قضايا
سامح مرقس: مفهوم الوعي بين فيزياء الكم والفلسفه؟
الوعي هو ببساطة إدراك الإنسان لذاته وللعالم المحيط به، لكن لا يوجد إجماع بين العلماء حول تعريف هذه الملكة، ويعود ذلك إلى صعوبة دراسة الوعي تجريبياً. كما أن إدراك الواقع الخارجي لا يمثل الواقع الحقيقي، بل يتشكل داخل المخ البشري تحت تأثير عوامل مختلفة، وكل مخ يروي قصة مختلفة لا تعكس الحقيقة.
أظهر تحليل وظائف المخ أن الوعي ظاهرة معقدة تعتمد علي شبكة عصبية تمتد من القشرة المخية في مقدمة المخ الي مؤخرته، وتشمل امتدادات طويلة المدى للخلايا العصبية. تُمكّننا هذه الشبكة من إدراك المعلومات الحسية ودمجها في أفعالنا، وتنظيم العديد من الوظائف الحيوية كالنوم واليقظة والمشي.
اقترح عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل، روجر بنروز، وطبيب التخدير ستيوارت هاميروف، أن الوعي ينشأ من خلال الانهيارات الكمية داخل الأنابيب الدقيقة لخلايا المخ ثم يتدفق عبر الشبكات العصبية داخل المخ حيث يتم إدراكه. للتوضيح؛ توجد الجسيمات دون الذرية التي يتكون منها المخ في حالتين؛ إما موجية أو جسيمية، والانهيارات الكمية تعني انهيار حالة الجسيم إلى إحدى هاتين الحالتين. ووفقًا لروجر بنروز، فإن الحالة الموجية تنهار تلقائيًا وتؤدي إلى الوعي.
اشار بعض العلماء الي أن العقول الفردية قد تكون جزءًا من شبكة معلومات أكبر، وأن الأحداث الكمومية في المخ متشابكة مع الجسيمات دون الذرية عبر الفضاء فيما يسمى "الوعي الكوني". ومع ذلك، يرفض العديد من علماء الأعصاب استخدام النظريات الكمومية لتفسير الوعي، كما أنهم يرفضون فكرة "الوعي الكوني" باعتبارها فرضيات غير قابلة للإثبات. ولكن هناك تعاطف مع نظريه المجال الكمومي للعقل او "حقل العقل" ، كنموذج للوعي، من خلال اعتبار الوعي حقلًا متصلًا بأنماط تحفيزية، وان العقول الفردية أنماط محلية في مجال العقل الركيزة المستمرة.
يستمد مفهوم حقل العقل بنيته من سمات نظرية الحقل الكمومي كالاستمرارية، والشمولية، والأنماط الاستثارية. وللتوضيح، يتكون الحقل الكمومي من حقول تملأ المكان والزمان (الزمكان)، وان الجسيمات دون الذريه هي مجرد اهتزازات في هذه الحقول ولكل نوع من الجسيمات حقله الخاص؛ فهناك حقل الإلكترون، وحقل الفوتون الكهرومغناطيسي، وحقول الكواركات، وحقل هيجز لبوزون هيجز الذي يعطي الجسيمات كتلتها. ويمكن تخيل الكون كمحيط شاسع، والمحيط هو حقول كمومية، والأمواج على السطح هي جسيمات، والماء الساكن هو الحقول في أدنى مستويات طاقتها، اي عندما يبدو المحيط ساكنًا، يبقى الماء موجودًا ويعني استمرار المجال الكمومي.
لا يدّعي نموذج مجال العقل أن الوعي حقل كمومي، ولا يفترض وجود مجال فيزيائي جديد، بل يستخدم نظرية المجال لفهم ظاهره الوعي والتقاليد التأملية مثل الصوفية والبوذية والتجارب الروحيه . يوضح نموذج مجال العقل ان المخ لا يُنتج الوعي، ويطرح توافق بين العقل والمادة وانهما جانبان لعملية أساسية أعمق. وقد اوضح الفيلسوف العظيم راسل فكره أن الوعي متأصل في المادة، ورفض ثنائية العقل والمادة، وانجذب إلى نظرية ”الواحدية المحايدة“ التي تفترض أن الطبيعة الأساسية للواقع ليست عقلية ولا مادية، بل هي مادة "محايدة" وأن العقل والمادة ليسا مختلفين جوهريًا، بل هما ترتيبات مختلفة لنفس "الجوهر" الأساسي، وإن الوعي ينشأ من هذه القاعدة المحايدة.
تم طرح نظريه الكوسموسايكيزم (Cosmopsychism) التي تفسر الخبرات الروحيه والصوفية، وتفترض أن الوعي ليس ظاهرة محلية تنشأ في المخ، بل هو نمط محلي داخل وعي كوني أشمل، وان المخ لا “يصنع” الوعي، بل يستقبل عمليات كونية واعية، وإن التشابك الكمي يكشف عن ترابط بين الأنظمة، ويعمل النظام المتشابك ككيان واحد مهما تباعدت مكوّناته. هناك ابحاث حديثة تطرح أن التشابك الكمي يحدث داخل المخ، وهناك تزامن بين الشبكات العصبية المتباعدة ليصنع حالة واعية واحدة .فالتشابك هو جسر بين الشخصي والكوني، والانسان ليس “جزيرة وعي” معزولة بل نمط محلي داخل حقل أوسع وأن التجربة الروحية للفرد يمكن ردّها مباشرة إلى التشابك الكمّي.في المقابل، يرى أغلب العلماء أن هذا التفسير ليس استنتاجًا علميًا، بل هو بالأحرى تفسير فلسفي لإمكانية وحدة الوعي. ولا يزال الدليل القاطع على أن التشابك الكمي كافٍ لتفسير الوعي غير متوفر؛ ومعظم هذه النظريات مجرد تكهنات وليست حقائق مثبتة.
هناك ايضا تساؤل عن التخاطر بين العقول والتشابك الكمي، الذي يسمح لنظامين منفصلين عن بعضهما بمسافات شاسعه التصرف كوحدة واحدة. مع ذلك، لا ينقل التشابك الكمي المعلومات والأفكار، بل يربط فقط نتائج القياسات. لذلك يُطلق الفيزيائيون على "التخاطر الكمومي" اسم التخاطر الزائف، ولا يوجد دليل علمي يدعم التشابك الكمي كآلية للتخاطر النفسي. قد يتوافق التشابك الكمي مع التجارب الروحية للفرد، ولكن هذا ليس فيزياء، انها ميتافيزيقا مستوحاة من الفيزياء.
في الختام، يتميز الإنسان بالشعور والتأمل في أفكاره وتجاربه في الوجود، ويتشكل الوعي الإنساني من خلال الأحاسيس الجسدية والحالات البيولوجية. في المقابل، يفتقر الذكاء الاصطناعي، وهو ظاهرة حديثة فرضت نفسها بقوة على حياة الإنسان، إلى القدرة على التأمل والوعي الذاتي، كما أنه يفتقر إلى فهم معنى الضمير.
هذه الخصائص هي التي تميز الانسان عن جميع الكائنات الحية الاخرى، وفي الوقت نفسه تمثل تحديًا للعلم في فهم هذه الخصوصية والوصول إلى جذورها الحقيقية.
***
ا. د. سامح مرقس






