب الأفق والغاية فليس هناك من متلقٍ حقيقي للرسائل والغياب لا يتغذى إلا على ما تبقى من أمل زائف / رسم ظلي على حيطان من لم يلتفت/ هو تعبير قاسٍ عن اللامبالاة والتجاهل حيث تحاول الذات أن تترك بصمتها في وجود الآخر الذي لا يعيرها اهتماماً مما يرسخ الشعور بالوحدة والعدمية

الاقتراب كـ / مصادفة تُنكر نفسها /: يؤكد الشاعر على طبيعة العلاقات المتقطعة والمنفصلة فالاقتراب ليس نتيجة رغبة حقيقية أو التزام بل هو / مصادفة/ تتبرأ من وجودها

إنها / نوبة احتياج تتعلق بأول جذع ثم تهرب حين تنبت لها أجنحة/ مما يصور العلاقات كنوبات مؤقتة من التشبث بالآخر تنتهي بمجرد أن تستعيد الذات حريتها أو تجد طريقها للهروب من الالتزام أو ربما من الألم

(المشي المائل) و(رعشة الرحيل):

يصل النص إلى ذروته في إبراز عزلة الذات وعدم فهم الآخر لها / لم يحدث أن تخلى أحدهم عن يقينه ليتقن مشيي المائل/ تعبير عن عدم قدرة الآخرين على التخلي عن قناعاتهم الراسخة والتكيف مع خصوصية الذات الشاعرية التي تسير / بمشي مائل/ خارج المسار المألوف

/لم يقاسم أحد رعشتي أمام فكرة الرحيل/ هذه الجملة تكشف عن قمة الوحدة في مواجهة القرارات المصيرية والألم الداخلي الذي لا يمكن للآخر أن يشاركه / جريمة/ الحبّ و/ المجرم الوحيد/: تختتم القصيدة بجملة صادمة ومكثفة تجيب على سؤال افتراضي يطرحه / الغياب/ عن الشاعر: / كان يحب كأنه يرتكب جريمة

ولا أحد استحق أن يحاكم معه فهو المجرم الوحيد/ هذه الخاتمة هي خلاصة الرؤية الحداثية للحبّ: فعل فردي بامتياز محفوف بالمخاطر وقد يؤول بالمرء إلى الشعور بالذنب والعزلة دون أن يشاركه أحدٌ تبعات هذا /الجرم/ إنها رؤية للذات المنفردة في مواجهة الكون التي تتكبد وحدها أعباء خياراتها وعواطفها وتكتشف أن أعمق مشاعرها قد تتحول إلى عبء ثقيل لا يمكن لأحد أن يتقاسمه معها هذا /المجرم الوحيد/ هو تجسيد للذات المعاصرة التي تحمل على عاتقها وزر وجودها وتكتشف أن أعمق مشاعرها قد تتحول إلى عبء ثقيل لا يمكن لأحد أن يتقاسمه معها.

2. تقنيات التعبير الحداثي وما بعد الحداثي في القصيدة

تتجاوز القصيدة السرد الخطي التقليدي وتوظف مجموعة من التقنيات التي تعكس حساسية حداثية وما بعد حداثية في التعبير:

التشظي واللاخطية: لا تتبع القصيدة مساراً سردياً واضحاً للحدث العاطفي بدلاً من ذلك تتنقل بين صور ومشاعر متقطعة تشبه الومضات أو الذكريات المتناثرة هذا التشظي يعكس حالة الوعي المضطربة وغير المستقرة للذات حيث لا توجد بداية واضحة ولا نهاية محددة للمعاناة.  كل مقطع يقدم جزءاً من الصورة الكلية لكن دون ربط منطقي صارم مما يترك للمتلقي مهمة تجميع هذه الشظايا.

التكثيف الشعري والصور المتناقضة:

يعتمد الشاعر على تكثيف المعنى في عبارات قصيرة ومكثفة مثل / نور في زنازين الروح/ أو / ضحكة تسقط في بئر من البكاء/ هذه الصور تجمع بين المتناقضات (النور -والزنزانة- الضحك -والبكاء) لخلق توتر دلالي يعكس التعقيد الداخلي للتجربة.  هذا التكثيف يدفع المتلقي إلى التوقف والتأمل في المعاني المتعددة والمحملة ضمن كلمات قليلة

المفارقة والسخرية المريرة:

يبرز عنصر المفارقة في النص من خلال التناقض بين التوقعات العاطفية والواقع المؤلم.  فالحب الذي يُفترض أن يكون مصدراً للفرح يتحول إلى /جريمة/ والبدايات المبهجة تصبح /زنازين/ هذه المفارقة تحمل في طياتها نوعاً من السخرية المريرة من هشاشة العلاقات البشرية وتكشف عن وعي الشاعر بعبثية بعض المساعي الإنسانية.

اللغة المجردة والرمزية:

على الرغم من وجود بعض الصور الحسية تميل اللغة في القصيدة إلى التجريد والرمزية. / الغياب/  /الانحناء/ /المشي المائل/ كلها مفاهيم لا تشير إلى أشياء مادية بقدر ما تشير إلى حالات نفسية ووجودية. هذا التجريد يجعل القصيدة أكثر انفتاحاً على التأويلات المتعددة ويمنحها بعداً فلسفياً يتجاوز التجربة الشخصية البحتة.

غياب الأنا والضمير المنفصل:

على الرغم من أن القصيدة تعبر عن تجربة ذاتية عميقة إلا أن الشاعر يستخدم في أحيان كثيرة ضمير الغائب / هم أتوا/

/ لم يلتفت/ / تخلى أحدهم/ يقاسم أحد/ هذا التحول من الأنا المتكلمة إلى ضمائر الغائب قد يشير إلى محاولة الشاعر لتشييء التجربة  أو لتصوير الذات كجزء من تجربة إنسانية أوسع. أو ربما كنوع من الانفصال النفسي عن الألم وفي النهاية يعود لضمير الأنا في الجملة الختامية / فهو المجرم الوحيد/ ليؤكد على مركزية الذات في تحمل العبء

3. العبثية والوجودية في فضاء القصيدة

تتقاطع القصيدة بشكل عميق مع تيمات الفلسفة العبثية والوجودية:

العبثية في السعي العاطفي: تعكس القصيدة إحساساً عميقاً بالعبثية في السعي نحو الحبّ والتواصل

فالرسائل لا ترسل والانتظار يغذي الغياب والآخر لا يلتفت هذه الأفعال المتكررة التي لا تفضي إلى نتيجة. أو التي تفضي إلى عكس المتوقع.  تجسد المفهوم العبثي الذي يشير إلى غياب المعنى والغاية في الوجود

الوحدة والعزلة الوجودية: المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة هو الوحدة المطلقة للذات / لا أحد استحق أن يحاكم معه/ تؤكد على هذه العزلة الجذرية حتى في أكثر التجارب حميمية كالحب تجد الذات نفسها منفردة في تحمل الألم والعواقب هذه الوحدة ليست مجرد غياب للآخر  بل هي شعور عميق بأن الذات محكومة بقدرها الخاص الذي لا يمكن لأحد أن يشاركه  حرية الاختيار وعبء المسؤولية: على الرغم من الألم يمكن قراءة النص على أنه يعكس وعياً بالحرية الوجودية فالبطل / يمشي في طريق الحبّ/ باختياره حتى لو كان هذا الطريق يقود إلى /جريمة/ يتكبد هو وحده عقابها.  هذه الحرية تأتي بثمن باهظ وهو عبء المسؤولية الكاملة عن الذات وعن نتائج تجاربها مما يعزز فكرة / المجرم الوحيد/

خاتمة: بين الانفلات والاحتواء يبقى صدى الذات

في قلب / الجريمة والعقاب/ نجد صدى الوعي الحداثي وهو يصارع ليحتوي مفارقات الوجود. ليس النص مجرد قصيدة  بل هو مرآة تعكس تجربة الذات في زمن يتسارع فيه تفكك اليقينيات وتزداد فيه عزلة الفرد. لقد جسد الشاعر ببراعة الألم الوجودي وحوّل الحبّ من تجربة رومانسية بحتة إلى / جريمة/ فردية يحاكم فيها المرء نفسه بنفسه ويدان بذنوب ليست له في الواقع سوى أنها تهمة الحبّ ذاته. لقد أتقن المبدع الأديب استخدام تقنيات التشظي والتكثيف والمفارقة لتجسيد هذا العالم الداخلي المعقد مما جعل القصيدة نصاً مفتوحاً على قراءات متعددة يعكس بصدق حالة الوعي المعاصر في عالم تتلاشى فيه المعاني ويهرب فيه الآخر من المشاركة الحقيقية.  تبقى الذات هي السجن والقاضي والمدان. إنّ هذا النص يمثل دعوة صادقة للتأمل في هشاشة الوجود الإنساني.  وقسوة التجربة العاطفية في عالم لا يُبقي للحب أحياناً إلا أثر / الجريمة/ التي يرتكبها قلبٌ وحده وهو ما يجعله نصاً شعرياً بامتياز.  يتجاوز حدود القصيدة الغنائية ليلامس عمق التجربة الفلسفية المعاصرة

أبدعت ايها القدير

***

انجاز: مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم