اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الكذب والسياسة في الواقع الراهن

في العدد الأخير من مجلة «فيلسوفي ناو» البريطانية، كتب الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» عن ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي كثر الحديث عنها مؤخراً في سياق موجة الشعبوية الجديدة الصاعدة في العالم. لقد لاحظ جيجك أن ما يطلق عليه «موت الحقيقة» في السياسة ليس ظاهرة جديدة برزت مع الشعبويات الراهنة، فالتلاعب بالحقائق وتصريفها في الرهانات السلطوية والتعبوية من الأمور المألوفة في السابق، وقد شهدت أوجها في عصر صراع الأيديولوجيات التي كانت تفرض بالهيمنة والقوة حقائق رسمية، رغم أنها تتأسس على قواعد ومرجعيات كاذبة.
فالذين يبكون على الحقيقة اليوم، هم في الغالب يندبون مفهوم الحقيقة الأحادية الراسخة التي كانت تضمن حداً معيناً من الاستقرار الاجتماعي، على حساب الحقائق المتعددة المتمايزة التي هي جوهر التعددية الفكرية والقيمية في أي مجتمع حر ومفتوح. وبالاستناد إلى مقولات التحليل النفسي (لدى عالم النفس الفرنسي جاك لاكان خصوصاً) يميز جيجك بين «الكذب الذي هو حقيقة» كما لدى الشخص الهستيري الذي تثبت المعاينة الطبية أن أعراض علته تكشف عن حقائق دفينة مخفية غير واعية، و«الحقيقة التي هي كذب» كما لدى الشخص الذهاني الذي يستخدم الوقائع الحقيقية في التضليل والتنكر للحقائق الموضوعية.
ومن هنا يستنتج لاكان أن الحقيقة لا تكمن في مضمون الخطاب، بل في الممارسة الخطابية نفسها ذات الأوجه والخيارات المتنوعة المتعددة. ومع ذلك لا يمكن الخلط بين الحقائق المستقلة عن الذات وما يسمى الآن بالحقائق البديلة التي هي اختراعات لفظية لا تستند للواقع وإن كانت لها آثار فعلية حقيقية.
إن هذه الحقائق البديلة التي أشار إليها جيجك في مقاله المذكور، هي أقرب لمفهوم «الأسطورة» لدى عالم الاجتماع بيار بورديو، من حيث كونها خرافة تفضي إلى نتائج حقيقية غير وهمية.في السياسة لا يمكن الوصول إلى حقائق يقينية على غرار الأحكام المنطقية أو القوانين الطبيعية، لكونها تتعلق بأمور عرضية احتمالية وملتبسة. ذلك ما بينته الفلسفة منذ أرسطو، وأكدته الفلسفات التأويلية المعاصرة في رصدها للحاجز الدلالي الواسع بين تصورات الوعي والرهانات الحقيقية للممارسة التي تقتضي خطاباً ثالثاً كاشفاً للمعاني الخفية غير الواعية. في التقليد الإسلامي مقاربتان متعارضتان حول مفهوم السياسة، التي هي من جهة تطبيق قيم الفضيلة والعدل في الواقع الاجتماعي، وهي من جهة أخرى تكريس للقوة والتسلط والقهر في المجال المدني.
لقد عرّف الغزالي السياسة بالمعنى الأول بقوله «إنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق الصحيح في الدنيا والآخرة»، فالأساس فيها هو الخير والعدل، أو «صناعة الخير العام» بلغة ابن خلدون. لكن الغزالي هو أيضاً مَن يقول إن مدار الإمامة هو «الشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع».
وبالنسبة لعلماء الإسلام وفلاسفته في العصور الوسطى فالمثال الأخلاقي للسياسة هو الحقيقة والخير، إلا أن هذا المثال يظل طوبوئياً متعارضاً مع الواقع الفعلي الذي يتطلب تزييف الحقائق لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي، بما نلمسه في كتابات الأدباء والكتاب في التراث العربي الإسلامي القديم
لقد عالجت الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة ارندت هذه التمييزات في مقال شهير حول «الكذب والعنف»، بينت فيه الفرقَ النوعي بين الحقائق الموضوعية التي تتعلق بالظواهر الطبيعية والآراء والمعتقدات الجماعية التي لا تخضع لمنطق التحقق التجريبي، ومن ثم لا بد من منحها حق التنوع والتعدد الحر انسجاماً مع المنظور الليبرالي الحديث للسياسة.
الفرق هنا واضح بين التصور التكيفي الإجرائي للسياسة الذي يشرع نمطاً من التلاعب بالحقيقة وتزييفها والتصور التأويلي الذي يرفض إمكانية بناء قول يقيني أحادي في السياسة. الشعبويات الحالية تتميز بكونها تتجاوز خط الفصل الابستمولوجي والقيمي بين الصواب والخطأ، مفترضةً أن الحقيقة متوقفة على معيارية التلقي لا مضمون الخطاب نفسه، فما يصدقه الناخب هو الحقيقة ذاتها بمعزل عن تطابق الخطاب مع الواقع.
ولهذه الظاهرة علاقة بديهية بتحولين كبيرين هما: نهاية احتكار المعلومة العمومية نتيجة لوسائل الاتصال الجماعي الجديدة ونضوب الأنساق الأيديولوجية السابقة. وحاصل الأمر أن السياسة، وإن كانت لا تقوم على الحقائق الوثوقية المطلقة، كما أن المعيار فيها هو المصلحة والنجاعة العملية وليس المحددات النظرية المجردة، إلا أنها لا تقوم دون مرجعية الحقيقة التي تتجسد موضوعياً في تعددية الآراء والأفكار والتصورات بغض النظر عن تقويمها المعياري.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 يوليو 2025 00:26