اخترنا لكم
محمد البشاري: الفردية كتحوّل.. والذات في مرايا المجتمع

الفردية ليست مجرد مفهوم تجريدي، بل هي سؤال ملازم لتجربة الإنسان في التاريخ. ففي العصور القديمة والوسيطة ارتبطت الفردية إما بالمكانة الاجتماعية، أو بالتحرر من السلطة السياسية والدينية، وكانت الحرية تُفهم باعتبارها استقلالاً مطلقاً وقدرةً على الانفصال عن الجماعة.
غير أنّ هذا التصور أخذ في التراجع مع تحولات الحداثة، حيث تشابكت حياة الأفراد داخل منظومات اقتصادية واجتماعية معقّدة جعلت من المستحيل النظر إليهم كذوات منعزلة قائمة بذاتها. وهنا برزت محاولة الفيلسوف جون ديوي لإعادة صياغة معنى الفردية، من خلال التأكيد على أن الإنسان لا يتعيّن وجوده إلا عبر مشاركته الفعّالة في الحياة الاجتماعية، وأن الانفصال لا يُثمر سوى الوهم بفردية زائفة. تقوم الرؤية الديويّة على أن الفردية الأصيلة ليست انسحاباً من المجتمع، بل اندماجاً فيه بوعي ومسؤولية. فالفرد لا يتحقق خارج التفاعل الخلاق مع محيطه، والقيم العليا التي تمنحه الحرية ليست جاهزة أو مكتملة سلفاً، بل تتشكل عبر إعادة صنع الظروف القائمة وتجاوزها.
وهنا تتبدى الفردية كعملية ديناميكية مرتبطة بالسياق التاريخي والاقتصادي، لا كمعطى ثابت أو صورة مثالية متعالية. وفي المقابل، يعكس تاريخ الفلسفة نزعةً أخرى تجعل من استقلال الإرادة أساساً للأخلاق، كما يظهر عند إيمانويل كانط، الذي اعتبر أن الحرية الحقيقية تكمن في قدرة العقل العملي على صياغة قوانينه بنفسه. وهذا التصور الكانطي يرسّخ فكرةَ أن الفردية لا يمكن أن تُختزل في مجرد اندماج اجتماعي، بل تحتاج إلى عمق أخلاقي يحفظ للإنسان استقلالَه الداخلي، حتى وهو منخرط في شبكة العلاقات العامة. هذا التوتر بين ديوي وكانط يكشف أن الفردية ليست خياراً بين الانفصال أو الاندماج، بل هي سيرورة مزدوجة تقوم على الموازنة بين الحرية الأخلاقية والفاعلية الاجتماعية.
فإذا كان ديوي يُلحُّ على أن المشاركة هي جوهر الفردية، فإن كانط ينبّه إلى أن هذه المشاركة تفقد معناها إن لم تستند إلى استقلال الإرادة، ومن ثم فالفردية الحديثة هي ثمرة تفاعل هذين البعدين: وعي بالانتماء إلى الجماعة، وقدرة على نقدها وتجاوزها عبر مبادئ عقلية حرة. إن العالم الصناعي والاقتصادي المعاصر ألغى إلى حد بعيد فكرةَ الفرد المستقل تماماً، إذ صار الإنسان جزءاً من منظومة إنتاجية وإعلامية كبرى تحدد أفقَ ممارساته وخياراته.
ومع ذلك، فهذا الاندماج لا يلغي إمكانَ الحرية، بل يفتح أفقاً جديداً لفردية مرنة قادرة على إعادة تشكيل ذاتها في مواجهة الضغوط. الفردية في هذا السياق لا تُقاس بالانعزال عن المجتمع، بل بمدى القدرة على المساهمة في تحويله نحو العدالة والكرامة. فهي ليست عزلة متعالية، بل مشاركة خلاقة تعترف بأن المستقبل لا يُبنى من خارج الواقع، وإنما من داخله، عبر تجاوزه المستمر وإعادة ابتكاره.
وهكذا تتضح الفردية الحديثة بوصفها مزيجاً من المشاركة والاستقلال، حيث يصبح الإنسان حراً بمقدار ما يساهم في صنع شروط وجوده، ويمارس إرادته الأخلاقية في قلب التفاعلات الاجتماعية. فهي ليست هروباً من الجماعة ولا ذوباناً فيها، بل سعي دائم إلى التوازن بين حضور الذات وفاعلية الآخرين، بين العقل الذي يشرّع لنفسه والواقع الذي يفرض تحدياته. ومن هذا التداخل ينشأ المعنى العميق للفردية في زمننا: حرية متجذرة في المجتمع، ومسؤولية أخلاقية لا تنفصل عن الإبداع في صياغة المستقبل.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 22 أكتوبر 2025 02:36