اخترنا لكم

محمد البشاري: الإلهام المعرفي.. انحدار أم استثمار؟

ترددت في الكثير من المساحات الفلسفية والعقلية المختصة بتطوير الموارد البشرية، والحث المكثف على انتقاء البيئة الاجتماعية، والسعي لتكوينها بعناية فائقة، حيث يتأثر الإنسان بـ«نوعية» العقول التي يحتك بها دورياً، فإما أن تشكل قدوة ملهمة وحافزة، أو تكون باباً للدخول في مساحة العبث واللاهدف، والتي بتنا نصارع تمظهراتها المتشعبة في عصر التطور الرقمي الهائل، وتصدر المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي للمشهدين الإعلامي والإعلاني.

وقد تعددت النوافذ التي تتيح للإنسان النظرَ من خلالها إلى مساحات لامتناهية من مصادر الإلهام التي تتمثل في المنصات التعليمية المتاحة عبر الإنترنت، والتي تقوم بدورها في إلهام الباحثين والمتعلمين وتمكين قدراتهم الساعية لتطوير المهارات وتوسيع المدارك وتطوير المستوى الثقافي في مختلف المجالات والاهتمامات. وهذا إلى جانب التنوع الكبير في المنصات الأكاديمية التي تمثل جسور تواصل دائم بين النتاجات البحثية والعلمية لتبادل الأفكار، وما وفرته من مشروعات رقمية تجدسها العديد من الإنجازات البشرية الرائعة التي تعد المكتبات الرقمية أحدها.

أما على صعيد الأفراد، فقد وفرت هذه الثورة التكنولوجية مساحة واسعة ومرنة يمكن من خلالها الوصول بكل سهولة إلى العديد من النماذج الملهمة التي تتميز بأسلوبها ونوعية وفرادة مستواها الفكري، حيث يمكن التواصل وتبادل الآراء والأفكار بشكل حيوي دون معوقات. وهذا بالإشارة إلى الفاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت بشكل عام. كما يضم هذا الجانب وجهاً آخر، إذ سهَّل الوصولَ، والتعرفَ على الإنتاج المعرفي الضخم للملهمين عبر التاريخ، من خلال توفير مؤلفاتهم وإنجازاتهم وتوثيقها في الفضاء الافتراضي.

ولدى تسليط الضوء بشكل مكثف على الإمكانات التي وفرها هذا العصر من أجل شحذ رحلة الإنسان المعرفية، نجد أن تأثير الإلهام يتجاوز الوظيفة الأساسية التي تتمثل في نقل المعرفة من خلال تشارك الأفكار الجديدة، وإثراء الخلفية المعرفية، حيث يقوم بدوره ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن إنتاج تفكير نوعي وإبداعي من جهة، وتشجيع الاستمرار في رحلة الاستفهام غير المقيدة والبحث في الحقول التي يؤمل منها حصاد الجدوى من جهة ثانية. وبالتالي فإن الإلهام يقوم بتوجيه الاهتمام الإنساني من المجال العام إلى المجال الخاص، مما يجعله أكثر إحاطة بالتخصصات الدقيقة. وهنا يأتي دور الإبداع والإنتاج المعرفي المختلف تماماً عن تكرار ذاته أو عرض المعلومات المستهلكة، وبخاصة أن قدرة الإنسان على استثمار مصادر الإلهام التي تحيط به تمثل جرساً لا يتوقف عن إصدار صوته الجاذب نحو المشاركة في خوض المعارف الجديدة والاكتشافات، وشحذ الفضول الإيجابي المصنف ضمن باب تطوير الفكر والارتقاء بأساليب التفكير.

ولا يمكن تجاهل الآثار والانعكاسات السلبية لما أحدثه التطور الإنساني بشكل عام، وفي الفضاء الإلكتروني وأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل خاص على ماهية الإلهام المعرفي، حيث ألقت هذه الغيمة الرقمية بظلالها على العقل الإنساني، كما أبانت عن ضرورة استيعاب المعطيات كافة التي جاءت بفعل هذا التطور، حيث إن الإلهام المعرفي يحتاج إلى منهجية منظمة واضحة، فكيف يمكن تطبيق ذلك في عصر يمتاز بجنون التطور، وديمومة الحركة، فيما يتعلق بزيادة حجم المعرفة المتوفرة، التي تجعل الطريق لتحديد مدى موثوقية ودقة المعلومات أصعب وأطول.

وإلى ذلك، فإن هذا الكم الكبير من التطورات الرقمية يفرض على أي إنسان، في رحلة إلهامه المعرفية، أن يكون متمكناً بالدرجة الأولى من قدر ليس بيسير من المعايير القيمية والأخلاقية التي تخوله دخولَ عالم التنوع الاجتماعي والثقافي العميق المؤطَّر بقيم التعارف والتسامح والاحترام وفهم ماهية التنوع الثقافي دون الوقوع في مطبات الأنا والآخر، أو الانعزال والكراهية وما إلى ذلك. كما يلزم امتلاك المهارات والمعارف اللازمة لتخطي مختلف التحديات المتعلقة بقضايا الأمن السيبراني، ومواضيع الخصوصية التي تزداد تجدداً بالتزامن مع ارتفاع وتيرة استخدام التكنولوجيا وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي.

وبتسليط الضوء على أحد أهم المجالات التي تتعطش إلى الإلهام في كل دقيقة وكل لحظة، فإن العناية بموضوع الإلهام المعرفي في البيئة التعليمية والأكاديمية يعد من أهم المواقع التي يجب التركيز عليها، وبخاصة في ظل الخلط بين مسألتَي المعرفة والفهم، مما يبين ضرورةَ إيجاد توازن بين المسألتين. فهل نستطيع توفير «ضمانة» إلهامية معرفية للأجيال القادمة في ظل هذا التدفق غير المحدود للثقافات والمعلومات والتطورات ذات الصلة؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية يوم: 11 ديسمبر 2024

في المثقف اليوم