اخترنا لكم

سالم سالمين النعيمي: المجتمع.. واختفاء الأخلاق!

هذه ليست وجهة نظر فلسفية، بل نتيجة لأبحاث في علم النفس التطوري، وعلم الأعصاب الأخلاقي، والاقتصاد السلوكي، والذكاء الاصطناعي، ومع تراكم الأدلة تظهر صورة جديدة ومقلقة، حيث إن المستقبل لن يشبه الماضي أخلاقياً، والمبادئ التي اعتبرها البشر مقدسة ستفقد معناها في عالم يعاد فيه تعريف السلوك، والوعي، والنية، والمقبول اجتماعياً بحسب الفئات، ولم يعد القبول المجتمعي قراراً جماعياً مشتركاً، فالقوانين والتشريعات المحلية المتأثرة حتماً بالقوانين الدولية قد تجعل المرفوض في السابق في مجتمع ما أمراً مقبولاً اليوم، ولا يجرؤ من يعارضه بالجهر بذلك، بل في البيت الواحد قد يتفاوت تعريف الفعل الأخلاقي من شخص لآخر.

البداية جاءت من علم النفس التطوري الذي كشف أن الأخلاق ليست وحياً أو مطلقاً، بل استراتيجية للبقاء، فالصدق، والإيثار، والتعاون، والولاء، وعدم الاعتداء كلها ظهرت كآليات ضرورية لبقاء المجموعات الصغيرة التي عاش فيها الإنسان القديم، ومع تمدد المجتمعات تحولت هذه السلوكيات إلى ما نسميه «قواعد أخلاقية»، وجاء الدين ليضيف لها بعداً آخر، روحياً وتشريعياً خاصاً، فالأخلاق لم تبنَ في الأساس على حقيقة ثابتة، بل على بيئة محدودة من مجتمع صغير، وموارد شحيحة، وخطر وتهديد خارجي دائم، ونسبة القدرة على الاستمرار في الحياة، ووعي بسيط غير معقد.

ثم جاءت الضربة الثانية من علم الأعصاب، فالدماغ لا يحمل مركزاً أخلاقياً كما كنا نعتقد، بل يحمل شبكات من العواطف والذاكرة والانحيازات والتجارب، إذاً القرارات الأخلاقية ليست تطبيقاً لمبادئ ثابتة، بل استجابات عصبية تتأثر بالاحتياجات الفسيولوجية والشعورية والنفسية والمعتقدات، والخوف، واللذة، والتربية، والكيمياء الدماغية، وحتى الطعام والهرمونات.

فالإنسان قد يقتل إنساناً آخر دون ندم متى ما كان هناك قبول متعارف عليه لفعله، أو لديه مسببات هو يراها منطقية، ويؤمن أنها أخلاقية، وقد أظهرت تجارب معهد MIT الأميركي أن تغييراً بسيطاً في مستوى السيروتونين، أو نشاط اللوزة الدماغية يمكن أن يحوّل قراراً أخلاقياً من القبول إلى الرفض، ولهذا نحن اليوم بما نمر به من مؤثرات خارجية وداخلية نتعرض لها ونستخدمها بصفة يومية دائمة، نشارك الآخرين صياغة مفهومنا للخير والشر، والصواب والخطأ، وقد يحرضنا بطريقة غير مباشرة لتبني موقف معين، وأن ندافع عنه بشراسة.

من جانب آخر، إذا كانت الأخلاق نتيجة كيمياء، فكيف يمكن أن تكون ثابتة؟ ثم يظهر الذكاء الاصطناعي ليقلب المسألة رأساً على عقب! فالآلة لا تملك نوايا، ولا عواطف، ولا معايير بشرية، ورغم ذلك تصنع قرارات أخلاقية كتصنيف الأولويات الطبية، واتخاذ قرارات القيادة الذاتية، وتوزيع الموارد بدقة تفوق الإنسان! وهنا يصبح السؤال مخيفاً: فإذا كانت الأخلاق قابلة للتنفيذ دون وعي، فهل هي حقاً قيمة، أم مجرد خوارزمية تنظيمية؟

ومع صعود الذكاء الاصطناعي الإدراكي، تبدأ فكرة نية الفعل بالتآكل. النية كانت أساس الأخلاق، أما في عالم تتخذ فيه قرارات حساسة دون تدخل بشري، فإن الأخلاق تتحول إلى معادلات احتمالية، وليس إلى مبادئ مع عامل جديد، وهو تفكك الهوية البشرية ذاتها. فالإنسان الذي عاش بوعي واحد سيعيش قريباً بوعي رقمي- بيولوجي مزدوج، وستصبح القرارات الأخلاقية موزعة بين أنظمة دماغ بشري وذكاء اصطناعي مساعد، ومعالجة حسية تأتي من مصادر متعددة، فهل سيكون القرار الأخلاقي حينها قراراً إنسانياً؟ أم اتفاقاً بين أجهزة داخلية وخارجية؟

فالقيم والمبادئ العليا للإنسان تخالف في الغالب طبيعته البيولوجية وطموحه وأطماعه ورغباته، ودوافع الأنانية وحب الذات لديه، ناهيك أن الأخلاق التي كانت تعتمد على النية، والعاطفة، والتجربة الشخصية، ستفقد معناها في عالم تنتج فيه الأنظمة الذكية معظم القرارات. وهذا لا يعني أن الإنسان سيفقد إنسانيته، لكنه سيفقد شكل الإنسانية القديم، وسيدخل مرحلة جديدة لا تقوم على الأخلاق، بل على تنظيمات معرفية تبنى وفق الحاجة لا وفق المقدس. وسيكون الخير ما يضمن الاستقرار، والشر ما يهدده، وليس ما يجعل الإنسان أفضل أو أسوأ. ونعم إننا نقترب من نقطة يصبح فيها السؤال ليس ما هي الأخلاق؟ بل أي نظام سلوكي يناسب نوع الإنسان القادم؟ ويجب أن يعلم عالمانا الإسلامي والعربي، أن الذكاء الاصطناعي دون وعي بشري خارق بالبيئة المحيطة بنا يعد تحدياً جوهرياً وتهديداً مباشراً، وإن لم نتمكن من إنشاء اللغات الكبرى للخوارزميات، أي نماذج اللغة الكبيرة (Large Language Models - LLMs)، وهي ليست جزءاً من سيادتنا الرقمية، فلا جدوى من الحديث عن الأمن السيبراني، وسنخضع حتماً للهيمنة الرقمية والمادية، وإن كنا نعتقد أننا في مقعد القيادة.

***

سالم سالمين النعيمي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 ديسمبر 2025 23:00

 

في المثقف اليوم