اخترنا لكم
عبد الجواد ياسين: في نقد الكهنوت (4)
مناقشة حول المؤسسة الدينية النموذجان المصري والسعودي
***
تناقش هذه المقالة تطور نفوذ الطبقة الفقهية على المستوى السني بعد سقوط نظام الخلافة والتحول إلى الدولة الوطنية الحديثة.
***
إلى أي مدى ظلت هذه الطبقة تحتفظ بسلطتها المعنوية داخل المجتمع، وفي مواجة الدولة بوجه خاص؟ هل أدى هذا التحول إلى تقليص الصلاحيات التقليدية الموروثة للطبقة الفقهية؟ أم منحها -لأول مرة- صلاحيات إضافية ذات طابع مؤسسي بيروقراطي؟ كيف نقرأ هذا الحضور المؤسسي بنتائجه الإشكالية الراهنة في النموذجين المصري والسعودي؟
-2-
منذ تشكلها في السياق السني المبكر، ظلت الطبقة الفقهية قريبة من السلطة الحاكمة، وتشتغل لحسابها على المستوى النظري المذهبي، وفي تسيير القضاء، فضلاً عن الفتوى وخدمة الطقوس. ورغم أنها لم تتحول قط إلى هيئة عضوية منظمة بالمعنى الكاثوليكي، إلا أنها ظلت بمرور الزمن تراكم صلاحيات معنوية أوسع، وتكرس وعيها بذاتها كطبقة متمايزة ذات حضور سياسي ومصالح اقتصادية، خصوصاً مع تطور نظام الوقف الأهلي.
مع ذلك لم تندمج الطبقة الفقهية كلياً في بنية الدولة، وبقيت تحافظ على مسافة ضمنية “غامضة” تفصل بينهما. في هذا الإطار يمكن الحديث عن علاقة مركبة تسير وفقاً للمعادلة الآتية: تعمل الطبقة الفقهية إجمالاً تحت السلطة مع نزوعات استقلالية تعبر عن نفسها من وقت إلى آخر بشكل محسوب، وتظهر خصوصاً في لحظات ضعف الدولة. وهي وضعية تندرج تحت مفهوم التشابك التاريخي القديم بين السلطة والكهنوت، حيث ظلت العلاقة بين الطرفين تقوم على تحالف براجماتي وثيق، يعكس حاجة مصلحية متبادلة، لكنه لا يؤدي إلى ذوبان أي منها في الآخر، ولا يغير في نهاية المطاف من الهيمنة العليا للسلطة.
-3-
لم تتغير هذه المعادلة كثيراً بعد التحول إلى نموذج الدولة الوطنية: فرغم استلحاق الطبقة الفقهية بالجهاز الإداري للدولة لم تتقلص المسافة “الموضوعية” بين الطرفين، بل ازدادت عمقاً؛ لقد تم رسمياً تقنين حالة التبعية المتحفظة، لكن الطبقة الفقهية سيتفاقم وعيها تدريجياً بالتناقض الجوهري بين بنيتها السلفية والدولة الجديدة ذات التوجه العلماني.
لكن الصيغة الجديدة للمعادلة تبدو أكثر تعقيداً: فالدولة الوطنية الناشئة –التي لم تستكمل شروط الحداثة العلمانية بسبب مستوى التطور العام (الاقتصادي / الاجتماعي/ العقلي) داخل المجتمع- بقيت تعمل على تقمص دور ديني شبيه بدور الدولة السنية الحارسة، بغرض احتواء التوجهات المحافظة للجمهور وتوظيفها سياسياً، ما أسفر عن ازدواجية داخلية، ظلت أعراضها الإشكالية تظهر في صور مختلفة تتراوح بين التحالف المعلن والصدام المتحفظ. وذلك وفقاً لدرجة اندماج الدولة في الدور الديني، أي لتغير مستوى وعي الدولة بذاتها ككيان مدني علماني بالطبيعة.
-4-
النظرية الدينية مصر والسعودية
يشترك النموذجان المصري والسعودي في المرجعية الدينية النظرية، أعني في خلفية الثقافة الفقه سياسية المنحدرة من التراث السني. لكن المقارنة بين النموذجين تكشف عن فوارق واضحة، ترجع بالطبع إلى مسارات التشكل التاريخي المتباينة التي حكمت تطور المجتمع والدولة والطبقة الفقهية، وصاغت تفاصيل العلاقة المركبة بين أطراف هذا الثالوث في كل نموذج منهما على حدة.
بالقياس إلى مثيله المصري يبدو النموذج السعودي أكثر انغماساً في صيغة التشابك التقليدي بين السلطة والكهنوت. ليس فقط من زاوية النظر إلى الطبقة الفقهية، التي تنتمي إلى المذهب الحنبلي الأكثر سلفية وتشدداً، والتي لم تتطور قط على المستوى الموضوعي منذ أواسط القرن الثامن عشر (ظهور الحركة الوهابية) بل أيضاً من زاوية النظر إلى الدولة، التي لا تزال تصنف –خارجياً- كواحدة من أكثر الدول محافظة في العالم رغم التوجهات “التجديدية”، التي أخدت تكشف عن نفسها تدريجياً منذ تشكلها في الدولة السعودية الثالثة على الأقل، والتي تصاعدت على نحو غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية.
-5-
النموذج المصري: الأزهر مقابل الدولة الوطنية
مقارنة بالحالة السعودية، ولدت الدولة الحديثة في مصر في سياق اجتماعي ثقافي أكثر تطوراً، بفعل تواصل حضور السلطة المركزية، والانفتاح على روافد التأثير الخارجية. ومنذ بدايتها في أوائل القرن التاسع عشر، كشفت الدولة الناشئة عن توجهات تجديدية مدنية صريحة. وفي تصريح مبكر لمحمد علي أمام القنصل الفرنسي أعلن أن حكمه لا يقوم على الاعتبارات الدينية: “فأنا فوق هذه الاعتبارات ولا اعتبر نفسي في سياساتي مسلماً ولا مسيحياً”.
بدءاً من محمد علي وبامتداد القرن التاسع عشر ستشهد مصر عملية واسعة النطاق باتجاه التحول إلى دولة مدنية على الطراز الغربي الحديث. جرت هذه العملية بشكل تصاعدي، وبتوجيه مباشر من قبل السلطة. وأسفرت بالفعل عن تطورات “علمانية” واضحة، طالت البناء الدستوري للدولة والتشريعات الرئيسية في القانون المدني والقانون الجنائي والنظام القضائي، وبعض الإصلاحات الإدارية، والاقتصادية التي تتعلق بنظام الري والزراعة والتطوير الصناعي. بالإضافة إلى الاستعارات الغربية المباشرة في الفنون من الأوبرا إلى المسرح والسينما. وأدى ذلك إلى تحفيز قابليات التطور الثقافي والاجتماعي داخل المجتمع، الذي صار يقبل بكشف وجه المرأة، وخروجها للعمل، وتقلد الوظائف واختلاطها بالرجال. كما صار يقبل بالتخلي عن مورثاته التقليدية في أشكال الملبس والمظهر الخارجي وطرق التخاطب.
في غضون ذلك بدأت تظهر نواة لطبقة وسطى مدينية ذات توجه مدني معتدل، إلى جوار الطبقة الأرستقراطية الزراعية، وتبلورت نخبة فكرية واسعة، واعية بذاتها كتيار ثقافي يتحمل -مع الدولة- عبء الترويج للمشروع التحديثي، فيما سيعرف بتيار “النهضة المصرية”. وعند أوائل القرن العشرين كان بإمكاننا الحديث عما أسميه “حالة مدنية” ظاهرة على مستوى المجتمع والدولة، مضى على بدايتها أكثر من قرن من الزمان.
بوجه عام، وخلافاً لمسار التحديث الأوروبي (الفرنسي خصوصاً) لم يدخل تيار النهضة في صدام مع الدين في ذاته، بل مع النظام الفقهي الموروث، الذي صار متهالكاً وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه خصوصاً في شقه السياسي. وهو ما يفسر سهولة التكيف بين مطالب الحالة المدنية والمجتمع رغم مكوناته التراثية المحافظة. لم تكن الأصولية السلفية قد تبلوت بعد كتيار “أيدولوجي” مناهض للحداثة ومن ثم لم يكن التدين الشعبي قد تعرض لضغوط الإسلام السياسي، التي ستتفاقم لاحقاً وستخصم من خصائصه الاعتيادية المعتدلة.
-6-
رد فعل الأزهر
بدأت عملية استلحاق الطبقة الفقهية بجهاز الدولة مع محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر. وجرى تنفيذها على امتدان القرن عبر سلسة الإجراءات الإدارية والقانونية، التي استهدفت نفوذها الاقتصادي بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك الموقوفة على الأزهر، وإنشاء ديوان عام سيتحول لاحقاً إلى وزارة الأوقاف، وإلغاء الوقف الأهلي.
كان الغرض هو تقليص نفوذ هذه الطبقة، التي أسهمت في وصول محمد علي إلى الحكم، وسحبه بعيداً عن المجال السياسي المباشر، ثم توظيفه في ضبط التدين الشعبي وتطبيعه مع الأهداف المدنية الجديدة للدولة. وهي الوظيفة التي ستتزايد الحاجة إليها بعد تفاقم الأصولية السياسية.
الطبقة الفقهية الممثلة في شيوخ “الجامع” الأزهر، لم تندمج تماماً في مشروع “الدولة الحديثة”، الذي أطلقه محمد علي وطوره خلفائه بطرية متوازنة، وأخذت تقدم نفسها كقوة سلفية محافظة في مواجهة القوى التجديدية التي تروج لأفكار الحداثة. لكنها لم تقف جدياً ضد التحول السياسي الدستوري الذي تقوده الدولة، ولم تبد ردود فعل صدامية حيال مظاهر التحول المدني التي كانت تجري داخل المجتمع على حساب النظام التراثي القديم.
واقعياً، لم يمتلك الأزهر، كطبقة تراثية محافظة، القدرة على مقاومة الضغوط الحداثية التي كانت تفرض نفسها بقوة دفع هائلة. كان النظام التراثي حينذاك في لحظة ضعفه القصوى، وبشكل إجمالي، أعاد الموقف الفقهي تكييف نفسه -كالعادة- تحت سلطة الدولة، وصارت المعادلة تسير على النحو الآتي: تبدي الطبقة الفقهية نوعاً من التوافق “الحذر” مع المفهوم العام للدولة الوطنية القائمة، وقد تسهم أحياناً في الترويج لسياستها المدنية. لكنها تظل واعية بأصولها التراثية، وقادرة من وقت إلى آخر على إثارة بعض المشاكسات، واتخاذ مواقف لا تطابق التوجه العام للدولة.
-7-
لاحقاً، وبفعل التداعيات السياسية والثقافية التي سيجلبها التيار الأصولي، ومع التراجع العام لجاذبية الحداثة، ستستعيد القوى المحافظة بأثر رجعي فكرة الاعتراض على نتائج التحديث، وسينضم الأزهر بحذر محسوب إلى هذه القوى، أو سيلوح بالانضمام إليها، بغرض تحقيق مكاسب فئوية تتعلق بالوضع القانوني “للمؤسسة” ورئيسها، أو في خطوة أكثر طموحاً، لخلق مساحة للتدخل السياسي باستغلال لحظات تراجع الدولة، التي صارت أقل وعياً بدورها التجديدي المعتاد تحت ضغوط الحالة الأصولية المتطرفة.
في هذا السياق يمكن قراءة موقف الأزهر من أحداث يناير2011. فبعد أن أعلن في البداية عن طلب التهدئية الذي يصب في صالح السلطة، عاد لينتهز لحظة “اهتزاز” الدولة، وموضع نفسه وسط المعادلة السياسية الجديدة، بين تيار الإسلام السياسي الذي كان يقترب من الحكم، والدولة التي كانت تحتاج إلى الدعم من قوة دينية “معتدلة” وذات رصيد شعبي.
موضوعياً، يقف الأزهر بتكوينه الأشعري على مسافة من طرفي المعادلة (من الطرف الأصولي رغم الأرضية المشتركة، ومن الدولة رغم التبعية الإدارية). وواعياً بالرهان الدائر عليه بين الطرفين لتوظيفه سياسياً، استطاع الحصول على نتائج مرضية لصالح الطبقة الفقهية: ففي فترة الحكم الخاطفة للإخوان، حصل الأزهر رسمياً ولأول مرة على موقع داخل “الدستور”بصلاحيات “مؤسسية” تشريعية تشبه صلاحيات الكنيسة. (التيار السلفي الأكثر تشدداً لم يتحمس تماماً لهذه الخطوة توجساً من التوجهات الأشعرية للأزهر، وهي نفس توجهات الإخوان، وتحسباً لارتباطه التقليدي بالدولة). وبعدما سقط الإخوان عادت الدولة فألغت هذه الصلاحيات في دستور 2014، لكن شيخ الأزهر -الطموح سياسياً- كان قد اقتنص نصاً دستورياً جديداً يقضي بتحصين منصبه من العزل.
استطاعت الدولة تجاوز حالة “التلعثم” السياسي التي نجمت عن أحداث يناير 2011، ونجحت في احتواء النتائج المباشرة للانفجار الأصولي التي بلغت ذروتها باستيلاء الإخوان على السلطة، لكنها فقدت شيئاً من نقائها المدني المفترض، أعنى من وعيها بذاتها ككيان وطني علماني بالطبيعة وبحكم الدستور، وهي حالة تعكس حجم التراجع العام حيال الضغوط الأصولية. وبالنتيجة لا يزال الأزهر يتقمص دور الوسيط الناشط، ويمارس نشاطاً توجيهاً لا يسمح به الدستور ولا يتوافق مع الفكرة المدنية. وفيما يواصل نقده المعلن للأصولية المتطرفة، يؤكد على أصوله التراثية، ويحرص –بحذر أشعري معهود- على إرسال إشارات مبهمة توحي بعدم التطابق مع مواقف الدولة.
من زاوية الدولة، لا يزال دور الأزهر مطلوباً كظهير ديني “معتدل” يلزم توظيفه في مواجهة التطرف الأصولي السياسي لكنه يشتغل واقعياً كعائق أمام التغيرات الحداثية “الجزئية” التي تستهدف الدولة -بشيء من الحذر أيضاً- تمريرها من خلال التشريع (راجع مثلاً اعتراض الأزهر رسمياً على التعديلات المقترحة في قانون الأحوال الشخصية، والتي ترمي إلى تخفيض الآثار السلبية للطلاق الشفهي. وعلى مشروع القانون الجديد الخاص بدار الإفتاء، والذي يهدف إلى مزيد من ربط الفتوى الفقهية بالسياق القانوني والقضائي السائد، أي بالدستور المدني. وراجع قبل ذلك موقف الأزهر المعلن من الدعوة المبكرة التي وجهها رئيس الدولة لتجديد الخطاب الديني.
-8-
الأصول الأشعرية: هل الأزهر معتدل؟
وصف الأزهر بالاعتدال وصف نسبي. أعني يصح بالقياس إلى التيارات الأصولية السلفية المتطرفة، لكنه يبدو سلفياً محافظاً بالقياس إلى المبادئ الأولية لدولة وطنية حديثة، أي قائمة على فكرتي “المواطنة” و “القانون”. عملياً يقف الأزهر في منتصف المسافة بين الأصولية السلفية والدولة الوطنية. وهو موقف يترجم تكوينه النظري المذهبي، أعني مرجعيته الكلامية الأشعرية.
كيف تفسر أشعرية الأزهر موقفه الراهن من الدولة الوطنية ومن الحداثه بوجه عام؟ هل تنطوي الأشعرية على تناقض جوهري مع السلفية ؟ وهل هي مهيأة لتوافق حقيقي مع العلمانية؟
ظهرت الأشعرية في السياق الكلامي المبكر كموقف ” وسط” بين التيار النقلي الحرفي الذي يمثله “أهل الحديث”، وتيار الرأي العقلي الذي يمثله المعتزلة، فهي في جوهرها “منهج” توفيقي يقوم على الجمع بين طرفين متناقضين. ولذلك تبدو أكثر تعبيرأً عن حقيقة “الواقع” الاجتماعي، الذي يحتوي بالفعل على عناصر متناقضة، أي على تعددية طبيعية. وهي -لذلك أيضاً- كانت أسهل تناغماً مع مزاج الجمهور العام أو التدين الشعبي، الذي تحركه مشاغل الواقع قبل مطالب الفكر/ الفقه ، كما كانت أكثر قابلية للقبول بفكرة “الدولة المتغلبة” بما هي نتاج لسلطة الأمر الواقع.
عملياً، كان الجمع بين النقل والعقل يعني تثبيت سلطة النقل (السلفية) بآليات العقل (الاعتزالية)؛ فأبو الحسن الأشعري -كما يصرح في كتابه “الإبانة عن أصول الديانة” تصدى للدفاع عن عن رؤية أهل الحديث خصوصاً أحمد بن حنبل، ضد مفاهيم المعتزلة. كان الأشعري يحاول تنظير الرؤية النقليلة كما هي بأدوات الاعتزال العقلية التي انشق عليها حديثاً، أي كان يستخدم العقل في نفي العقل. ومن هنا تظهر “المفارقة” كلازمة ضرورية لا تنفك عن الفكر الأشعري، حيث تحضر السلفية الحرفية في بنية هذا الفكر كشق أصيل إلى جوار الشق العقلي.
بالطبع، لم تقلح محاولة الأشعري لتقنين المنطومة النقلية كما هي تقنيناً عقلياً: فبحكم طبيعة التنظير كان الشق العقلي يفرض خضوره على مساحة أوسع داخل هذه المنظومة، التي صارت تتحول إلى نسخة نقلية / عقلية مهجنة، الأمر الذي كان يزداد وضوحاً مع مرور الزمن على يد الأشاعرة اللاحقين من الباقلاني إلى الجويني حتى الغزالي. لكنه بقي على كل حال تعديلاً في “المنهج” أكثر مما هو في الموضوع، حيث ظلت البصمة المبكرة لعقلية الحديث هي الطابع المميز للوعي السني، بعد تطعيمه بعقلانية الأشاعرة “اللاعقلية” إن صح التعبير.
موضوعياً، يصعب الحديث عن فارق جوهري بين الأشعرية والسلفية، فسلطة النقل لا تزال حاضرة بقوة في صميم الوعي الأشعري. ومع ذلك رفضت مدرسة الحديث اعتماد الأشعرية داخل المفهوم الضيق لأهل “السنة والجماعة”، وهو موقف مبني على النفور التقليدي لأهل الحديث من “منهج” علم الكلام بطابعه العقلي اليوناني. وفي هذا الإطار نستطيع الحديث عن علاقة تقاطع مركبة بين الأشعرية والسلفية؛ الأشعرية التي يتسع حضورها على المستوى الشعبي العام، والسلفية التقليدية التي تحولت إلى تيار ثانوي محدود “عددياً” رغم حضورها “الجسيم” في ثقافة المدونة الرسمية.
-9-
في ما يتعلق بالتوافق مع الدولة، ليس ثمة فارق بين الموقفين السلفي والأشعري. فالأشعرية لم تبتدع مبدأ “الإقرار بولاية المتغلب” أي وجوب الصبر على الحاكم وتحريم الخروج عليه ولو كان ظالماً. بل كان هذا المبدأ حكماً فقهياً رائجاً على المستوى السني العام. وقد تم توظيفه سياسياً في مواجهة الفرق المذهبية المناهضة من الخوارج والشيعة. وروج له أحمد بن حنبل في نصه الشهير الذي يقول بأن الإمامة “تثبت بالقهر والغلبة.. ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبت ولا يراه إماماً براً أو فاجراً، (انظر أبو يعلي، الأحكام السلطانية، ص 23،24). وسيؤكد ابن تيمية كفقيه حنبلي على هذا المبدأ في سياق الرد المذهبي على الشيعة (منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 189، 190). لكنه سيعود فيخرج عليه في سياق المواجهة والشحن السياسي ضد التتار، من خلال الفتاوى المتعددة حول قتال “الطائفة الممتنعة”، التي تجيز القتال ضد جماعات ترفع شعار الإسلام دون حاجة لإذن الإمام. وهي الفتاوى التي ستعممها الحركات السلفية المتطرفة –بدءاً من الحركة الوهابية- على جميع الحكومات القائمة في العالم “الإسلامي”.
بوجه عام، بقيت الأشعرية تعبر عن الرؤية السياسية السائدة لدى الجمهور السني، والتي تقوم على التوافق المجمل مع الدولة “القائمة” والرفض الصريح لأفكار الفرق الغالية التي تكفر أو تفسق الحاكم وتوجب أو تجيز الخروج عليه. وهي الرؤية التي تكرس حضورها بقوة الأمر الواقع، وإسناد الفقه ،عبر تاريخ الدولتين الأموية والعباسية.
من خلال هذا الرصد نفهم كيف تفسر أشعرية الأزهر موقفه المزدوج: القريب نسيباً من الدولة “الوطنية” والمناهض نسيباً للغلو الأصولي.
-10-
الوضع المؤسسي للأزهر
التكييف القانوني – الصلاحيات الفعلية
من خلال التشريعات القانونية واللائحية المتوالية، تم ربط فقهاء الأزهر بالجهاز الإداري للدولة. وبوجه عام، أكدت هذه التشريعات على الوظيفة الأساسية للأزهر كهيئة تعليمية متخصصة في العلوم الشرعية الإسلامية، وتخريج رجال دين محترفين للعمل في المساجد والقضاء الشرعي. لكن هذه العملية ستنتهي إلى تكريس الأزهر كسلطة دينية ذات صلاحيات تمثيلية وتوجيهية أوسع من الغرض “الشعائري / التعليمي”، أعني تصعيده من مدرسة شرعية كبيرة ملحقة بمسجد مركزي إلى “مؤسسة” بيقروقراطية منظمة ذات هيكل تراتبي هرمي، يترأسه “شيخ أكبر” ويتمتع بشخصية معنوية مستقلة. وهي وضعية لم يعرفها التراث الفقهي السني بهذا الشكل المباشر قبل ظهور الدولة الوطنية.
(تشير المصادر إلى ظهور لقب “شيخ الإسلام” في وقت مبكر مع الدولة العثمانية، حين أطلقه محمد الفاتح على “المفتي” سنة 1451 م، وزادت أهميته تدريجياً حتى تحول إلى هيئة إدارية مقننة لائحياً في عهد السلطان سليمان القانوني (ت 1566م).
لكن هذا المنصب ظل خاضعاً بشكل مباشر لإرادة السلطان، ويعمل على تقديم فتاوى تبريرية لأغراضه السياسة وإلا تعرض للقتل أو النفي، وهو ما حدث لآخر هؤلاء الشيوخ مصطفى صبري، الذي نفي من دولة الخلافة قبيل سقوطها. (انظر: حسان حلاق، عباس صباغ، “المعجم الجامع في المصطلحات الأيوبية والمملوكية والعثمانية ذات الأصول العربية والفارسية والتركية” 1999 بيروت، دار العلم، ط، ص 133).
في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت الثقافة الدينية تشهد لحظة تراجعها القصوى على مستوى العالم، كانت الدولة المصرية تكشف عن توجه قومي علماني واضح، وبدأ وكأنها استطاعت أحتواء الأصولية السياسية التي أطلقها ظهور جماعة الإخوان قبل منتصف القرن. وفي هذا السياق صدر القانون رقم 103 لسنة 1961 ىبشأن إعادة تنظيم الأزهر ( وهو التشريع الرئيسي الذي لا يزال يحكم المسألة حتى الآن).
بدا واضحاً توجه القانون إلى تقليص الطابع المؤسسي المستقل الذي اكتسبه الأزهر، وربطه مباشرة بالسلطة التنفيذية للدولة: فجرى النص صراحة على تبعيته لرئاسة الجمهورية (المادة 2) وأعطى للرئيس سلطة تعيين شيخ الأزهر (المادة 5)، وألغى “جماعة كبار العلماء” التي تأسست سابقاً بالقانون رقم 15 لسنة 1911، وتواصل حضورها في القانون رقم 26 لسنة 1936، واستبدل بها “هيئة البحوث الإسلامية” ولم يشترط اختيار شيخ الأزهر من أعضائها (المادة 5).
أكد القانون على “الغرض التعليمي” بوصفه الوظيفة الأساسية للأزهر، فهو “الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره” (المادة 2). كما أكد على هذه الوظيفة بطابعها الديني بخصوص منصب شيخ الأزهر، فهو “صاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرئاسة في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته” (المادة 4،6).
-11-
بعد فترة قصيرة من انتهاء العهد الناصري، ستبدأ الدولة في التراجع تدريجياً عن زخمها المدني التحديثي الموروث من سياقات نشأتها المبكرة، والذي ظهر في ثقافة النهضة، وصار يمثل واحداً من ملامح الهوية المصرية. ارتبط هذا التراجع بظاهرتين متقاطعتين:
الأولى: ترجع إلى الهبوط النسبي في قوة الدولة بعد هزيمة يونيو 67، واهتزاز الثقة في شعارتها القومية، ونكوصها الديموقراطي الفادح.
الثانية: تتعلق بتبلور حالة الأصولية السياسية، التي أسهمت الدولة في تفاقمها بدور فاعل، بعد أن أعادت بنفسها -بحسابات سياسية ضيقة- إحياء التجربة الإخوانية. كان المخطط هو استخدام كمية “محسوبة” من الشحن الديني لامتصاص المد اليساري الناصري لصالح التوجهات “الليبرالية” الجديدة. لكن هذه العملية أسفرت عن توسع الإسلام السياسي وامتصاصه للمد اليساري والتوجهات الليبرالية معاً. وأعادت استدعاء الثقافة التقليدية على مستوى المجتمع، وداخل أبنية الدولة، واستفزت السلفية الكامنة لدى الأزهر. ثم أفضت في نهاية المطاف إلى الانفجار السياسي الهائل في يناير 2011.
أجواء الاستقطاب والترهل السياسي الناجمة عن الانفجار وفرت بالنسبة إلى الأزهر فرصة مناسبة للتعبير عن نزوعاته الاستقلالية، وأسفرت عن تحقيق المزيد من النفوذ المؤسسي: فخلال الفترة الانتقالية بادرت الدولة ممثلة في المجلس العسكري إلى إصدار تشريع جديد يقضي بتحصين منصب شيخ الأزهر من العزل، وإعادة هيئة كبار العلماء، التي سيسند إليها انتخاب الشيخ من بين أعضائها بدلا ً من تعينه بواسطة رئيس الجمهورية. (كان المجلس يراهن هنا على اعتدال الأزهر واتباطه التقليدي بالدولة، وذلك استباقاً لوصول الإخوان المحتمل إلى السلطة).
لكن صلاحيات الأزهر المؤسسية ستبلغ ذروتها خلال فترة حكم الإخوان الخاطفة:
فالقوى الأصولية (التي لم تكن تثق أصلا بالأزهر التابع للدولة) صارت تراهن على احتوائه واستخدامه ضد النزوعات المدنية المتوقعة للدولة العميقة. لذلك، وفضلاً عن تثبيت النصوص الإجرائية السابقة التي تكرس استقلال الأزهر تم إضافة نص في الدستور يقضي بأن “يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية” (م 4 من دستور 2012).
وهو نص خطير من حيث ينطوي على صلاحيات “تشريعية” ملزمة، تؤسس لسلطة كهنوتية صريحة، لم يأمر بها النص الإسلامي، وتناقض كلياً مبادئ الدستور المدني، ومن شأنها أن تغير الوجه الوطني للدولة والمجتمع.
تظهر خطورة هذا النص في سياقات الشحن الأصولي السائدة، حيث يمكن لأي شيء في الدولة والمجتمع أن يدخل تحت مصطلح “الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية”. ويتفاقم الخطر في ظل التفسير المذهبي “الضيق” الذي اعتمده الدستور لـ”مبادئ الشريعة الإسلامية” بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع؛ فبحسب المادة 219 من هذا الدستور: “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة”.
كان الغرض هو استبعاد التفسير الطبيعي الواسع لـ”مباديء” الشريعة، الذي يشير إلى القيم الكلية المطلقة التي تمثل جوهر الدين، ويمكن من خلالها رد الكثير من أحكام الكراهية والعنف ونبذ الآخر، التي يحملها الفكر الأصولي نقلاً عن المدونة الفقهية.
اللافت هنا -وهذه نقلة غير مسبوقة في التاريخ التشريعي للدولة الوطنية في مصر- هو أن وضعية الأزهر المؤسسية لم تعد مسألة فرعية ينظمها “القانون” أو اللوائح، بل واحدة من القواعد الأساسية التي تتمتع بحصانة الدستور، ويرد النص عليها في الباب الأول (مقومات الدولة والمجمتع)، تحت الفصل الأول (المقومات الأساسية).
فترة حكم الإخوان القصيرة أظهرت أن الخطر الأصولي لم يعد يمثل تهديداً للوجه المدني للدولة فحسب، بل أيضاً لطبيعة التدين الشعبي التي تتسم بالسلمية والتسامح والقدرة على استيعاب حركة التطور الاجتماعي. (الحركات الأصولية تسيء عادة فهم الطابع الجياش للتدين الشعبي. ورغم أنها لا تحترمه بوصفه تديناً متساهلاً، تظل تراهن عليه كورقة سياسية وتظل تخسر الرهان).
الدولة، التي صارت أكثر تحسساً حيال الخطر الأصولي استعادت شيئاً من وعيها المدني. لكن برغم نجاحها في استعادة التوازن السياسي، ظل عليها الكثير لفعله في مواجهة الركام الثقافي الاجتماعي الذي خلفته الأصولية. جزئياً، تم استعادة الوجه المدني للدستور لكنه بقي محملاً بحمولات سلفية، وظل يحتفظ الأزهر بصلاحيات ذات طابع مؤسسي مناقضة لجوهر الدستور (راجع المادة 7 من الدستور الجديد 2014)، أما الأزهر نفسه فصار أكثر تمسكاً بالمكاسب المؤسسية التي اقتنصها في المراحل السابقة، وأكثر جرأة في التعبير عن موقفه المستقل حيال الدولة، ونفوذه التوجيهي حيال المجتمع.
وهذه مسألة تستحق المزيد من النقاش للوقوف على مظاهرها الإشكالية على مستوى الدستور والقانون والثقافة الاجتماعية.
***
عبد الجواد ياسين – قاضي ومفكر مصري
.......................
عن منصة تكوين، يوم: أكتوبر 17, 2024