قراءات نقدية
عبد الله الفيفي: أدب ما فوق الواقع!

لكي ننفكَّ من قيد المصطلحات؛ إذ نقف على رزمةٍ منها منذ كتاب (تدوروف)، الذي تُرجِم بعنوان «مدخل إلى الأدب العجائبي»- مثل: الخرافي، والأُسطوري، والعجائبي، والغرائبي، والخوارقي، والفنتازي- نرى أنَّ جماع تلك المصطلحات يتمثَّل في ما هو (فوق الواقع من الأدب). واختزال هذا المصطلح في (السُّرياليَّة) في بعض الكتابات محض اختزال؛ فما فوق الواقعيَّة مفهوم أشمل من مذهب فنِّيٍّ واحد. ولقد يجمع نصٌّ ألوانًا شتَّى من تلك الأشكال غير الواقعيَّة، ما يحملنا على أن نسميها جميعًا (أدب ما فوق الواقع).
على أنَّ الأدب من هذا القبيل ضربان: ضربٌ شَعبيٌّ، موروث، وضربٌ فرديٌّ مختلَق، وغير خلَّاق؛ وإنَّما يَنْجُم لغايات شخصيَّة، أو أيديلوجيَّة، أو إعلاميَّة، أو تجاريَّة.
وإذا كان من بدهيَّات فَنِّ السَّرد عمومًا أن يُفضي النصُّ إلى قيمةٍ ما للمتلقِّي آخر المطاف- لا ميزة في ذلك لنهجٍ في القَصِّ على نهج- فإنَّ النُّصوص لتتفاوت في درجة التركيز على تلك القيمة، ومن ثَمَّ لا بُدَّ تتفاوت أدواتها وأساليبها ومستوياتها الفنِّـيَّة. فكيف إذا كان النَّصُّ يَنْصَبُّ على تأدية تلك الرسالة المنوطة به أوَّلًا وأخيرًا، كما هي الحال في نصٍّ مثل «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، الذي رواه (ابن طُفَيْل) في إحدى رسائله؟ وكيف إذا كان لتلك الرسالة سيطرتها على الناصِّ، بحيث تستحيل إلى عقيدةٍ تتَّخِذ القَصَّ سبيلًا إلى الدعوة والوصول إلى أفئدة الجماهير؟ فنحن عندئذ إزاء نوعٍ من الالتزام، التزامٍ عميقٍ كأعمق ما تكون العقائد. فما مدَى تأثير ذلك كلِّه في البناء النَّصِّي نفسه؟ وما مدَى تمثيل ذاك النَّمَط من النُّصوص خصوصيَّةً جِنسيَّة؟ تلك هي المنطلقات الأساس لدراسةٍ كُنَّا اشتغلنا عليها حول «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، توخَّىنا فيها الوصول إلى نتائج في حقل النظريَّة النُّصوصيَّة.(1)
لقد كان هذا النصُّ السردي- على سبيل النموذج- يمتاز بخصائص، مثل «الما ورائيَّة»؛ إذ يرتبط بالغَيب، ارتباطًا يميِّزه عن «الخَبَر». و«الغيبيَّة» هنا قد تعني ما فوق الطبيعة من العالَم، أو عالَـمًا رُوحيًّا، طُوباويًّا، مفارِقًا للواقع المألوف. كما يمتاز بالإعجازيَّة، دورانًا على المعجِز من الأحداث والاستثنائيِّ منها. وكذا «الفَنْتازيَّة»؛ بحيث يتَّكئ على الخيال المجنَّح، بما هي عليه (الفَنْتازيَّة Fantastic) من تحريضٍ مطلَقٍ للخيال في التصوير، وعدم احتفالٍ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة. وكذا «الميثولوجيَّة»؛ متَّخِذًا من الحكايات الأُسطوريَّة، والمصادر السَّلَفيَّة للمأثورات الشَّعبيَّة، ونحوها ممَّا يندرج تحت مصطلح (الميثولوجيا)، وسيلةً للتخييل والتعبير. وقد تمثَّل هذا في (أُسطورة الظَّبْية الأُمِّ)، إضافةً إلى أنواع منبثَّة من الإشارات ذات المرجعيَّات الميثولوجيَّة المختلفة. كما يَدخل عنصرُ (الحيوان) بصفةٍ محوريَّة أو ثانويَّة. وما نعنيه من ذلك تلك الاستخدامات ذات البُعد الرمزيِّ والتصويريِّ الأساس. ماثلًا في دَور (الظَّبْية) المحوريِّ، إلى أدوار أخرى ثانويَّة لغيرها: كـ(العُقاب)، و(النَّسْر)، و(الغُراب).
ومن خصائص هذا النوع من السرد ما تَكتنفه من ضِنانة به على غير أهله، تتوسَّل الرَّمزَ والإيماء. لكنَّها ضِنانةٌ- كما يصفها (ابن طُفَيْل)- تُشبِه الحِجاب الرقيق، والسَّتْر اللَّطيف، «يَنْهَتِك لِـمَن هو أهله، ويتكاثف لِـمَن لا يستحقُّ تجاوزه حتى لا يتعدَّاه». فهي ضِنانةٌ نِسبيَّة؛ تُتيح لكلِّ قارئٍ أنْ يأخذ من النَّصِّ بحسبه. وهي من لوازم هذا النوع من النُّصوص بخاصَّة؛ مِن حيث هو نصٌّ شِفْرَوِيٌّ رمزيٌّ، ومحكومٌ بأهداف رسالةٍ، تسعَى إلى التسامي والشمول في الشكل والمضمون والتأثير. وتلك الخصائص تُفضي إلى طابعٍ عامٍّ في علاقة هذا النوع من النُّصوص بالمتلقِّي. فـ(النَّبَأ) يرتكز بكلِّ تقنياته الخارجيَّة والداخليَّة، الأسلوبيَّة والخياليَّة، على إحداث التأثير الإيمانيِّ، لا الإقناعي.
-2-
وكما وُجِد هذا النموذج في تراثنا العربي فإن في تراثنا الشَّعبي منه الكثير. ومنه ما هاجر إلى ثقافات أخرى، غربًا وشرقًا. وفي بحثٍ تطبيقيٍّ كنتُ توقفتُ من ذلك على نموذجَين من المأثورات القصصيَّة في جبال (فَيْفاء). لا لاستعادة تراثٍ مجهولٍ إلى بيئته الأُولى وأهله فحسب، ولكن أيضًا للإسهامٍ في الدَّرس الأدبي المقارن بما تهيِّئه المادَّة المدروسة من إسهام في هذا الميدان. ذلك أن الأدب المقارن يفتح الآفاق للتعرُّف على الذات والآخَر، ولسبر العلاقات الثقافيَّة الإنسانيَّة بين شعوب العالم، متخطِّـيًا بمنهاجه الحدود اللُّغويَّة والعِرقيَّة، فضلًا عن الحدود الجغرافيَّة والتاريخيَّة. ليأخذنا في رحلةٍ إنسانيَّةٍ ماتعةٍ، تكسر الفواصل المصطنعة بين بني الإنسان في تجاربهم على هذه الأرض، تنضاف قيمتُها الثقافيَّة والجماليَّة إلى قيمة أدواتها النقديَّة، الأنجع في تناول مادَّةٍ كمادَّة هذا الموضوع. النموذج الأول تمثَّل في بحثٍ تحت عنوان «بين أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء في جبال فَيْفاء وأُسطورتَي كَلْكَامش وأوديسيوس Odysseus». والنموذج الآخَر حكاية أُسطوريَّة تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة». وتبدو تلك الحكايةُ الأصلَ الأصيلَ لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة «سندريلا»، التي اتَّخذتْ صِيَغًا عالميَّة متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى.(2)
والحقُّ أنَّ من هذا التراث الشَّعبي المنسي الكثيرَ ممَّا هو جدير بجمعه وتحقيقه ونشره. وهو تراثٌ نستخفُّ به عادةً، حتى ينبِّهنا الآخَرُ (الغربيُّ) إلى جماليَّاته، أو إلى دِلالاته، أو إلى قِيَمه الإنسانيَّة. والأنكَى أن ننام عليه حتى نَجِد الآخَر نفسه قد سطا عليه، أو قُل: «أفاد منه»؛ بعيدًا عن حُكمٍ في شأنٍ ما فتئ محلَّ التَّحَرِّي والبحث.
-3-
وإذا كان (الإغريق) معروفين بأساطيرهم، فأساطير الساميِّين أقدم، وأوسع انتشارًا، وإنْ اعتمدتْ على الرواية أكثر من التدوين. ولقد كان تأثُّر الإغريق بحضارات المشرق وثقافتهم- ويشار هنا إلى حضارة (بلاد الرافدين) و(وادي النِّيل)- منذ وقتٍ مبكِّر في التاريخ، غير أنها اندثرت الأصول المشرقيَّة في معظمها، وبُرِّزَت الآثار الإغريقيَّة حديثًا، بوصفها أصولًا أُولَى، واشتهرتْ مرجعيَّةً للمؤصِّلين، في غضون التيَّار المؤدلَج بالمركزيَّة الأوربيَّة في العقل والفلسفة والحضارة، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين. وهو ما بات في ذاته اليومَ أُسطورةً من أساطير الأوَّلين! ذلك أن من النتائج التي تحصَّلت عن البحوث الأنثروبولوجيَّة أنَّ العقل الإنساني واحدٌ في كلِّ مكان، يمتلك القُدرات نفسها، على الرُّغم من الفروق الثقافيَّة بين الشعوب.(3)
-4-
أمَّا في البُعد الثقافيِّ الأدبي، فربَّ قائلٍ: إنَّ الأدباء الغربيِّين هم الذين وضعوا أُسس الرواية بمفهومها الحديث، كما وضعوا أُسس أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة. ذلك لأنَّ الأُمة العَرَبيَّة عاشت منذ القرن السابع للهجرة في سُباتٍ تامٍّ على ماضيها، حتى في مجال فنِّهم الأوَّل: الشِّعر. وخلال تلك الحِقبة وُلِد (ابن خلدون) ووُلِدت مقولته الحضاريَّة، حول «غرام المغلوب بتقليد الغالب».
وفي هذا السياق يمكن أن يقال: كذلك إنَّ أدباء أميركا اللاتينيَّة هم أصحاب السبق في خلق «الفانتازيا» السِّحريَّة، التي يتهافت عليها الروائيُّون العَرَب اليوم، أو بالأحرى ما يُسمَّى الواقعيَّة السِّحريَّة؛ من حيث إنَّ مفهوم «الفنتازيا» يبدو مختلفًا شيئًا ما، يشير إلى أساليب اللَّامعقول، والعبثيَّة التخييليَّة. وهي أمورٌ مشتركةٌ بين فنون شتَّى، وهي قديمة الاستعمال في المصطلح النقدي، ولا تتعلَّق بمدرسة اللَّاتين الأميركان في السَّرد تحديدًا. غير أنَّ هؤلاء «السَّحَرة الواقعيِّين» إنما جاءوا متأثِّرين بالتراث العَرَبي. بل إنَّ بعض بيئاتهم نفسها ما زال متأثِّرًا بالبيئات العَرَبيَّة، ولاسيما الأندلسيَّة، وبعضهم ينحدر من جذور عَرَبيَّة، بعيدة أو قريبة. وهم يقولون ذلك، ويفصِّلون فيه، سواء في مجال السَّرد أو الشِّعر. ولذا فهم أكثر عُروبة منَّا، إذا كانت العُروبة انتماءً ثقافيًّا لا نَسَبًا؛ إذ يؤسفك أن تقف على رأي لـ(أكتافيو باث)، أو (ماركيز)، فتجده يتحدَّث عن التراث العَرَبي وتأثُّره به، وعن الأصول التي ألهمته، أو حتى أخذ عنها مباشرة، ثمَّ تجد العَرَبيَّ في المقابل يجهل تراثه، ويُنكِر على نفسه أنه ذو أصولٍ وعطاءٍ إنسانيٍّ كالآخَرين، ولا يرى الفضل إلَّا «للخواجة»، وكأنه بداية التاريخ ونهايته! ذلك لمرضٍ أُمميٍّ من جهة، ولجهلٍ بالذات وبالتراث من جهةٍ أخرى. وأذكر هنا أنني كتبتُ ذات يوم مقالًا عن (الواقعيَّة السِّحريَّة)، وأصولها العَرَبيَّة، فما كان من أحد الموالين التقليديِّين إلَّا أن انتفض ضدَّ ذلك المقال، منافحًا عمَّا يراه ولاءً مطلقًا للغرب في كلِّ إبداع وحضارة!
إنَّ تطوير الغرب، أو المكسيكيِّين تحديدًا، أو غيرهما، لما ثقفوه عن تراثنا أو التراثات الإنسانيَّة بعامَّة أمرٌ لا خلاف فيه، لكن الخلاف في عزو كلِّ إبداعٍ إلى الغرب، بدءًا وانتهاءً، وكأنه جاء هكذا من فراغ، أو هطل عليهم من السماء، وكأنهم لم يُفيدوا فيه من أحد. وكأنَّنا نحن- بحُكم عمانا المطبق الأخير- خُلِقنا هكذا، وكنَّا كذلك طوال التاريخ. وتلك (عقدة الآخَر الغالب)، في كلِّ مجال. بل إنَّها لم تعد تكفينا (عُقدة الغالب)، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون)، بل ترقَّت ليصبح كلُّ ما ليس بعَرَبي جميلًا- في عينينا- وحضاريًّا، وإنْ لم يكن أهله من الغالبين؛ يكفي أنهم ليسوا بعَرَب، وإنْ كانوا متخلِّفين بمعايير التحضُّر.
وبالعودة إلى مجال الرواية والسَّرد، فإنَّ كتَّابنا المحدثين، بدءًا بـ(نجيب محفوظ)، لم يستلهموا التراث العَرَبي، ولم يطوِّروه كما فعل الآخَرون، وإنَّما قلَّدوا الجاهز المستورد من الغرب؛ لأنهم جزءٌ من الأُنظومة الحضاريَّة التابعة العامَّة؛ ولأنَّ ذلك أسهل. ولهذا لم ينشأ في هذا الميدان تميُّزٌ عربيٌّ حديثٌ يُذكَر، ولا مدرسة، ولا لون ولا رائحة. مع أنَّ بدايات الرواية الحديثة والمعاصرة تشهد بأخذها عن تراث العَرَب، إلى درجة السرقة. وهذه مسألة يعرفها الباحثون في النقد المقارن، وهم كذلك غربيُّون لا شرقيُّون ولا عَرَب. بل لعلَّه ما كان لنا أن نعرف قيمة «ألف ليلة وليلة»، ولا «رسالة الغفران»، ولا «التوابع والزوابع»، ولا «حي بن يقظان»، ولا «رحلة ابن فضلان إلى أوربا في القرون الوسطى»، ولا غيرها، لولا جهود المستشرقين في تحقيق تلك النصوص، وإخراجها من غبار السنين. ولولا جهود الآخَرين في تنبيهنا إلى أهمِّيتها، وقيمتها، وسبقها، فيما كان الأدب الغربي ما يزال «شِعريًّا» بما في ذلك المسرح، ومنذ الإغريق. وعندئذٍ بدأنا نستعيد الذاكرة! لكنها ذاكرة لمَّا تُثمر بعد إبداعًا.
إنَّ أوَّل نصٍّ يمكن أن يمثِّل نصًّا روائيًّا هو نصٌّ عَرَبي، إنْ أخذنا «حيَّ بن يقظان»، لـ(ابن طفيل الأندلسي)- الذي سطا عليه غربيُّون منذ بدايات النهضة، وليس نص «روبنسن كروزو Robinson Crusoe»، لـ(دانيال ديفو Daniel Defoe، ـ1731) إلَّا إحدى تلك السطوات- أو أخذنا سِواه من النصوص، المطبوعة، أو المخطوطة، أو المطمورة.
وهكذا فإن أسلوب السَّرد على طريقة الواقعيَّة السِّحريَّة هو أسلوب الحكي العَرَبي، الذي نجده قديمًا لدَى (الجاحظ) وغيره، بل نجده لدَى أمهاتنا وجداتنا البسيطات، اللائي سمعنا منهن بعض قصص «ألف ليلة وليلة»، وقِصصًا شبائه بها، قبل أن نسمع بذلك الكتاب التراثي، فضلًا عن أن نقرأه.
ولقد كان بدأَ، فيما نعلم، هذا النَّسَق السَّردي الشَّعبي منذ العصر الأموي مع ازدهار فن القُصاص، و«الحكواتيَّة»، الذي كثيرًا ما يمتزج بالشِّعر والأُسطورة والاستطرادات والنقد السياسي إلى غير ذلك. فهل كُنَّا سنعترف بأسلوبنا السَّردي لولا أن عُلِّب لنا في أميركا اللَّاتينيَّة، وجاءنا على طبقٍ من الإبهار النقدي الحداثي، والمصطلحات السِّحريَّة، والتبشير به مدرسةً معاصرة، وما هو إلَّا بضاعتنا رُدَّت إلينا؟!
نحن، إذن، لا تعجبنا أشكالنا إلَّا إذا رشحت لنا جماليَّاتها عبر المرآة الغربيَّة! بل بالأصح، لا نرى أنفسنا إلَّا من خلال تلك المرآة. وهذه الغفوة قد آن الصحو منها. بل هو العمى الذي يجب أن نجلِّيه عن قلوبنا قبل عيوننا! غير أنَّه لو نادى أحد بغير السائد في النسخة المستوردة، قبل أن يشهد على ذلك شاهدٌ غربيٌّ معتمَد، لقيل عنه: متعصِّب، متخلِّف، متكلِّس، تقليدي، لا يُدرِك القفزات الحديثة التي خطاها الغرب، وإنْ كانت تلك الخطوات إنَّما مشت على جثَّته، بعد أن لبستْ ثيابه. إنَّه العمى الحضاري، الذي نمرُّ بدورته، كما مرَّت به أُمم قبلنا. لا ينفي ذلك ما لدَى الآخَرين من إبداع واستلهام وإسهام، غير أنَّ الفنون تراكم، وتوارد، وتثاقف، وتلاقح. أمَّا أنْ تصل بنا دماثة التواضع إلى نكران الذات، أو أنَّنا كنَّا شيئًا مذكورًا في مسيرة الدهر كلِّه، فإنَّما ذلك هَوانٌ صعب، بَيْد أنَّ مَن يَهُنْ يسهُل الهَوان عليه!
إنَّ المغامرات الحديثة، والحداثيَّة، وما بعد الحداثيَّة، هي لكسر القالب الأوربي- الذي وُضِعت الرواية بأُسسها الحديثة فيه- والتمرُّد عليه. أعني التمرُّد على (البروكرستيَّة Procrusteeanism) الحداثيَّة، نسبةً إلى (سرير بروكرست) في الميثولوجيا الإغريقيَّة، لقولبة كلِّ العالم وفق مقاس السرير الغربي. من أجل العودة إلى أساليب السَّرد الأصيلة، والمتنوِّعة بحسب الشعوب المختلفة. وما الواقعيِّة السِّحريَّة إلَّا إحدى تلك الصيغ للتمرُّد على الدمغة الاستنساخيَّة التي سادت العالم، كجزء من الدمغات الأخرى، في نطاق الاستعمار الثقافي، سعيًا نحو العودة إلى قيم الاختلاف والتنوُّع الإنساني المثري في الثقافات واللُّغات.
-5-
على أنَّ من الحق القول: إنَّ من النصوص الحديثة والمعاصرة ما لا يرقى لقيمةٍ أدبيةٍ أو اجتماعيةٍ تُذكر. ليس ذلك في السَّرد وحده، بل في الشِّعر أيضًا. ولا سيما حين يصبح النصُّ محض وسيلة إلهاء، وإغواء، وتغييب. يجاور ذلك فيه أحيانًا عنفٌ لُغوي، ممَّا يُعَدَّ عَرَضًا لمَرَضٍ معاصرٍ عالمي، أكثر استشراءً. والعنف اللُّغوي ليس سِوَى تمظهرٍ صوتيٍّ للعنف الدموي. وأمَّا ألاعيب الأدباء والنقَّاد المبرِّرة لمثل هذا العنف، فلا تنطلي إلَّا على الثقلاء من أتباع الهوى، أو البلهاء من حوارييهم. وأنَّى للجمهور الذي يصفِّق عادةً لمثل هذا الأدب، ويتهافت عليه، أن يفقه في النهاية الفرق بين الحقيقة والمجاز، وَفق نظريتهما في البلاغة العَرَبيَّة، أو يعي نظريَّات (كلود ليفي شتراوس) في المعاني الرمزيَّة للكلمات.
وما هؤلاء الكتاب من العَرَب غير تلاميذ لبعض الخطاب الأدبي الغربي الحديث، الذي يعجُّ بالبذاءات، وبالعنف اللُّغوي، وتصوير الجريمة، والرُّعب، وتطبيع النفوس على تقبُّل الأعمال الدمويَّة، وغير الأخلاقيَّة بأيِّ معيار، سواء في الأدب أو السينما، مسوَّقةً على أنها عبقريَّةٌ وابتكارٌ إبداعي، لا يُشقُّ له غبار! ويمكن أن نضرب مثلًا هنا بمدرسةٍ تأسيسيَّةٍ في هذا المضمار، وهي مدرسة (إدغار ألان بو Edgar Allan Poe، ـ1849)، الشَّاعر والقاص والناقد الأميركي، المشهور بأدبه الغرائبي الغامض، والمعدود رائدًا في الأدب البوليسي. وفي هذا النوع الأخير كان يكتب (بو) أعمالًا أشبه بالتحريض على الإجرام، والتحبيب فيه، أكثر من كونها أدبًا بوليسيًّا، يرسم للجريمة عقابها؛ لتكون له حينئذٍ رسالته النبيلة، حسب مقولة التطهير الأرسطيَّة، أو حتى رسالته العقلانيَّة. من ذلك، مثلًا، قصة (إدغار ألان بو) القصيرة بعنوان «The Tell-Tale Heart»، التي يمكن ترجمتها إلى «القلب الحاكي، أو الواشي»، المنشورة 1843. وتصوِّر القِصَّة جريمة قتلٍ بشعةٍ جِدًّا ضِدَّ رجل عجوز، وهو نائم. ولم يكن للقاتل من سببٍ منطقي، وإنْ كان منطقًا إجراميًّا، غير أنَّ البطل، كما قال لنا الكاتب، كان يُحِبُّ الرجل العجوز! الذي لم يخطئ في حقِّه قط، ولم يوجِّه إليه أيَّة إهانة، لكن عينه الزرقاء، التي تُشبه عين نَسر، كانت تزعج القاتل! وتذكِّرنا فكرة القصَّة هنا بحكاية «عين الذئب»، للقاصِّ السعودي (محمَّد علوان)، مع الفارق.(4) وهكذا كانت عَين العجوز تزعج البطل المغوار، فقرَّر أن يقتل صاحبها ليتخلَّص من تلك العَين المزعجة إلى الأبد.. هكذا ببساطة، أو قل: بسخافة، قد تُنعَت بالرمزيَّة! ثمَّ بعد شرحٍ مفصَّلٍ طويلٍ ومملٍّ لكيفيَّة تخطيط البطل لتنفيذ الجريمة، الذي استمر عدَّة ليالٍ، يشرح الكاتب للقارئ كيف قام بطله بتقطيع جثة ضحيَّته وإخفائها. كلُّ ذلك بمتعةٍ وتفاخرٍ والتذاذٍ جنوني. لتصيبه في آخِر القِصَّة نوبةٌ هيستيريَّةٌ نفسيَّة، غير مفهومة الأسباب أيضًا، تجعله فجأةً يعترف من تلقاء نفسه لرجال الشرطة بما ارتكبه.
وتلك قِصَّة إجراميَّة بمحتواها أوَّلًا، بائسة، ثانيًا، في فنيَّاتها القصصيَّة. بل قُل: هي قِصَّة لا قِصَّة فيها أصلًا، فلا الجريمة وقعت لأسباب، ولا اعتراف المجرم جاء كذلك لأسباب، واقعيَّة أو غير واقعيَّة. وكأنما الهدف لا يعدو تطبيع الجريمة في المجتمع، بل تعليم هواة المجرمين كيف يمكن أن يجعلوا جرائمهم لُعَبًا احترافيَّة وممتعة. والعجيب أنَّ هذه القِصَّة تقدَّم في (الولايات المتحدة الأميركيَّة) في كتاب منشور بعنوان «The Best Short Stories for High School»، «أفضل القصص القصيرة لطلبة المدارس الثانويَّة»، وقد جعلوها أُولى تلك المفضَّليَّات من القصص القصيرة لطلبة المرحلة الثانويَّة. وبعدها قصَّة «The Murder»، «القاتل»، لـ(جون ستاينبك John Steinbeck، ـ1968)، الفائز بجائزة نوبل في الأدب، لعام 1962.
وإذن، لا غرابة في ما تشهده الشخصيَّة المعاصرة من تشوُّهٍ، وامِّساخ، ونزوعٍ إجرامي، وجنوحٍ إلى العنف والإرهاب. بل لا غرابة كذلك أن نشهد حديثًا تفنُّن الدول الغربيَّة نفسها في ارتكاب جرائم الإبادة للشعوب، وتأييد ذلك ودعمه بالمال والسلاح، وشرعنته بشتَّى ألوان الخطابات النفاقيَّة واللا أخلاقيَّة؛ فهم خريجو تلك المدارس الأدبيَّة والتعليميَّة، التي تعلِّم فنون الجريمة والانحطاط. هذا علاوة على مدارس تراثهم، بأيديولوجيَّاته العتيقة، التي من تمخُّضاتها أن ترى (الولايات المتحدة الأميركيَّة) اليوم مستعدَّة لدعم الاحتلال الإسرائيلي لـ(فلسطين)، ولو باعت في سبيل ذلك بلاد العم سام بحذافيرها- المحتلَّة بدورها- تاريخًا واقتصادًا وجغرافيا.
إنها الثقافة المسخ- وقد تحوَّلت من نتاج اجتماعي، إلى نتاج أدبي، وتعليمي، وإعلامي- يُمجَّد رموزها، ويمنحون الجوائز، وتُفتَّح لهم أبواب الخلود الوهميَّة، ويروَّج لهم بوصفهم قادة فكر، وروَّاد أدب، ونجوم إبداع، ونماذج عُليا للأجيال الناشئة، وإنْ كانوا بالأحرى مرضى نفسيين، مختلِّين إنسانيًّا، أكثر من أيَّة صفة أخرى شكليَّة يمكن أن تُلصَق بهم أو يُلصقوا بها.
وما الأدباء العَرَب المحدثون؟
إنْ معظمهم إلَّا أيتام، اقتاتوا على موائد أولئك اللئام. مع عُقَد نقصٍ أخرى راسخةٍ لا تخفى، تجعلهم يَعُدُّون كلَّ غربيٍّ قِمَّةً من قِمم التحضُّر والإبداع، ونموذجًا للتأسِّي، لكلِّ حُرٍّ ومجدِّد. والغربي، إلى ذلك، معصومٌ من السَّفَه والعَتَه، وهو فوق النقد والنقاش دائمًا. أمَّا إنْ بدا قبيحًا، فما ذلك إلَّا لأنَّ الشرقيَّ المسكين- لتخلُّفه- لم يَرْقَ إلى المستوى الذي يُدرِك من خلاله عُمق القُبح الجميل المستورد، ومغازيه النيِّرة، ومآربه العظيمة!
نعم لقد آن الأوان لنقدٍ ثقافيٍّ جادٍّ للأدب، فأين هو؟
وإلَّا كيف يجهد ناقد نفسه في التنقيب عن الأنساق المضرَّة بثقافة المجتمع، المضمرة في النصوص الشِّعريَّة التاريخيَّة، المجازيَّّة، الملبسة، والنخبويَّة جدًّا، ولا يرى الوصفات الجاهزة المكشوفة اليوم، والصريحة، والمباشرة ،والمشروحة بمختلف الوسائل الإيضاحيَّة، المقروءة جدًّا، والمطبوعة جدًّا، في الرواية العَرَبيَّة، ورقيًّا وإلكترونيًّا؟! أيهما أكثر خطورةً هنا، وتأثيرًا على الثقافة، والأخلاق، والمجتمع؟ إلَّا إنْ كانت تلك الأنساق الخفيَّة القديمة- الملومة في إفساد السَّويَّة الثقافيَّة- منظورًا إليها من وجهة نظرٍ عوراء، تُظهر بعضها وتُغطِّى آخَر، وتمتدح ما وافق المزاج- لأنه وافق المزاج- وتعيب نقيضه. وعندئذٍ يكون النقد نفسه قد تَأَدْلَج، فلم يعد نقدًا، ولا عِلمًا؛ إذ لا يرى إلَّا ما يريد، وتُصبح الثقافة تلك مرادفةً للسخافة والسفاهة!
-6-
بالأمس اختُطف الشِّعر العَرَبي إلى ضروب من الهَلْس(5) العَرَبي، تارةً باسم النثر وقصيدته الخُلاسيَّة، وتارةً باسم السَّرد والرواية وديوانهما المعاصر. ثمَّ ها نحن هؤلاء اليوم نشهد اختطاف الرواية العَرَبيَّة نفسها، باسم الرواية التجريبيَّة الفارغة، أو الفنتازيا والعجائبية، أو قل: ما فوق الواقعيَّة. فإذا كان لمضامين تلك الضروب من الأدب في تراثنا العَرَبي القديم وفي تراثنا الشَّعبي القريب مسوِّغاتها وقِيَمها الثقافيَّة، فلا أرى لاستدعائها اليوم من قيمةٍ أدبيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ أو ثقافيةٍ يُعتدُّ بها، بل هو إسهام مع غيره في تغييب العقول، في عصر العِلْم والتحدِّيات المحدقة بالوعي العَرَبي على كل المستويات. ومن هنا يلزم التفريق بين حمولات أدبٍ كانت لائقة بعصر الطفولة البَشَريَّة وأدبٍ يسعى إلى أن يعود بنا اعتسافًا إلى تلك العصور الطفوليَّة، مسثمرًا بقايا جاهليَّاتنا ونزوعاتنا البدائيَّة، التي لم يُفلِح في علاجها التعليم العَرَبي، إنْ لم يكن ما انفكَّ يُمِدُّها بإكسير الحياة الأبديَّة!
وتلك عجائبيَّة معاصرة، حقًّا، تفوق عجائبيَّات التراث مجتمعة!
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) بحثٌ محكَّمٌ منشورٌ ، (1999)، تحت عنوان «في بِـنْـيَـة النَّصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبإ حَيِّ بن يقظان: نموذجًا)»، (مجلَّة «أبحاث اليرموك»، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).
(2) يُنظَر كتابنا: (2015)، هِجرات الأساطير: من المأثورات الشَّعبيَّة في جبال فَيْفاء إلى كَلْكامش، أوديسيوس، سندريلا (مقاربات تطبيقيَّة في الأدب المقارن)، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود).
(3) يُنظَر: ليفي-شتراوس، كلود، (1986)، الأُسطورة والمعنى، ترجمة: شاكر عبدالحميد؛ مراجعة: عزيز حمزة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 38.
(4) الحكاية تبدأ هكذا، (قِصَص قصيرة)، (الرياض: دار العلوم، 1403هـ= 1983م)، 80- 83. ولعل فكرة «عَين الذئب»، كما صوَّرها (علوان)، جاءت من إيحاء عَين (إدغار ألان بو) في قِصَّته تلك. غير أن قِصَّة علوان قد استطاعت الارتقاء عن وحل (بو) إلى شِعريَّة سرديَّة، ذات قيمة فنيَّة. فصَّلتُ القول فيها في كتابي (فصول نقديَّة في الأدب السُّعوديِّ الحديث، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود، 2014، 1: 255- 281).
(5) من معاني (الهَلْس) في العَرَبيَّة: مرض السُّلِّ، والهُزال والضمور بصفةٍ عامَّة. وتُحسِن العاميَّة استخدام هذه المفردة في الإشارة إلى كلِّ كلام فارغ، هزيل، مسلول المعنى، لا ماء فيه.