اخترنا لكم
محمد البشاري: إفتاء أخلاقي!
استطاعت المنظومة الأخلاقية إثبات دورها الحيوي والفعال باستمرار في تنظيم الإطار العام للديمومة السلوكية الإنسانية ككل، وخصوصاً عبر ما تقوم به من غرس لمفاهيم قيمية ومبادئ أخلاقية تتداخل مع مختلف المجالات التي يحتك بها ويتفاعل معها الإنسان في حياته.
وفي ذات الوقت فقد مثلت الفتوى تلك الأداة الفقهية الإسلامية الحيوية، التي تسمح بالتعامل مع مختلف القضايا العملية والأخلاقية، من خلال مد جسور الفهم والإيضاح بين كل من النص الديني والتطبيق العملي، والآليات التي يمكن من خلالها بلورة صورة ورسالة النص الديني بطريقة صحيحة ودقيقة بعيداً عن الإيهامات والضبابيات، وبالتالي يستطيع المسلم العيش على ضوء تعاليم الدين وليس فقط تطبيقها في مختلف سياقاته المعاصرة، وبالتالي فإن كلاً من الفقه والأخلاق يشكلان كفتي ميزان يتعين الحفاظ على التوازن فيما بينهما، حيث إن الفقه يوفر الإطار القانوني والتشريعي، بينما تمثل الأخلاق المادة الأساسية الخام التي يمكن من خلالها تطبيق تلك الأحكام وتفسير أوجه فهمها ومآلاتها.
وبتقريب الصورة أكثر على البناء الأخلاقي الإسلامي، نجد أنه يعتمد بشكل مباشر ورئيسي على مجال الفقه، وذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود المتمثل في تنظيم السلوك الإنساني بالتوازن مع المبادئ العليا للدين، مثل الرحمة والصدق والعدل.. وغيرها. وهذا إلى جانب حفظ الضرورات الخمس، مما يعني القدرة على بناء التوازن بين جانبي الحق والواجب. ومن الجدير بالذكر أن ما يوثق هذا التوازن ويجعله صيغة مقنعة ومقبولة لدى الناس هو الإدماج الواضح لكل من الجانب القانوني مع البعد الأخلاقي الذي بدوره يقوم بتعزيز السلوك الأخلاقي، وبالتالي بناء علاقات إنسانية في صياغة سليمة.
ولا يبدو أن السلاسة تطبع دائماً هذه العملية الإفتائية، وبخاصة في ظل المستحدثات الجديدة ضمن الظرفية الزمانية والمكانية وما فرضته من تحديات معاصرة متعلقة بتطور التكنولوجيا الحيوية والاقتصاد الرقمي، حيث أصبح مطلوباً من الآلة الفقهية والعقل الفقهي والأخلاق الفقهية توسيع دائرة التوازن بحيث تستطيع إيجاد تناغم متزن يحافظ على التقاليد الدينية وتلبية الاحتياجات الحديثة العصرية.
وإن تعاظم مسؤولية الفقهاء تلح على ضرورة الارتقاء بمجالات الفتوى وأدواتها بحيث تستطيع الجمع بين الفهم والتطبيق، النص الديني وقضايا الواقع المعاش، لا سيما أن الحفاظ على الديناميكية الفقهية الأخلاقية يعَد أهم المحاور التي يمكن الارتكاز عليها في إبراز المرجعية القيمية.
ومن هذا المقام يمكن الاتفاق على أهمية الدور الأخلاقي للفتوى وتوسيع نطاقه، فهي لا تقبل التقييد في تقديم الإجابات على المسائل الفقهية وحسب، وإنما توسيع دائرة الصلاحيات التي تمكن الفتوى من تطبيق وتحقيق الدور الأخلاقي المتركز فيه توجيه الفكر الأخلاقي الإنساني، والقدرة على توجيه التيارات الفكرية داخل المجتمع بحيث لا تخرج عن النطاق السلوكي المنضبط والمسؤول، والذي يحتاج الكثير من الجهد لبناء العلاقة بين السلوك ودوافعه وفهم انعكاساته وتأثيره على المجتمع المحيط، مما يمكن استثماره في خطوة لاحقة من خلال بث تجارب فقهية نموذجية ناجحة استطاعت تشجيع الأخلاق الإسلامية النابعة من التفكير النقدي الواعي للمكانة التي تحققها القيم في حياتنا، ومستقبلنا. ولذا فلا يمكن تخيل إمكانية وجود فتوى مبنية أخلاقياً وراء أي نوع من النزوع نحو التطرف القيمي والسلوكي للأفراد.
وكل هذا لا يغني عن تسليط الضوء على الشخصية المسلمة ذاتها، إذ هي بحاجة لإيجاد معادلة فقهية ذات بناء أخلاقي تمكن الأفراد من تشكيل وعي إسلامي أخلاقي قادر على تجاوز التحديات المعاصرة المتزايدة، مما ينعكس تلقائياً على المسؤولية الأخلاقية والعلمية والفكرية لمتصدّري الإفتاء، حيث يتوقع منهم مسايرة التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية، وامتلاك الأداة النقدية القادرة على تمحيص الآثار والتداعيات والانعكاسات، وحتى استشراف ما هو قادم، وبالتالي يصبح التعامل مع المسائل الأخلاقية المتصلة بمعطيات الزمن المعاصر ليس عصياً على الفهم ولا بعيداً عن التعامل المباشر والفعال في الوقت الحقيقي المطلوب.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يناير 2025