آراء

عبد السلام فاروق: حرق الذاكرة.. لماذا دمر الغزاة مكتبات العراق؟

جريمة ضد الإنسانية

لن أبدأ مقالي بالعبارات التقليدية عن "عراقة الحضارة العراقية"، فما عادت هذه العبارات تحمل معنى بعد أن شاهدنا العالم يقف متفرجًا أمام أكبر عملية إبادة ثقافية يشهدها القرن الحادي والعشرين. ما حدث لمكتبات العراق والمخطوطات النفيسة ليس مجرد "خسارة" كما يسميها البعض بل هو جريمة حضارية منظمة، تكررت عبر التاريخ كلما أراد الغزاة محو هوية شعب وإلغاء ذاكرته الجماعية.

لن أتحدث عن "همجية المغول" كما يفعل المؤرخون التقليديون، بل عن العقلية الإجرامية ذاتها التي تتكرر عبر التاريخ. عندما دخل هولاكو بغداد سنة 1258م، لم يكتفِ بذبح السكان، بل أحرق مكتبة بغداد العباسية التي كانت تحتوي على عصارة فكر المسلمين في أكثر من 600 عام، من علوم شرعية وطبية وفلكية وفلسفية. الفرق بين هولاكو وداعش؟ فقط في أسلحة الدمار! أما النتيجة فهي واحدة: تحويل مراكز المعرفة إلى كومة رماد.

حرق المغول المكتبات لأنهم أدركوا -بغريزتهم الهمجية- أن المعرفة هي سلاح المقاومة الأقوى. وكرر تنظيم داعش نفس الجريمة في القرن الحادي والعشرين، عندما دمر المكتبة المركزية في الموصل عام 2014، وأحرق آلاف المخطوطات النادرة بحجة أنها "تناقض تعاليم الإسلام". أي إسلام هذا الذي يحرق العلم؟ إنه إسلام المغول الجدد الذين لم يتعلموا من التاريخ إلا فنون الدمار.

بينما كان العالم منشغلاً بخطابات "تحرير العراق"، كانت القوات الأمريكية تقف متفرجة -بل وتشارك أحيانًا- في أكبر عملية نهب منظم للمؤسسات الثقافية في التاريخ الحديث. كيف يمكن لنا أن نفسر أن المكتبة الوطنية العراقية فقدت 60% من مجموعاتها، و90% من كتبها النادرة، وكل خرائطها وصورها تحت "حماية" القوات الأمريكية؟

كان نهب المتحف العراقي ومكتبة الأوقاف ودار الوثائق القومية عملية ممنهجة لسرقة ذاكرة العراق. أليست مصادفة أن نكتشف لاحقًا أن بعض الجنود الأمريكيين كانوا على اتصال بتجار الآثار قبل الغزو؟ وأليست مصادفة أن تكون أهم الوثائق التاريخية اليوم محفوظة في المكتبات الأمريكية والبريطانية؟

شارع المتنبي..

شارع المتنبي في بغداد ليس مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو رمز حي لاستمرار المعرفة رغم كل محاولات القتل. لكن حتى هذا الشارع لم يسلم من القتل البطيء. لقد تحول من ملتقى للمثقفين إلى ساحة رعب بعد التفجيرات المتكررة التي طالت مكتباته العريقة مثل المكتبة العصرية (تأسست 1908) ومقهى الشابندر التراثي.

ما حدث لشارع المتنبي هو استعارة مصغرة لما حدث للعراق كله: تحويل أماكن الثقافة إلى ساحات للموت، وتحويل المثقفين إلى أهداف متنقلة. عندما يموت شارع الثقافة، تموت الأمة ويبقى الجسد فقط.

لماذا تحرق المكتبات؟

السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "كيف تم تدمير المكتبات؟" بل "لماذا يتم تدميرها دائمًا؟". الإجابة بسيطة ومروعة في نفس الوقت: لأن من يحرق الكتاب يعرف أن الأفكار لا تموت بسهولة، ولأن من ينهب المخطوطات يدرك أن الهوية لا تُباد إلا بمسح الذاكرة.

لقد حاول المغول محو الحضارة الإسلامية ففشلوا، وحاول داعش محو التنوع العراقي ففشل، وحاول الغزاة الجدد سرقة التاريخ فسيفشلون. لكن الثمن دائما ما يكون دماء وأحلام أجيال بكاملها.

رغم كل هذا الدمار، تبقى هناك بصيص أمل. مبادرة دار المخطوطات العراقية الأخيرة لرقمنة وحفظ ما تبقى من 47 ألف مخطوطة تثبت أن العراق ما زال يقاوم بطريقته. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية أمام حجم الكارثة.

اليوم، ونحن نستمع إلى محاضرات مثل التي قدمها الدكتور غازي حميد في مركز الملك فيصل مؤخرا ، يجب أن نتحول من مرحلة البكاء على الأطلال إلى مرحلة المطالبة الدولية باستعادة المسروقات، وتوثيق ما تم تدميره، وإعادة بناء ما يمكن إعادة بنائه.

العراق ليس مجرد أرض للنفط والدم، إنه أرض لأول كتابة في التاريخ، وأول مكتبة عرفها البشر. محو هذه الذاكرة ليس جريمة ضد العراقيين فقط، بل ضد الإنسانية جمعاء. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى سيعتبر العالم هذه الجرائم "إبادة ثقافية" تستوجب محاكمة دولية؟

هذا ليس مقالًا، بل هو صرخة غضب في وجه صمت العالم!

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم