قضايا

أحمد بلحاج: مسؤولية الإنسان الجمالية في الكون

ينبغي أن نستحضر هنا تقسيم أرسطو للمعارف البشرية، فهو قد قسمها إلى ثلاثة أنواع: معارف نظرية، ومعارف عملية، ومعارف فنية جمالية. واعتبر أن غاية الفن تتمثل بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل، بمعنى أن الفن يتحقق في القدرة البشرية على خلق أشباه موجودات. وهذا دفع الفلاسفة بعده إلى أن يضعوا منذ البداية (الفن)؛ وضمنه الجمال؛ في مقابل (الطبيعة) على اعتبار أن الإنسان يحاول عن طريق الفن استخدام الطبيعة لكي تتلازم مع حاجاته، ويُلزمها بالتكيف مع أغراضه. وها نحن نرى على كوكبنا الأزرق عواقب هذا السلوك الوخيمة، من فجائع التسونامي، وغبار بركان إِسْلَنْدَا، وتهديد دُولٍ تقوم على الأرخبيلات بالاختفاء، وتَحولٌ فاجع في المناخ بسبب الاحتباس الحراري. أليس هذا كفيلا بإنذار الإنسان، وتذكيره بمسؤوليته عن كل ما يجري ؟! فهو الذي تسبب بشرهه وطموحاته العمياء في إفساد التناغم الذي كان عليه الكون، وبإرباك الحركة المنتظمة للبيئة والمحيط الكونيين.

إن الحدث البالغ الأهمية، والظاهرة التي تستحق توجيه الاهتمام إليها، والمعطى الأساسي لمصير البشرية في المستقبل، إنما يكمن في الإنسان بمسؤولياته الكونية. فالبشرية أخذت تملك قدرة عملية على أن تمسك بيدها زمام مصيرها، ومصير قسم من العالم الذي تسكنه، فالكرة الأرضية؛ على المستوى الإنساني؛ هي اليوم في متناول نشاطنا العلمي، من حيث سرعة المواصلات، وإمكانات التوسع في تزيين البيئة، أو التمنع عنه، وتحسينُ شروط السكن، مما يتحدَّدُ به الآن المستوى الإنساني. وهكذا يبدو أن على الإنسان أن يأخذ بيده المسؤولية الجمالية لملامح الأرض التي يسكنها، مثلما يتحمل المسؤولية الاقتصادية والصناعية والسياسية والتجارية والانتفاعية سواء بسواء، وإلا فإنه سيبقى شقيا مهما أوتيَ من رفاهية مادية، ما دام يُفسد في هذا الكوكب المشترك بين جميع الكائنات من حيث لا يحتسب، ومادامت عينه الجمالية مطموسة.

فأمام هذه الحقائق والتوجهات لا يسع المتأمل في المنحى الجمالي إلا أن يطرح الافتراضات التالية للاستنارة بها أثناء بحث المسؤولية الجمالية في راهن كوكبنا:

الافتراض الأول: يتمثل في ضرورة إدخال الإحساس الجمالي على عملية الصناعة والتعمير، وفي تقدير نتائج الاستخدام العملي للأشياء المصنوعة من كل نوع. إذ بدون هذا الإحساس لن يتم التمتع بالقيم الحقيقية للأرض التي نحيا عليها، وسيبقى الحفرُ المتوحشُ في أعماقها، واجتثاتُ ما على ظهرها بنذالة عشوائية، وتسميمُ أجوائها الفضائية ومحيطاتها، متواصلا إلى أن تحل الكارثة العظمى.

الافتراض الثاني: ينطلق من أنه من غير المعقول، ومن العبث، ومن المؤسف عمليا، القضاء على الأشياء والمعطيات الإنسانية أو الطبيعية التي تحمل قيما جمالية واسعة، وإنْ يكن في سبيل منافع عملية ملموسة وآنية. كما أنه من المؤسف التغاضي عن التنبيهات والتحذيرات التي يطلقها الإحساس الجمالي ضد أي هدم، أو تخريب، أو إهمال، تقوم به الإدارات العامة، أو المؤسسات الصناعية والتعميرية في أمة ما، وضد أي تفريطٍ في تدبير الثروات الطبيعية والإنسانية الحقيقية بأي وجه من الوجوه.

الافتراض الثالث: يعتبر أنه من الخطأ؛ الذي هو أفدح من الجريمة؛ تصور أن بالإمكان الحيلولة دون العمل على إشباع الحاجات الجمالية الأكبر لقسم من جمهور البشرية في الحاضر والراهن، أو في المستقبل القريب، بترك المحيط الإنساني يغوص في مظاهر القبح، أو ينحدر إلى هاوية التدهور الفني والعملي. إنه تصور لا يرى العقاب المتربص به، ولا المآل الفاجع الذي ينتظر كل تصور مثله يضرب بالعمق الروحي للجمال كأفق مشترك للإنسانية.

هذا الأفق الذي تقرأه هذه الرؤية يلتقي فيه الإنسان والعالم، باعتبارهما منبثقين من هوية جوهرية أصلية هي الهوية الجمالية المطلقة الجاذبة لهما والمهيمنة على كل الهويات. وذلك لأن الحق له امتدادات أسمائية وصفاتية لانهائية، وهذه الامتدادات لها أثر، وهذا الأثر مظهر لجمالها وكمالها. وما ثَم موجود إلا وهو مَظْهَرٌ لجمال الحق، فالموجودات بأسرها من حيث الإطلاق مظاهر لأسماء الجمال بأسرها، إذ ما ثمة اسم ولا وصف من الأسماء والأوصاف الجمالية إلا وهو يعم الوجود من حيث الأثر عموما وخصوصا. فلماذا إذن يُفجر الإنسان أنانيته كقنابل نووية في الطبيعة والكون غير عابئ بالهوية الجمالية المطلقة التي أشرنا إليها؟!

لقد اهتم بحاجاته، وسعى بقوة إلى إشباعها على حساب الموجودات الأخرى. لم يتساءل قطُّ عن حاجات الطبيعة والكون، فهو قد عزل نفسه عنهما، مع أنه في العمق ليس سوى ذرة من نبضهما. وهذه الرؤية تروم إبراز الجمال الكوني الفائض من كلِّي الجمال، وبثَّه في الناس ليحسوا به، ويتأثروا بمفاعيله، ويميزوا بينه وبين الجمال الاصطناعي الزائل. وكلمة استيطيق Esthétique ـ التي أطلقها الفيلسوف الألماني بُومْجَارْتِينْ على علم الجمال ـ لا تخرج عن هذا المنحى، فهي تحمل قيما غائرة في الوجود الإنساني ترتفع إلى مستوى الإطلاق والتجريد. ولهذا نجد أفلاطون في المحاورات والمأدبة يوحد بين الجمال والحق والخير، ويقرر بأن له لذةً خالصة لا يخالطها ألمٌ على الإطلاق، إذ من طبيعته وجوهره أن يولد السعادة، وكل ما وَلَّدَ ألما وبؤسا فهو لا يمت إلى الجمال. فالإحساس بالجمال عامل من عوامل تسريع الكمال الإنساني والوجودي، وكلما تعمق الإنسان فيه حقق التناغم بينه وبين نفسه، وبينه وبين الكون. وهذا هو سرُّ الجمال الذي يجعل للمتعة صفة النزاهة الخالصة، التي لا تشوبها شائبة من أغراضٍ أو نفعية أو مصلحةٍ.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

في المثقف اليوم