اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: عوائق التفلسف مرة أخرى

إذا كان بعض فلاسفتنا قد نبّهوا على أهمية مراعاة الفيلسوف قضايا الملة، والبعد عن الإفصاح عمّا قد يوهم التّعارض بين الحكمة والشريعة، فإن بعض الفقهاء لم يفوّتوا الفرصة على الفلاسفة، فأعملوا أقلامهم، كل ما واتتهم الفرصة في تخسيس الفلسفة والفلاسفة في أعين المسلمين، وكان من بين ما أقدموا عليه أنهم أقاموا تمييزاً صارخاً داخل الحقل العلمي، فقسّموه إلى علوم ممدوحة؛ من تفسير وحديث وفقه وعلوم لغة؛ رغّبوا فيها وحذروا من الإعراض عنها، وعلوم مذمومة؛ من موسيقى وميتافيزيقا وغيرها حرّضوا على الابتعاد عنها.

وقد كان الأساس الذي بنى عليه بعض الفقهاء مواقفهم «أن العلم كله في الكتاب الكريم»، وبنوا على ذلك أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى علوم غيرهم وفلسفاته، خاصة أن هذه علوم فلاسفة لا يعرفون الدّين، ولا الدّين يعرفهم.

ورغم أن فلاسفة الإسلام حاولوا أن يبرزوا للفقهاء أن القول السّابق لا يعني أن القرآن الكريم هو كتاب علم شامل، بدليل أننا لا نجد فيه العلوم قائمة بذاتها، وإنما هو كتاب ينبّه على مبادئ العلوم، وهذا التّنبيه من القرآن الكريم يدعو أهل الفكر أن يضربوا إلى كتب العلماء الذين أسسوا هذه العلوم، التي نبه عليها الكتاب، ويقيموا أساسها في عقولهم تصوراً وتصديقاً، فإن هذا العلم الذي نبّه على مبادئه القرآن لا يُصنع من فراغ، فقد سبقت أمم إلى إنشائه، وكتب علماؤها وفلاسفتها فيه كتباً قيمة عبرت العصور لتصل إلى المسلمين، فيكرعون من معينها، ويحافظون عليها ويبنون عليها؛ إذ كان من طبيعة المعرفية التراكم العلمي، وإلا كيف كان للمسلمين أن يتقدموا في مسيرتهم العلمية، التي نفخر بها جميعاً اليوم، لو لم يضربوا إلى كتب اليونان، ويستخرجوا منها نفائس أفادوا منها، قبل أن يفيد منها الغرب بعد أن قدموها له على طبق من مخطوطات نفيسة.

ما صنعه فلاسفة الإسلام وعلماؤهم لم يستوعبه بعض فقهائنا الذين ظلوا يشنّون الحملات على الفلسفة والفلاسفة، حتى اضطروهم إلى أضيق الطّرق، فخسر العالم الإسلامي بذلك فرصة ذهبية أتيحت له ليذهب بالفكر العلمي النظري إلى منتهاه كما فعل الغرب، ولم نوفق نحن، مع الأسف، إلى فعله.

إن العائق الفقهي شوّش كثيراً على الممارسة العلمية الفلسفية، حين لم يمز الفقهاء بين العلم الكلي في كتاب الله، وبين صناعة العلوم التي تتطلب نظراً على سبيل الاستقصاء والتفصيل، وهذا لا يمكن أن يتم أبداً إلا في مختبرات العلم والفلسفة، وقد كان أرسطو وأفلاطون العقلين الكبيرين اللذين وضعا أسس هذه العلوم، فكيف يستقيم هذا الأمر مع قول الشاعر الفقيه الفازازي: فاقذف بأفلاطون أو رسطا ليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا [يقصد أرسطو] ودع الفلاسفة الذميم جميعهم ومقالهم تأتي الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائبا كما أن بعض الفقهاء لم يفهموا أن العلوم لا تُبْنى من غير شيء، فلا بد للمعرفة العلمية من مسار تراكمي تقطعه، ولولا أن العلوم قد تمايزت مع أرسطو، واستوت على سوقها معه ومع إقليدس وبطليموس، وغيرهم، ولولا أن المسلمين بادروا واحتضنوا هذه العلوم لتعطلت مسيرة العلم لقرون، ولما تفيأت ظلالها البشرية، كما تتفيأها اليوم.

لا يسعنا القول سوى أن بعض الفقهاء أساؤوا إلى المعرفة العلمية الفلسفية عندما طردوا أرسطو من المجتمع الإسلامي عوضاً أن يحاجّوه محاجة علمية تبرز القصور الكامن في فلسفته، وتسهم في تطور الفكر العلمي والفلسفي للمسلمين، فشكّلوا بذلك عائقاً من عوائق التفلسف عندنا.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 سبتمبر 2024

في المثقف اليوم