قضايا
أنور ساطع أصفري: التنمية البشرية.. عبقرية اقتصادية لتسويق الأمل في زمن البطالة

في المقام الأول نستطيع أن نؤكّد أن البطالة في العالم تُعتبر من أخطر ما يُواجه الإنسان، والتي تترك بصمات سلبية تؤثّر على حياة الفرد واستقرار المجتمع.
ولا تزال هذه الظاهرة رغم محاولات القضاء عليها تترك آثارها السلبية على الفرد وعلى المجتمع. آخذين بعين الإعتبار أن الحروب وعدم تقديم الدعم لقطاع الأعمال من قِبل الحكومات، وإهمال جانب التنمية البشرية، وتلاشى دورها على الوضع الاقتصادي وبشكلٍ مباشر في المجتمعات التي تُحاول التطور والتقدم والسير في ركب المجتمعات الأخرى، إلاّ أنها وباعتبارها من المجتمعات النامية، فإن المطبات أمامها، وكثيرٌ من الأمور تحتاج إلى بترٍ وإلى إصلاح، ومراجعة مجمل الخطوات المعمول بها.
وهناك أسباب أخرى للبطالة واستفحالها منها: غياب دور التنمية الاجتماعية، وإهمال جانب التعليم والتوعية، والتزايد المتسارع في عدد السكان، وفشل الشباب في الحصول على فرصة عملٍ مناسبة، وهذا ما يُسبب اليأس والإحباط بين صفوف هذه الشريحة من المجتمع على الأقل، وغياب الإهتمام بالدراسات الاستثمارية، التي تهدف إلى استيعاب أعدادٍ كبيرة من المستخدمين والعمال والموظفين، وتخفيف فجوة البطالة السائدة.
ومن أجل تجاوز هذه الحالة المأساوية لا بُدّ من تخصيص معاهد مهنية متطورة تفتح المجال أمام الشباب فرص العمل وفق اختصاصهم.
كما لا بُدّ من بتر الإعتماد على العمالة الأجنبية، والاعتماد على العمالة الوطنية المحلية فقط، من أجل الحدّ من البطالة المسيطرة على الواقع المُعاش.
كما لا بُدّ من تشجيع المبادرات الفردية، وحالات الإبداع في مجال العمل الحر، ودعم كافة عمليات التعليم للقوى العاملة، وتسليط الأضواء على التعليم المهني، والذي من خلاله تتم المشاركة الفعلية والفاعلة بين القطاعين العام والخاص.
إن التنمية البشرية قولاً واحداً لا تستطيع أن تأخذ دورها في ظلّ نظامٍ سياسي متخلف وقمعي وفاسد.
حيث أن التنمية البشرية تُمثّل بصريح العبارة العملية التي تعتمد على " الإنسان " بهدفِ تطوير قدراته، كي يصلَ من خلال مجهوده الفردي إلى مستوى معيشي يضمن يضمن كرامته وعزّة نفسه ، والمتعة في إحترام الذات، وضمان حقوق الإنسان.
كما تؤكّد التنمية البشرية أن البشر هم الضمانة الحقيقية للأمم وثروتها.
أمّا المطبات التي تُعيق أو تواجه مسيرة التنمية البشرية يُمكن اختزالها، وتؤكّد أن المشاكل التعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، والمشاكل السياسية، والوضع الاقتصادي، والحالة النفسية والصحية للأفراد، تُعتبر جميعها من أبرز معوقات التنمية البشرية.
إنها التنمية التي تساهم في التقدم والنمو المتصاعد، وتحسين المعيشة الإنسانية، وتنمية حالات الإبداع والمهارات التي تلعب دوراً فاعلا ً في تحسين حياة المجتمعات، إضافةً إلى ذلك نأخذ بعين الإعتبار أن التنمية البشرية ساهمت في إفادة عشرات الآلاف من الأُسر من خلالِ تمويلها واعتبارها أُسر منتجة.
إن التنمية البشرية تلعب دوراً فاعلاً في تحسين حيثيات الحياة من كل جوانبها، من خلالِ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والتي بدورها تُحقق تقدماً شاملاً في شرائح المجتمع.
1 - ونرى في الجانب الآخر، أن هناك كثيرٌ من الكتّاب يتلاعبون بمصير الفرد من خلالِ ترويجهم لكتبٍ كثيرةٍ وتكتظ بها المكتبات، مليئة بالنصائح وضروب الأمثال، وتحمل مفاتيح النجاح والفوز في الحياة.
ومثل هذه الكتب تجعل المرء يشعر بوقتٍ طريفٍ مليء بساعات الاستغراق في التفكير في صومعة الخيال، والتحليق في عالمِ الأمل والخيال المليء بالأحلام.
بنفس الوقت نؤكّد أن الأوهام تلعب دوراً كبيراً في حياة البشر، على الأقل تبعدهم عن الحقيقة التي قد يكون لها تأثيراً سلبياً على الإنسان، لذلك نراهم ومن خلالِ الأوهام يستطيع الفرد أن يُجسّد حقيقةً خاصّة به.
الوهم والاعتقاد به يبعثُ أحياناً الثقة عند الإنسان، ويُوحي له أيضاً بالنجاح، لكن حياته تبقى غير واقعية، وبالتالي يميل إلى التمسّك بالسخافات والأوهام، بعيداً عن مواجهة الحياة بحقيقتها.
2 - إنّ الساحة العربية مليئةٌ بالكتب التي تبيع الأوهام والأباطيل، وبكلِ تأكيد الهدف الرئيسي لانتشار مثل هذه الكتب في بلادنا هو لإبعاد الأجيال عن الحقيقة، وعن النمو الإيجابي، وعن الإبداع والتألق والتقدم، كي نبقى على الدوام في حالةٍ من التخلّف والجهل الذي لا يُفارقنا.
وبكلِ تأكيد إن التبعية والفساد حتّى التواطؤ، هو الذي فتح بلادنا وجعلها أراضٍ خصبةٍ لتلقي هكذا هراء، وهكذا معرفةٍ مُزيّفة.
حتّى هذا الزيف وصل إلى إبداعنا الفني بكلِ مجالاته، بهدفِ الهروب إلى الوراء، وبذلك أصبح الفن في كلِ مجالاته فنّاً هابطاً بإمتياز.
كما أصبحت مشاعرنا هابطة ومُزيّفة، حتّى مشاعر العشق والمحبة، تماماً كما الأداء السياسي والاقتصادي، وكأننا أصبحنا في عالمٍ يعجّ بتخمةٍ بكلِ ماهو باطلٍ وغير حقيقي، وكلّ الأمور أصبحت تصبّ في الهراء والخيال الخاص بنا.
3 - هناك ركائز أساسية لتحقيق التنمية البشرية، ولعلها وفي المقام الأول: النظام السياسي الديمقراطي، ومقدرة المؤسسات على التنظيم والتخطيط الراقي بعيداً عن الفساد والمكاسب والمحسوبيات، والنظام الذي ينطلق من أساسيات حقوق الإنسان والعدل والعدالة والمساواة، والنظام الذي يُراعي الواقع الصحي ضمن حدود الرعاية الكافية، ومقدرة مؤسسات الدولة على التعامل مع التقنيات المتطورة والحديثة، والتي ستكون رديفةٌ أساسية لمقوّمات التنمية البشرية.
إن التنمية البشرية تهدف إلى تنمية مهارات الفرد وإبداعه وقدراته، وبالتالي تتم تنمية واقع المجتمع، وواقع الدولة، إن كان على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي والفكري، وجعل أي إنسان ممتلكاً مقدرته وتطوير ذاته، وتغيير حياته ومعيشته نحو الأفضل على كافة الأصعدة، المالية والنفسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الإرتقاء بنفسه وسط محيطه وفي مجتمعه.
مع الأسف إن معظم الأنظمة العربية تُحارب الإنسان، وتضع العديد من المطبات أمام فكره وثقافته ومهاراته، حتّى أمام وضعه النفسي والمعيشي والصحي.
لذا نرى أن الواقع العربي المُعاش لا يتناسب فعلاً مع عوامل وأساسيّات التنمية البشرية، التي يجب أن تأخذ دورها في مُكوّنات المجتمع العربي.
المنطقة العربية تفتقد إلى العدل والأمان، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين، ومبادئ حقوق الإنسان، وحقوق الطفل وحقوق المرأة.
في البلاد العربية تنتشر بشكلٍ واضح البطالة المُقنّعة، وتنتشر سياسة الإقصاء والتهميش وسياسة الرأي الأوحد.
وإذا فعلاً أردنا أن نلج فعلاً درب التطور العملي علينا أن نفسح المجال الإيجابي للتنمية البشرية لتأخذ دورها الفاعل في مجتمعنا، من خلال إجراءاتٍ فعلية لا بُدّ منها، وفي المقام الأول مراجعة كافة خطاباتنا السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والفكرية والتربوية، واستبدالها بخطابٍ يتلاءم مع الواقع الدولي المُعاش، ومع التطور والرقي والتقدم لمعظم دول العالم.
و بدون هكذا خطوات يبقى إعلامنا وواقعنا، وتبقى خطاباتنا وشعاراتنا مجرّد أحلامٍ وأوهامٍ ليس إلاّ.
4 - من خلالِ المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي، وواقع هذه المجالات، تُقاس التنمية البشرية، حيث أنها أي التنمية البشرية هي كُلٌ متكامل، وشاملة ومتكاملة، ومترابطة فيما بينها، وهي التي تستحضر الإمكانيات البشرية والمادية من أجلِ تحقيق التحوّل الجدّي في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري.
لأن التنمية البشرية بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مُشاركةِ أبناء المجتمع لإكمال مسيرتها حتّى نهايتها.
وفي هذه المسيرة البنّاءة يتطلّب من الدولة إجراء تحوّلٍ جاد، بعد مراجعةٍ نقديةٍ وموضوعيّةٍ لواقعها، وتأسيس هيئة بحوثٍ علمية فاعلة، تُشارك في مجريات أمورها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والدراسات العليا، ومراكز الأبحاث بمختلف توجّهاتها واختصاصاتها، بهدفِ استقطاب الكفاءات العلمية.
ومن ثُمّ الاعتماد على قاعدةٍ علميةٍ متكاملة متوافقة، لتشجيع الأبحاث العلمية وحلّ مشاكل المجتمع المختلفة من كل جوانبها، إن كانت اقتصادية أم سياسية، وإيجاد آليات نشطة لحلّ هذه المشاكل وبترها.
التنمية البشرية لا تستطيع النشاط في بلدٍ يُعاني ولم تنتهي مشاكله بعد، إن كانت داخلية أو مشاكل كبرى يُعاني منها.
الوطن لا يستطيع أن ينهض كما المجتمع، من دون توفّر آلية سياسية وإرادةٍ سياسية تتحمّل مسؤولياتها، من أجلِ الدعم المعنوي والمادي وتوجيه مقدرات الدولة، من خلالِ عمليةٍ مدروسة، تضع الأمور في نصابها السليم. في مجال التعايش الإيجابي في المجتمع، وبتر الإقصاء، وتفعيل دور المشاركة، وتأمين العدالة والإنصاف،ة وتحقيق مبادىء حقوق الإنسان، ومنحه أسباب معيشته وكرامته، وتأمين مستوى معيشي لائق لأفراد المجتمع، وعدم التمييز بين كافة مكوّنات المجتمع.
لأن الإنسان هو الفاعل الأساسي في مجال التنمية البشرية وخاصّة في المجال الاقتصادي، وبالتالي تأمين وتوفير الرخاء للفرد وللمجتمع وللدولة، حيث أن التنمية البشرية تهتم بشكلٍ مباشر بمستوى النمو الإنساني، وتنمية قدرات الإنسان إن كانت بدنية أو عقلية أو نفسية أو اجتماعية.
كما تعني التنمية البشرية كعملية باستثمار الموارد والمدخلات والمخرجات، وبأي نشاطٍ اقتصادي يُوفّر الثروة والإنتاج الهادف، لتنمية قدرات الإنسان من خلالِ كامل الاهتمام ببنية المؤسسات وتطويرها والانتفاع بقدراتها لدى أفراد المجتمع.
مع كامل إيماننا بأن المواطن العربي موهوبٌ ومبدع وباستطاعته الإبداع في تحقيق إنجازاتٍ علمية رائعة، ومن أجل هكذا تنمية لا بُدّ من إجراء المزيد من الإصلاحات لكافة مؤسسات الدولة، وخاصّة الجانب الإداري، بهدفِ تهيئة جيلٍ جديد مبدع ومهني، وفرز العناصر الشابة المتميّزة فنّياً كي تكون في المقدمة، في المواقع الانتاجية في المجال الصناعي والقطاعات الاقتصادية ومجالات الثروة الباطنية الحيوية في علاقتها مع مجال الاقتصاد، الذي هو في حاجةٍ ماسّة إلى تهيئة مستلزمات التنمية البشرية الشاملة في البلد، وفق خطةٍ علمية وبسقفٍ زمني مُحدد.
كما لا بُدّ من الإشارة إلى أن أحد أهم حقوق الإنسان هو الحق في تقرير المصير، وهو واحدٌ من قواعد القانون الدولي الأساسية من أجلِ إقامة العلاقات الوديّة بين الدول والتعاون فيما بينها.
وحق تقرير المصير هو حقٌ مؤكّد للسكان في الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي.
علماً أن مفهوم حق تقرير المصير يعود تاريخ ظهوره إلى فترة الثورة الأمريكية عام 1776، ومن ثُمّ الثورة الفرنسية 1789، والهدف الأساسي منه، تمكين الشعوب من التخلّص من الأنظمة السياسية التي تنتهج القمع والإستبداد.
كما لا بُدّ من حق تقرير مصير الفرد، وكمال ذاته، واحترام استقلاليتها، إن كان في المجال الفكري أو الجسدي، وضمان الحريات الفردية، ونشر الحريات السياسية والعمل الحر، والمواطنة المتساوية بين كل مكونات المجتمع وتحقيق الضمان الاجتماعي بشكلٍ عادلٍ وإنساني.
وأحياناً كثيرة نرى أن حق تقرير المصير بشكلٍ عام أو الفردي، مع الأسف مرتبط بالموافقة الخارجية مؤسسات ودول، وتدخلات الدول الكبرى في هذا المجال، وبذلك نرى أن حق تقرير المصير مرتهن برأي الجهات الخارجية التي تنشط وفق أجنداتها ومصالحها بعيداً عن القومية والدولة والسيادة والجغرافية.
إن عملية التنمية البشرية ستبقى شبه فاشلة في بلادنا العربية لسببٍ رئيسي هو الفساد المتفشّي المستشري في كل مؤسسات الدول، وسيطرة حيتان الفساد على مراكز القرار، وفقدان الحريات والحقوق، وانتشار الحقد والكراهية.
ولكي نخطو الخطوة الأولى في الدرب السليم نحو التنمية البشرية لا بُدّ من مراجعة كافة خطاباتنا السابقة وفي كافة المجالات، والإعتماد على برنامجٍ وطني سليم، وبتر الفساد وحيتانه، وإطلاق الحريات، وفسح المجال أمام المجتمع المدني، والعمل على ترسيخ مبادىء حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وتطهير إدارات مؤسسات الدولة، وفسح المجال أمام المواطن ليكون بعيداً عن الإقصاء أو التهميش وليكون فاعلاً في المشاركة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي البلاد، والعمل الجاد والجريء في ترسيخ سياسة التداول السلمي للسلطة.
***
د. أنور ساطع أصفري