اخترنا لكم

سالم سالمين النعيمي: العقل الديني وتابوهات «التحريم»!

أرى أن الدين ضرورة روحية لا تخضع للواقع التجريبي، وله مكان في كل زمان ومكان وهو جيني في كل إنسان. وإن لم يؤمن الفرد بدين فهو يؤمن بفكر أو توجه آخر. وتفسير البشر للأديان التقليدية وماذا فعلوا بها ونسبوه إليها عبر كل الأوقات جعلهم محاصرين بين قيد المقدّس وفضاء الممكن، ليتجاذب العقل الديني تياران متصارعان: أحدهما يدفعه نحو الإبداع والاكتشاف، والآخر يشده إلى التحريم والتقييد. وهذه الثنائية ليست جديدة بل تمتد جذورها عميقاً في التاريخ، حيث تشكلت العقلية الدينية عبر تراكمات ثقافية ودينية واجتماعية انطلقت من البيئات المحلية لتجعل التحريم أداةً مركزية في تنظيم الفكر والسلوك. وأصبح التحريم جزءاً من السياسة، وحل محل الكثير من القيم الأخلاقية أكثر من كونه ضرورةً اجتماعيةً وروحيةً، وهو ما ينطبق على معظم الديانات والطرق الروحية بغض النظر عن اشتراطات المحرمات فيها.
وبالمقابل ليس كل تحريم سلبياً في أي مجتمع، وهناك محرمات وظيفية تضمن تماسكه مثل تحريم القتل والسرقة والخيانة، وهي محرمات نزل بها تشريع قرآني واضح وتحرمه كل الديانات. والمعتقدات الروحية تخدم غرضاً أخلاقياً وقانونياً، فهي ليست مجرد قيود بل أدوات لضبط التفاعل الاجتماعي وضمان استقراره، وفي هذا السياق يُمكن اعتبار التحريم شكلاً من أشكال «التحكم الذكي»، حيث يُوظَّف للحفاظ على النظام الاجتماعي وحماية القيم الجوهرية. لكن الإشكالية تبدأ عندما يصبح التحريم أداةً للهيمنة الفكرية، وليس مجرد وسيلة لتنظيم المجتمع.
وهنا يتجلى الصدام بين «التحريم الوظيفي» و«التحريم الأيديولوجي»، حيث يتحول الأخير إلى منظومة مُغلقة تُعرقل التساؤل والابتكار وتحاصر الإنسان في دائرة الخوف والتقليد، ويتداخل المقدس بالدنيوي بطريقة تجعل أي محاولة لإعادة التفكير في المسلّمات محفوفة بالمخاطر، وهناك ميل متزايد إلى «تحريم السؤال» قبل «تحريم الفعل»، مما يؤدي إلى تكوين بنية ذهنية ترى تهديداً في كل جديد وانحرافاً في كل اختلاف.
والديانات في نسخها العصرية وتفاسيرها المتعددة كانت تلبس ثوب التحضّر وتستخدم أكثر التقنيات تقدماً، ولديها بعد معرفي مهيب إلّا أنها تقتاد بعقيدة دينية، وخاصةً في الحكومات والأحزاب السياسية التي لديها أجندات دينية مؤثرة وإن كانت غير معلنة. إذاً التحريم هنا ليس مجرد نص ديني بل هو بنية نفسية واجتماعية متغلغلة، وكثيرون لا يرفضون الأفكار الجديدة لأنها غير منطقية بل لأنهم تعلموا أن الاقتراب من «الأسئلة المحرمة» قد يجر عليهم العزلة أو الرفض الاجتماعي، وبهذا الشكل يتحول التحريم إلى جدار يمنع حتى التفكير في تجاوز الجدار نفسه. وفيما يتعلق بالتعامل مع «المقدّس» بوصفه شيئاً ثابتاً لا يتغير، يتجاهل المؤمنون بذلك المقدّس أن المفاهيم المقدّسة نفسها قد مرت عبر التاريخ بتحولات كبيرة، حتى في الأديان التي تبدو جامدة ظاهرياً. والمشكلة ليست في وجود المقدّس بل في تجميده وتحويله إلى نصوص غير قابلة للنقاش، بينما الأصل أن كل نص يخضع لعملية تأويل مستمرة تتناسب مع تغيرات الزمان والمكان.
وإذا ما أراد العقل الديني صاحب التوجه الإقصائي، أو حتى ذلك العقل الذي ينادي بالسلام والمحبة أن يتحول، ولكن جذوره الفكرية لا تقبل الآخر والاختلاف، فعليه أن ينتقل من «ذهنية التحريم» إلى «ذهنية القبول»، وهذا لا يعني الفوضى أو نفي القيم، بل يعني إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والفكر بحيث يصبح السؤال مشروعاً، والاختلاف مقبولاً والتغيير جزءاً من الحياة، وبذلك لا يفقد التحريم وظيفته الأخلاقية ويصبح أداةً للتخويف، أو يتحول إلى سجن فكري يُنتج جيلاً يخاف التفكير أكثر مما يخاف الجهل نحو عقد اجتماعي جديد: ينظم كيف نتحرر من دون أن ننفصل، ناهيك عن إخضاع الثوابت الدينية التي ألفها البشر للبحث المضني، وتفريقها عن الموروث والعرف والثابت الثقافي والاجتماعي، وكما قال ابن رشد: «الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».
***
سالم سالمين النعيمي – كاتب اماراتي
عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 مارس 2025

 

في المثقف اليوم